استمد الشاعر «عبدالله شحادة» إلهامه الشعري من الواقع بلغة تحيا في شكل إيقاعي منتبّهاً للواقع الاجتماعي والإنساني، مما جعله قادراً على إدراك الواقع بشعر مشحون برؤية يخدم من خلالها القضايا الإنسانية الحساسة، والشديدة التأثير على الإنسان المرهف كاشفاً عن حقيقة عميقة تختبئ خلف الشخصية أو خلف القضايا التي يتناولها في حوار صامت عبر لغة هي مجموعة لأصوات رمزية تسمح بالاقتراب من المعالم الشعرية التي تحقق الإنجذاب، ويرسمها بأسلوب رصين وحرفي في تعدد المعاني رابطا التصوير الفلسفي بالفكرة التي أنطلق منها أو بالجمع بعيداً عن المفرد، ليصل مع سواجع الأرز إلى دائرة لحنية أوسع، ليجمع بين اللامحدود والمحدود بفن شعري مزدان بالتفكير الفلسفي، مشيراً إلى شموخ الأرز وعبقه، وبنسيج انطباعي يعطي من خلاله مقياسا لحقيقة رجل كوني أسس لعلاقات مثالية مع الأفراد من حوله كأرزة صلبة لا تتأثر بمرور الزمن، ليتجاوز الشكل إلى الجوهر والوجود الذي يفرض نفسه في طبيعة هو منها، أي الخوري فرنسيس رحمة.
سعى «عبدالله شحادة» من خلال القصيدة إلى تقلّبات الحياة والومضات الإنسانية التي تمنحها انعكاسات جمالية استحضرها بحساسية نابضة بالقوافي بعيداً عن التراخي اللغوي، رغم أن غوامضه الفلسفية هي من وحي لغة سبكها بالسواجع، ليعطي الفكر الانطباعي في القصيدة قوة ملموسة لصورة غنية بالرموز والاستعارات، وبمجازية أكثر أصالة من الامتياز الشعري معتمداً على نهج سر الوجود للخوري فرنسيس، وبفلسفة شعرية لا تنفصل عن التقارب، لتتساوى معها الانطباعات التي تتولد باحتضان مطلق للخيال، ولقوة الواقع والتكوين الفعلي لقصيدة هي حياة وحقيقة في حد ذاتها نبعت من صفات تألّق بها «الخوري فرنسيس». فهل المحاكاة في هذه القصيدة هي توحيد الصفات في الجوهر اللانهائي للإنسان على الأرض وبعد الرحيل؟
ان الإحتفاء بالطبيعة في قصيدة «معلمي» هو احتفاء بالشخصية التي تناولها بمنطق الوجود الخالد، واضعا كل ما تضفيه الأديان على الإنسان جانبا لمواجهة الموت «بمناداة يا راقداً في ظلال الحور ينشده/ تجسّد الهمسات البكر أسوانا» بمنظور يسمح بالتفكير في الحياة بعد الرقود، ليجذب الإنتباه الى ما قبلها وهي «أن تودعي في ثنايا الترب مفخرة» فهو يعبّر عن مزاياه للاستحواذ على من سار في موكب الأجيال فرحانا من خلال الأثر الذي يتركه المربّي في نفس الأجيال، فتقييم الدور الحياتي في شخصية الخوري يشير الى التفسير الكامل لمفردة معلمي التي منحها قصيدة كاملة تعنى بموت نتج عنه جمالية شعرية عرفانية من حيث حالة الإنسان الذي جمع معنى الإنسانية في فكره «قم مرحب الناس واخطب في مجامعهم/ وانفض عن القامة الهيفاء أكفانا» فتعديل المعاني ينتمي إلى التسلسل الهرمي من سواجع الأرز وصولا الى الضريح وتقديم العرفان للمعلم الذي نتجت عنه هذه القصيدة بغض النظر عن قوانين ترتيب الأشياء التي يتكفل بها القدر في الحياة «آمنت أن يد الأقدار ترقدنا/ حينا، وتبعثنا في الناس أحيانا» فهل البعث هنا هو ما يبقى من أثر للشخصية في نفوس الآخرين؟ أم أن الأثر هو البلاغة والبيان والحكمة وفلسفة الشعر؟
تستحوذ المناظر الطبيعية الانطباعية على القصيدة، للتأكيد على حساسية اللحظة المأساوية لموت الخوري فرنسيس الباقي في معاني القصيدة، ليعبّر لحظة الموت نحو الخلود الأكبر، وبتقنية ذات ملامح تعكس مزاجية الشاعر، وما بقي من اثر معلمه فيه لتحقيق قوة الانتقال من الأنا الى الكل، وبالعكس من الخاص الى العام لإخفاء حاجته لبقاء الخوري على قيد الحياة أو ذلك الألم بالرحيل، وتلك الفرحة بالبقاء خالدا كالأرز الذي بدأ به قصيدته بعيداً عن المبالغة، وحتى عن البلاغة لواقع استبدله بالانطباعية ليبقيه على قيد الحياة. فهل الانطباعية في القصيدة هي لإبراز القيم العليا للمعنى الأبدي لأرزة هي قصيدة ولغة شعرية وكلمة تكيّفت مع الإيقاع وعمق الاحساس الجمالي؟
تشكّل الإستغاثة بوادي الخلد العلاقة الأولية مع الكلمة التي تبقى في حُسن دائم أو الأحرى مع المعلم الخالد في القصيدة وتكويناتها الأخرى التي تميّز العلاقة التوافقية، والتي يمكننا القول عنها أنها علاقة الكلمة بالمعنى، وعلاقة التلميذ بمعلمه بعيدا عن المثاليات الأفلاطونية التي تضع التوصيف مع السواجع التي ذكرها، وبمعادلة نتج عنها الكثير من الابتكارات في المعاني كتلك التي تضعنا أمام هيبة الطبيعة، وهيبة الإنسان معا ليحاكي من خلال ذلك قدرة الله في الخلق وقدرة الإنسان المعطاء في الحياة «يسامر الليل، والأمجاد توقظه، يصوغ منها أكاليلا وتيجانا» فالأمجاد هي أمجاد الله وبراهينه في الطبيعة والكلمة، بعيدا عن الإنجراف الوهمي نحو الطبيعة القادرة على منح الإنسان قوة البهاء، وقوة المنافسة معها باعتبارها الجمال الأول ومع ذلك يتفوّق الإنسان عليها بوجوده «رسالة الأرز، أفكاراً مضوعة،/ فتحت صدر الدنى علما وعرفانا».فالتأثيرات الجمالية في المعاني هي وحي تولّى مسؤولية الحياة لمعلم ترك أثره الحقيقي على الكلمة في هذه القصيدة التي زرعها بوعي تأسيسي ينجم عنه عدة تفسيرات، ورؤى شعرية لا يمكن إعادة صياغتها إلا من خلال المفهوم الانطباعي لقوته، ولاكتفائه بالمعايير الربانية لقوة الوجود، وبفلسفة حقيقية تتجاوز الدلالات اللفظية باحساسها القوي والقادر على تطوير الصور الشعرية وفق المعنى أولا، ومن ثم من خلال الوزن وإيقاعه وارتباطه بالتعابير التفصيلية المقترنة بالشخصية وقوتها الإنسانية في الحياة. فهل الكلمة الشعرية تختزل الجمع في المفرد أم أن للمعلم قوة البقاء على قيد الحياة؟
***
(*) ألقيت في ذكرى المرحوم الخوري فرنسيس رحمة في بشري صيف 21/9/1947
(*) جريدة اللواء 25 آذار 2021