“أيها الهواء، يا قاتلي”.. القصيدة إذ تصنع الحياة

 

 سوسن جميل حسن

 

الذائقة شأن شخصي، فلكلّ فرد ذائقته تجاه ما في الحياة ممّا يثير لديه أحاسيس وانفعالات وعواطف، وهي بقدر فطريّتها تنمو وتتبدّل مع التجربة وتراكم الخبرات. من هذا المنطلق أستطيع القول بأن ذائقتي الشعرية هي المفتاح الأوّل الذي أتبيّن بواسطتها جمالية الشعر، فأنا ذوّاقة له لكنني لست دارسة حتى لذائقتي، فإخضاعها للدراسة يعني فكّ ألغاز الموضوع الذي تتفاعل معه.. وهذا ما حاولته في أثناء قراءتي للمجموعة الشعرية الصادرة حديثًا للشاعر شربل داغر “أيّها الهواء، يا قاتلي” (دار خطوط وظلال).

منذ العتبة الأولى، العنوان، أصابتني الصدمة والدهشة في آن، بل حتى ظننتُ أنّ هناك خطأً ما، ما دفعني إلى الارتياب في العنوان، قلت ربما يقصد الشاعر أن يقول: أيها الهوى يا قاتلي، فهذا التعبير ارتبط في وجداننا وخبراتنا الموروثة بأن “الهوى” هو الذي يقتل، وقد راكم التاريخ قصصًا وأساطير ومرويات وروايات وشعرًا حول هذا الموضوع، أمّا الهواء فلا يقتل إلّا في فعل جرمي، أو خلل ما في قوانين الطبيعة. لكن عندما تأكدت من حقيقة العنوان حضّرت نفسي لدخول عالم صادم عليّ مسك أنفاسي من عتبته الأولى، حيث يحيل النداء بهذا القرب إلى عتاب موجع، ليس فيه تهديد أو وعيد، بل صرخة ألم لا تقطع حبل الودّ برغم فجيعتها. القاتل هنا هو هواء بيروت بين انفجار مرفئها وانغلاق فضائها بسبب كورونا.

أما العتبة الثانية فهي ما تقدّم القصائد بهذه الجملة: عن المرزوقي: يقول (أبو تمام) ما يقوله من الشعر بشهوته. وهي تحضر في البال كلما توغّل القارئ في القصائد ليلمح ظلال شهوة وتوق لا يكتملان، شغفًا في النقصان لتملأه القصيدة “تمشّيتُ من دون أن أصل، من دون أن أرغب في وصول”، ما يعمّر الطريق الذي ترسم حدوده دهشة المحاولة، “والنهرُ يتقدمُ، مثل الأرجل المتدافعة في شارع المحاولة، إلى بحره من دون وزن، أو قافية”. ويدعم هذا الانطباع ما كتب الشاعر على صفحته الشخصية في فيسبوك عند إشهار صدور مجموعته: “لكن المتكلم في القصيدة لا يقف صاغرًا أمام هذه الإكراهات، بل يكتب بشهوته: بين الهواء والهوى. يكتب بشهوة ما يتيحه الخيال في غيمته: غيمة أشبه بطائرة أو سرير أو وليمة”.

 

على مساحة ما يفوق المئتين وثلاثين صفحة، يمسك الشعر بأنفاسك، تشعر أنك وحيد في غرفة خالية من الهواء لا تسمع حتى صوتك؛ صمت ضاغط تغلّفك به القصائد ينبثق من أعماقك صدى ليس إلّا رجع سجال بين الشاعر ونفسه في عتمتها وعزلتها، فإذا بك تهبط معها في تهاويه طفلًا على درّاجة هوائية، أو مع جياده في عربة مكشوفة، تهجس معه في فكرة الموت أو احتماله، تلهث وراء غيمته، تبحث عن السماء التي باخت زرقتها، تندفع لتحمي صور الطفولة في ذاكرة التهمتها نيران الحدث/ الانفجار. ببساطة يمكن القول إنه يجرّك من عنق عواطفك إلى هواجسه ومباهجه وشواغله، فتحتاج بعد إغلاق كتابه إلى هدنة تتدرب في أثنائها على أن تعيد ترتيب مزاجك وإدراكك وضميرك، لتكتشف أن العيش في هذا العالم المأزوم الموتور العنيف، صار أكثر إرهاقًا واستنزافًا لروحك بعد أن قالته القصيدة بعمق بصيرتها، فأضاءت ما كان مخفيًّا.

من اللحظة الراهنة تبدأ تداعيات الوعي والذاكرة، فترى أن فداحة الواقع ليست فقط بما يتمادى على الحياة في لحظتها، بل بانتهاكه حتى براءة التذكّر “وكيف إن طارت الأجساد من دون أجنحة، ولم يبلغ الصبي حوشَ المدرسة بعد عشية ذلك المساء الصيفي”، فما يحصل أكبر من الفهم والوصف، يلمسه الشاعر في هواء مدينته الذي صار قاتلًا، بين غبار الدمار بعد انفجار مرفأ بيروت، بما خبّأ فيه الفساد وانهيار الدولة من مواد تهدّد الحياة وتسمّم الهواء، “صفقةُ ما يتعاهدُه الموتُ مع الموت فوق أكثر من سجادة، في أكثر من قبو، وفي إهراءات الوقيعة”، وهواء آخر تسلّل إلى فضاء المدينة في تفشيّه المخاتل عبر أجواء العالم، كورونا. “فقط هذا الهدوء الثقيل، ارتطام الهواء بالهواء، وخشية القريب من الأقرب، من الصفيح أو الخشب، من غبار النافذة المشرعة، أو مِا تمدّد فوق قبضات المصاعد أو البوابات أو أطراف ما يصل إليها الهواء…”.

ينظر الشاعر إلى هذا الواقع السوريالي، بل يعيش في لجّته، لكنه يجترع لنفسه غيمتها ولعبتها، متدرّعًا باللغة، ويصير للذاكرة أصابع، وللحدقة أن تلمس الأشياء، فيرسم باللغة هذا الكون المضطرب، اللغة التي تشكل بصمة تخصّه بألفاظها وتراكيبها وعلائقها وبنيانها الذي يغويك بهشاشته، فيستدرجك إلى فك خيوطه لتلتفّ حول وعيك وتربكك الخيوط التي لا يعرف حبكها غيره، الشاعر، بما يلعب كالطفل بشغف المحاولة وروح المغامرة ويعيد تشكيل العالم في قصيدة، عالم يلقيه أمامك باختلافه وتنافره وانسجامه، في احتجابه وسفوره، فلا تستطيع بعدها أن تقف محايدًا، مع نفسك، أو مع الأشياء، أو مع العالم.

تداخل السيرة الذاتية وسيرة المدينة

في هذه المجموعة الشعرية تتداخل السيرة الذاتية وسيرة المدينة، مع تغريبة يدفع إليها ما فات وأسّس لهذا الواقع، وما غزاه من فيروس فرض شروطه وقوانينه، فترى إلى الشاعر يترنّح، أو يتماوج، أو “ينطنط” كما يقول في حوار ما، بين حزم الزمن، يقتفي أثر الشاعر فيه في طفولة كانت لها يدان “اليدان اللتان لي لم تكونا لي كانتا مِمّ يَسبقني مثل استطالة، ما يتعدّاني، من دون نور، أو بوصلة” ليتابع “أصابع، أبجدية من دون معلِّم”.

 

في قصائد تفتح أبوابًا على السرد في محطات عديدة، “لم يكن قد بلغَ علوَّ النافذة في البوسطة لكي يرى”، وقصيدة “دسَّ طبشورةً بيضاء في جيب مريوله الأسود” وقصيدة “دَرج الولد على درج”، اللافت أن كلمة درج الأخيرة بلا تشكيل، كذلك قصيدة “سوق الطويلة” وغيرها العديد. فتتحوّل القصيدة إلى قصة تتمادى مع ما قبلها وما بعدها، وتنحو القصيدة نحو الحركية في رسم مشهدي بديع بالكلمات، ويشعر القارئ أنه يمشي بمحاذاة الظلال، أو على أرض زلقة تفاجئه بالمطبّات، بمراوغة ماهرة وماكرة، حيث يستطيب الانقياد إلى الكلمات والانزلاق إلى دوّامة القصيدة البارعة في جعله يدوخ معها، يشعر بأن المعاني صارت في قبضته، لكنها تفرّ كلّما حاول تلمّسها، هي معانٍ مستفزة متحرّشة طارحة للأسئلة الحارقة التي تعرف كيف تشعل الرأس والقلب معًا، معانٍ تأخذ بالروح إلى البكاء، والنفس إلى الألم، والضمير إلى الارتجاف، وإذ تلحقها، تلك المعاني، وتفرّ من يدك في استدراجها إياك إلى مغارات ومتاهات بلا وصول ولا خروج، تبقيك حبيس فضاءاتها المتغيّرة، تريد لو تسأل الشاعر عنها، عن سرّها وأين تكمن مقدرتها على اللعب بانفعالك، سوف يحيلك إليها: اسأل القصيدة. مثلما لو أن ما يحدث، يحدث معها، وأنه يمكن أن يكون بجانبك يعيد طرح الأسئلة عليها.

مع هذه القصائد تأخذك الدهشة أمام قدرة الشاعر في عزلته، عندما يغلق باب محترفه ويبدأ بنسج الكلمات، يفتح خزائنه أمام الواقع الصادم والهواء القاتل، يذهب بشهوة الكتابة إلى أقصاها، ويلهو باللغة لتكون “مِمّا يتقدمُه ويحنو عليه، مِمّا تُرِيه الرصاصة وهي تلمع من دون أن تنفجر، وتصيب، من دون أن تدمي… كانت تبتسم له، إن مال برأسه إلى كتفه الأيمن، مسقطًا أحمالًا وأحمالًا لا يقوى على رفعها في سكوته الثقيل”، تستحيل اللغة في شعره إلى كائن من لحم ودم، يخاطبها: “أيتها اللغة، يا رفيقةَ قيلولتي من دون نوم، وسيفي الذي بقوة لساني، دعيني أتلمس فروَ اللغة” ويسمو معها وبها فوق أوحال الواقع، بأصوات خافية تخصه وحده “كما لو أن ما أمشي فيه، لا يشتمل على وحله، وقاذوراته، كما لو أنني أتقدّمُ فوق امتدادات لا يبصرها غيري”، حانيًا في أعماقه على الطفل الذي يسكنها “أمشي فأكتب بصحبة الصبي وطبشورته فوق جدار العمر… بعزمِ الحروف في عَوْمها، في رفعها  هياكلَ من غطسوا من دون نَفَس مزيد، في التماعة الصور الوشيكة في ليل بيروت، في بَرْقِها المنير”. هو المطلّ على العالم من شرفته من فوق كرسيّه المقشّش، متواصلٌ مع أولئك اللاهين عن أنفسهم المنقادين إلى إيقاع حياة من دون إدراكهم أنفسهم، مفارقٌ لهم في الوقت عينه، وكأنه يضمر اثنين في داخله، أو إنه يتبصّر ذاته في ذات الآخرين “تراني من دوني، في الدبيب الخفيف لما يجمعني بغيري من دون أن أكون أيَّ واحدٍ منهم”.

مجموعة قصائد مترعة بحوارات الذات واستدراج النفس وسؤالها، فيها خارطة طريق مرسومة بالكلمات إثر اقتفاء الذاكرة والراهن، فيها بوح بلا قيود، فيها شهوة تمشي بمحاذاة الموت وتصنع حياة بديلة، بغيمة “اصطادتني، من تلقاء نفسها. أودعتني في ثناياها، كما في كتاب أبيض مفتوح…” فيذهب إلى القصيدة لا يستدعيها إليه “تومِئ من دون إلحاح، وتَمضي في طريقها من دون إرشادات”.

***

(*) ضفة ثالثة 30 أبريل 2021

اترك رد