هامش على متن الدكتور مصطفى

 

 أحمد الجمال(*) 

 

لن يتعارض تصنيف رواية مكان وزمان الدكتور مصطفى الفقي في القائمة التي تضم “المستطرف من كل فن مستظرف” للأبشيهي و”الآمالي لأبي علي القالي” مع تصنيفها ضمن مصادر تاريخ مصر المعاصر، وبخصوصية تميزها عن غيرها من المصادر– والميزة لا تقتضي الأفضلية كما يقول أهل الفقه– خصوصية أن يتمتع الباحث المعني بدراسة تلك الحقبة بقدرة النفاذ إلى ما وراء السطور والكلمات، لأن كل ما فيها من نوادر وطرائف وعجائب وحكايات تحتوي معاني عميقة مهمة رغم أنها مضمرة!

ويبدو أن من وراء “تقية” التندر والتفكه أمرًا هو جوهر مفتاح شخصية الراوي، الذي كتب ما نصه: “اعتملت في قلبي وعقلي تصورات ذاتية جديدة عن الحياة والناس والدين، وتساءلت في أعماقي عن سر الكون وفلسفة الخلق، حتى اضطربت لديّ بعض المعايير واهتزت في صراع مباشر بين عقلي وقلبي نوازع الايمان ودوافع اليقين، وتبلورت شخصيتي على نظرية الشك الذي يغلفه نوع من القلق والعجز عن تفسير حقيقة الموت، وربما من هنا تولدت مفاتيح شخصيتي، فكنت شديد الإيمان بقيمة العدل، حريصًا على الانتصار لمفهوم الحق، شديد الحساسية لقيم الجمال، أسعى دائمًا في الخير، وأخاصم الشر، وأرغب- قدر المستطاع- في إرضاء الجميع” انتهى الاقتباس، ويبدو أن تلك الرغبة قدر المستطاع في إرضاء الجميع هي السر من وراء غياب المواقف الحدية الأحادية، ومن وراء محاولة الاجتهاد في إقامة تصالح بين الأضداد والمتناقضات، ومن وراء إلقاء تبعة ما قد يبدو ازدواجية في المواقف والأفكار على الصراع الداخلي بين العقل وبين العاطفة أو القلب، وحتى ينفي الدكتور مصطفى “قانون الصراع” تمامًا فقد وجدناه يقيم المصالحة بين ما يفرضه عقله وبين ميول قلبه.. فالسادات عند عقله رجل الدولة المتفرد بعد محمد علي باشا، وعبد الناصر عند قلبه وعاطفته هو الأثير المتربع على عرش وجدانه!

ثم وكما أن المحب الصب تفضحه عيونه، فإن المتعسف مع سنة الصراع الكونية تكشفه سطوره.. ففي ثلاثة أسطر، ضمن ما كتبه الدكتور الفقي عن محمد حسنين هيكل الجورنالجي، يضع عدسته الناقدة غير المتصالحة على سمة خطيرة تسم أهل السلطة: “..ولم تكن مصر جميعها هيكل، فكان بها قامات كثيرة، ولكنها طوتها الأيام ولم يلتفت إليها أحد، حيث كان أهل السلطة يزعجهم أصحاب الرؤى الثقافية الكبرى، وتلك ظاهرة مصرية فرعونية يعتمدها البعض منهجًا، حيث يأتي ولي الأمر بمن هو أقل منه حتى لا ينكشف ضعفه الثقافي والمعرفي” انتهى.

وهنا أتساءل: هل تفسر هذه القاعدة وجهًا من وجوه طريقة تعامل الرئيس مبارك مع بعض معاونيه؟ إذ يمكن أن نقرأ من وراء سطور نوادر الرئيس وطرائفه، مع سكرتيره للمعلومات والمتابعة؛ أن الرئيس إما أنه مصاب بالسادية أو أنه مستخف بمن يعاونه، حتى وإن بدا انبهاره بثقافته وأسلوبه، أو بالأمرين معًا، لأن حكاية الكلب الشرس وعلقة البطيخة ورحلة ليبيا وغيرها تنبئ عن سادية واستخفاف! ثم، وفي فصل الجامعة العربية، وفيما يبدو أنه تعليق على موقفي السيدين عمرو موسى ونبيل العربي، يوجه الدكتور الفقي سهم مرارة الصراع إلى الهدف مباشرة، حتى وإن لم يذكره بالاسم… “ولكن ليس كل ما يريده المرء يدركه.. ورب ضارة نافعة، خصوصًا أن أداء الجامعة العربية لم يرتفع إلى المستوى القومي الصحيح، ولم يعبر عن الإرادة العربية الحقيقية، إنني هنا في مذكراتي لا أبكي على اللبن المسكوب، لكنني فقط أتذكر وأسجل ما حدث، وأظن أن في حياتي عشرات المواقف التي أتشرف بها.. وأعتز بأنها تعلو فوق هامات المناصب وأصحابها” انتهى.

وهكذا في كلمات، عصف الرجل بكل منهج التصالح وجعل من هامات من استفاض في صفحات أخرى بذكر مناقبهم وتجليات عظمتهم هامات أدنى من مواقفه.. ولا أريد أن أسكب زيتًا، بأن أذكر المعاني المختلفة لكلمة “موقف”!

ثم إن صفحات رواية رحلة الزمان والمكان لا تخلو من قفز على بعض ما اتصل بزمان ومكان الرحلة، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، ثمة قفز على زمان ومكان جذور آل الفقي قبل الاستيطان في البحيرة، فحسبما أعلم، وحدثت به الدكتور مصطفى، أن الجذور كانت على الضفة الشرقية لفرع رشيد بقرية كفر مجر مركز دسوق، ولم تفصح السطور عن لماذا كان الانتقال من الفؤادية– اسم محافظة كفر الشيخ القديم– إلى البحيرة، ثم ثمة تجاهل تام لأحداث تنظيم ثورة مصر وشخصية محمود نور الدين، وورود اسم خالد عبد الناصر كمتهم رئيسي في القضية، وتدخل الرئيس مبارك؟!

وإضافة لتلك التفاصيل الرفيعة أظن أن ثمة قفزًا، على ما أتصور، بحكم اهتمامي بالتاريخ وبالعمل العام معًا، أنه كان ضروريًا في سياق تلك الرحلة، وربما يكون الرد مسبقًا بأن المنهج والأسلوب اللذين اختارهما صاحب الرواية لا يسمحان بالذي ظننته.. إذ المنهج سردي أكثر منه تحليليًا، والأسلوب خفيف بالمعنى الذي يختلف عن سطحي وعن مستخف، وهو ما يقابله بالإفرنجية Light على ما أظن.. ظننت أننا سنجد شرحًا- ولو بسيطًا- عن تنظيم “البلاط الرئاسي” في عهد مبارك، لأنني أعلم أن الرئيس عبد الناصر أراد بعد 1967 أن يعيد تنظيم العمل في رئاسة الجمهورية، وطلب الاطلاع على تنظيم العمل في الإليزيه، والبيت الأبيض، ويبدو أنه لم يمهله العمر ولم تسمح له الظروف آنذاك بتطوير العمل على النحو الذي كان يفكر فيه، وللحديث صله مع رواية الرحلة.

***

(*) كاتب صحافي ومؤرخ مصري.

(*) المصري اليوم 24 فبراير 2021.

اترك رد