برفقة عوالم شربل داغر في كتابه الجديد: “أيها الهواء، يا قاتلي”

  سوزان جوهري

 

القراءة متعة وتسلية وشغف وشحن حياتنا بحيوات متخيلة. كلها مجتمعة اختبرتها في قراءة كتاب الشاعر شربل داغر.

جمع بين شعر اللحظة وتصفية حسابات مع الذاكرة وإعادة إحيائها.

يعتقد الكثيرون أن التأمل يتم بإغماض العينين والاستماع والإصغاء لصوتنا الداخلي، لكن الشاعر داغر يتشافى وهو يحدق، ويستشعر التفاصيل ويلتقطها

بحدسه، ويحولها إلى مشهديات متخيلة ومذهلة، ويجسد اللحظة قصيدة كما تلقاها من المستوى الأرهف، فيتحرر منها وينتقل إلى أخرى.

يظهر جليا ما شغله في كتابه من تأثيرات وتداعيات وباء الكورونا بقصائده:

“يا حياة اشتقت إليك”…

كانت السلاح الذي شهرَه لتحديها بقوله في أحد مقاطعها:

“لن يبقى دائما إصبعي.. سأكتب به لكي أهرب خوفي من مهاوي الألفاظ. لكي اشغل نفسي بما يجدد الشعور بالحياة.

لا وباء في الكلمات، بل مناعة،  إذ تجند قوى الخيال أرحم من المسعفين، ولها عيش أجمل من حياتي في مثل هذه الأيام، التي تحيلني إلى هشاشتي، إلى غيابي. يا حياة اشتقت إليك…”.

يضم الكتاب ما يقارب مئة وسبعة عشر نصا بين قصيدة وومضة غنية ودسمة. كتبتُ قرب كل منها ملاحظة صغيرة فكانت “ما أجملها” هي الطاغية.

العناوين كثيرة ومتنوعة ضمت إلى جانب الكورونا والحجر انفجار مرفأ بيروت، والشغف، واستدعاء النوستالجيا التي تعيد إحياء ما تبقى من إمكانية للحياة…

كتب قصائده في أحوال تأملية يشاهد نفسه ويحكي تفاصيل وكأنه خارجها.

يلتقط اللمسة، البسمة، الصوت، الإشارة، وذلك الرنين الذي اعجبني استخدامه للنظر والماء…

خلال القراءة حاولت تفكيك المشهد ودراسته ثم جمعه. توقفت أحيانا عن المتابعة. فبعض القصائد يجعلني أشعر بالامتلاء، واتوقف لأبدأ بأخذ جرعتي الجديدة…

لم يردع الوباء  الشاعر  داغر عن عيش ما يرغبه. كيف لا وهو يمتلك غيمة تأخذه إلى فضاءاته المتخيلة، وتساعده على عيش قصص حبه عن بعد، ما دام القرب قاتلا…

يقول في قصيدته “ايها الهواء، يا قاتلي” (التي تعتبر كوثيقة تجسد هذا الزمن الرديء) :

“جاري عدوي …

حبيبتي اخاف الاقتراب منها…

من يلمسني، يعتدي علي…

من أمسكُ كتابا بعده، ينتقم مني…

ارجوكَ، احتفظْ بمسافة متر مني.

لا تجتمع باحد، لا تُقبل أحدا، لا تلمس يد احد،

كن حذرا مما يتقدم صوبك، أو يتوجه للجلوس قرب كرسيك…

الطائرة لا تنتظرك: تتمرن على الطيران ليس إلا، مخافة أن يصيبها الصدأ… لن تنتظرك،

ستنتقل بعد التمارين إلى المتحف.

لماذا السفر؟

هل من الضروري التنزه، أو الجلوس في مقهى؟ انظرْ إلى الفراشة، وابقَ في كرسيك

فالهواء يكاد لا يكفيك…

انسَ ما كان عليه العيش…

انسَ صراخك الأول!

أيها الهواء، يا قاتلي”.

فاجعة انفجار مرفأ بيروت الموجعة على الشاعر كما علينا جميعا اخذت حيزا مهما في قصائده مثل:

“هذا الساعد الذي خرج مقطوعا من الركام”،

التي يقول فيها: “كما أن العينين تطالعان فيما تريان… أبجدية الغبار”

او “وجدوا في الركام اسنانا حليبية”،

او “ما لا يضمره الركام”،

او “ابيض قلبي لا بحر له”، التي يقول فيها :

“ابيض قلبي يفتح سطوره لسواد بيروت”.

حكى عن وجع بيروت بأطفالها، وكبارها، وأحجارها، ومحاولة اقتلاعها من جذورها…

ما لفتني انه ورغم الوجع العميق، إلا ان كتابة داغر تحمل في طياتها طاقة، ربما هو لا يعي وجودها، لكنها ترفعنا، ولا تجعلنا نغرق في الحزن.

كأنه يستدرك الأمر ويقرر الانتفاض على حزنه ويتنقل بين اللحظة والماضي وما يشتهي ان يعيشه بحرية متجاوزا الزمان والمكان حتى انه استدعى ابتسامة هند رستم المدلوقة على الواجهة الخشبية…

للطبيعة حصتها في قصائده:

“لو أنني شجرة لزّاب”،

“حديقتي في مرامي النظر”، التي يقول فيها: “شعور ما لا يتلقاه العابر والغافل

بل المتمهل في تذوقه لرنين النظر ، ووهج الصوت،  وتكور الأشكال في الزهر”.

“بعد الغروب بقليل” الرائعة…

قصائده تتميز بقربها منا وكأننا متواطؤن معه على مرافقته في عوالمه المتخيلة.

عناوين كثيرة تتوالى بتلقائية ودهشة واسترخاء ومشاهدات لا تخطر إلا في بال شاعر  متأمل ومجبول بالتلذذ بالتفاصيل وحياكتها قصائد.

كما في:

“ما قالته القميص لحبل الغسيل”

وفي قصيدته “لا احن من الشعر”:

“لا أوحش منك إلاه!

تمهلْ في استدامة النظر الى ما يمر

في خفيته في انتظار المؤانسة”.

أوافق الشاعر شربل داغر باننا لن نحيا الا بالشغف، وعلينا التمسك به، باحلامنا وانفاسنا، وأفكارنا، وكل ذراتنا…

واختم بومضته؛ “لو تَمُتْ الرغبة، أمُت”.

شكرا لك على ما اضفته إلينا من جمال الشعر والإحساس الحي.

اترك رد