يتجلى التعبير المرن في لوحة الفنان «منير العيد» (Mounir el Eid) من خلال الموضوعات التي يطرحها تبعا للخيال الابداعي الذي يعتمد على عناصر واقعية تتحد لتعطي مشهداً مغايراً يستند على التأثير البصير والحسي المتداخل ضمن خطوط موزونة، ومرتبطة بإيقاعات تساعد على التحكم بالتكوين المنحسر في معنى التباين أو الأحرى منح المعنى صيغة فنية تشكيلية ذات مؤثرات حسية، وقيمة تراجيدية تتوازن مع التنوّع الذي يفرضه دون ملل، ويساعد في خلق إيحاءات تتجدد معها الأشكال التي تحظى بجذب الانتباه إلى الداخل حيث حركة التضاد بين الألوان والأشكال تنبثق من قصة «ام عزيز» والأبناء الذين اختفوا وماتت وهي تبحث عنهم دون جدوى، ليضعهم ضمن شكل ساخر لا يخلو من وجع بصري لحقيقة مرّة، وبأسلوب جمع بين المعاناة الحياتية وصعوبة الصمت رغم تضخيم الأشياء، كالعين والفم وبانتقاد فني يتمتع بطبيعة ألوان مفتوحة على الضوء، ضمن ما تكتنزه الحركة من تفاصيل ساكنة، إلا انها قادرة على منح اللوحة انفعالات موزونة من حيث التناقضات والايحاءات، والتناغم بين تصورات المعنى، وتلك المرتبطة بالمخطوفين من أبناء ام عزيز والفجيعة التي تؤلم الحواس كلها، وتصل الى العمق اللوني المؤدي الى روحية القضية المرسومة بصورة تتصارع معها نارية وبرودة الألوان، ضمن المعايير الفنية المؤدية الى الاشتعال الحسي للتعاطف مع قضية إنسانية محقة تنتمي لامرأة رسمها بخطوط تجمع بين انعكاسات الألوان واتجاهات النظرة الجامعة للأبناء من الداخل والخارج، وفي عين منحها من اللون الأحمر ما يضفى على المعنى الكثير من الحزن رغم قوة التعبيرات الأخرى، القادرة على اختصار معاناة ام عزيز على مرِّ السنين. فهل من عناصر فنية محيرة عند إثارة القضايا المحقة بأسلوب ساخر؟
صورة واحدة تختصر معاناة ام عزيز وتجعل من الخطوط متاهة حركية عبارة عن قيود كثيرة عاشتها تلك المرأة بأسلوب فني جعلنا نتساءل عن السبب والمسبب أو السبب والنتيجة، وضمن منطق جمالية المعنى المرتبط بمبدأ الأشياء الفنية ذات المعاني القوية، والقادرة على تحقيق الهدف المطلوب، وأن تأرجح بين قيمة الوحدة الفنية والتوازن، وبتنوّع محبب حسيا بعيداً عن الفوضوية، إذ يتضح التنظيم المساعد على جذب الانتباه من خلال العناية بالألوان، وبالتكوين الخلّاق الراضخ لترتيب العناصر الأخرى وفق مبدأ المتناقضات، لإظهار إيقاع الأشكال والألوان والأحجام، والانعكاسات والفواتح والغوامق دون تجاهل قواعد الريشة الملتزم بها «منير العيد» في رسوماته الأخرى، وان بدت هذه اللوحة كأنها تستكشف حواس المرأة ومعاناتها في أزمتها القوية. فهل من مبالغة بين كبير وصغير وظل وضوء وانعكاسات لخطوط أخرى؟
صرخة في حركة تشكّل جزءا من موضوع مهم يطرحه الفنان «منير العيد» من خلال ريشته المغمّسة بالمعاناة الإنسانية الناتجة عن إعادة تكوين فضاءات بصرية، لأشكال تتمدد بتجانس هو نبض لوني يميل نحو إظهار القضايا المرتبطة بالمخطوفين، بحيوية الفن المؤسس لبنية فنية تعيد لنا النظرة الفنية ذات المصطلحات الاجتماعية والسياسية، وحتى تلك المرتبطة بالنقد الاجتماعي من خلال الفن التشكيلي وقدرته على إيصال الوجع الإنساني إلى الكل، من خلال التغلغل في المعاني ومنحها موضوعات لا تخالف الجوهر الفني، بل تؤدي الى ترجمة الانفعالات واختزالها ضمن ما يسمّى الكاريكاتوري التشكيلي، والمنظم في عشوائيته الفنية والمحببة الى النفس ضمن قصة الأبناء الذين اختفوا في ظروف غامضة، وربما هم في سجن الحياة الكبير الذي تعيش فيه ام عزيز ضمن لوحة رسمها الفنان «منير العيد» وترك لها عنواناً بصرياً بألف معنى واسم واحد هو أم عزيز.
***
(*) اللواء 9-4-2021
(*) اللوحات من مجموعة متحف فرحات