(من الكتاب الفكريّ السادس “أفكار خارج العزلة”، يصدر عام 2022)
لا أنتظر أن تكمل الأرض دورتها، قبل أن أشهد بالحقّ.
لست أملك الحقيقة كاملة، لأنّها نسبيّة، ولكنّني لا أملك أيضاً صمت القبور.
ففي مجتمع يسوده الكذب والرياء، عليّ أن أكون شجاعاً، لأنّني سأبقى في المواجهة وحدي، أو مع قلّة من المغامرين. نحمل الخطر على أيدينا. نحمل النار في عيوننا، ونمشي على حدّ السيف.
نحن طائفة من الخارجين على النظام. يكرهنا القانون والمشرّعون، ومَن يريدوننا أن نرضخ للمنطق السائد. ونحن من قبيلة متمرّدة، لا تلوي رماحها، ولا تصدّق أنّ الكذب فضيلة.
لا أقتنع بمبدع كاذب، أو سارق أو مزوّر. ولا أصدّق الذين يتكابرون ويشمخون عالياً، ولو وُضعت أعمالهم في الميزان، لانكفأوا على أعقابهم خائبين.
تكون الشجاعة في الحرب والسلم، في المرض والسلامة، في معاندة الألم والانتصار على الشهوات، ونحن ننتصر بالحكمة لا بالتهوّر، بالمعرفة لا بالجهل… بالمنطق لا بالفوضى. والشجاعة هي الجسر الذي ينقلنا من الزيف إلى الفضيلة. فليكن المجتمع زائفاً، ولنكن نحن صادقين، ولو خسرنا كثيراً من الناس، وبقي معنا القلائل. فالمرء لا يعيش ليومه، بل لغده، ولمستقبل بعيد.
***
تراءى لي أرسطو عابراً في المدينة، فأوقفته، وسألته: كيف تعيش إلى الآن، وأنت ميت؟
أجاب: الصادقون يعيشون في صدقهم، والمنافقون يموتون في نفاقهم… أعيش لأنّ الشجاعة عندي، وهي احتمال الألم والموت… فمن النبل أن أحتمل، ومن الوضاعة أن لا أحتمل.
سألته: هل هذا هو حدود الشجاعة والمواجهة؟
قال: لا… الموت هو الحدود. والتضحية بالحياة نفسها من أجل القيَم هي حياة لا تنتهي… يمكنك أيّها الباحث عن المعرفة أن تكسر قنديلاً، بل ألف قنديل، لكي تطفئ النور، لكنّ الصباح سيعود حتماً… لقد كانت شجاعتي في مواجهة الموت من أجل الحقّ ولادتي، وعندكم أنّ المسيح نفسه قد فعل ذلك… فكلّ شجاعة لا تصدر من العقل والقلب معاً، ولا تكون من أجل التغيير، تكون ناقصة.
وقال سقراط أيضاً: بئساً للفلاسفة الذين دعوا الفقراء إلى الخضوع، والبائسين إلى الرضى بحياتهم! هؤلاء الفلاسفة يطلبون العدم للمُعدمين، والحياة للظالمين… وقبحاً لمَن يطلبون أن تكون المرأة خانعة، فالمرأة التي لا تسمو بالحقّ هي جسَد يسير على قدمين.
قلت لسقراط: أنت كنت معلّمي، قبل الذي أرسل تلاميذه ليكونوا كغنم بين ذئاب… ولئن جاعت الذئاب، وكثرت الجروح التي تغطّي جسدي، فإنّني مؤمن حقّاً بأنّ كثيراً من الوحوش الضارية تخاف من المواجهة، وترتدّ على أعقابها أمام الكلمة الحقّة.
***
(*) جميل الدويهي: مشروع “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني 2021