في روايتها الأولى “وشم الطائر”، والصادرة حديثاً عن دار الرافدين في بيروت وبغداد، لا تبتعد الكاتبة والشاعرة العراقية دنيا ميخائيل، عن متابعة حكايات الإيزيديات ومعاناتهن، في تلك الحقبة التي أطبق فيها “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) الخناق على مناطق عدّة في العراق وسورية، لتحوّل رحلتها التي خرجت منها بحكايات وثائقية عدّة وكتاب يوثق لها، قبل ثلاث سنوات، تحت عنوان “في سوق السبايا”، إلى عمل روائي نجحت عبره في نقل عذاباتهن، كما الكتاب السابق، وكأن دموعهن لا تزال تسيل على الورق، إلى حدّ أن نبضات قلوبهن المرعوبة والمكلومة كانت تدق في أجسادنا، نحن القرّاء، أو هذا ما شعرت به، على أقل تقدير، في استعادة لذات الشعور الذي تملكني مع تقليب صفحات كتابها قبل السنوات الثلاث.
تسلط ميخائيل الضوء على تفاصيل حيوات الأيزيديات، في مرحلة ما قبل وما بعد “داعش”، فتتحدث عن عادات الطائفة اللواتي ينتمين إليها وطقوسهم وحتى أساطيرهم كـ”الحوت الذي ابتلع القمر”، قبل أن تنقل عبر حكاية “هيلين” المفجعة، ما حدث لنساء هذه الطائفة، على اختلاف أعمارهن، بيد من جاؤوا يوهمون العالم أنهم “خلفاء الله على الأرض”.
وهلين، هي ابنة قرية “حليقي” التي تسكن خريطة ميخائيل وجغرافية الرواية، ولا اسم لا على الخريطة الفعلية، كحال المئات من الأيزيديات اللواتي لم يكن لأسمائهن وزن لدى القابضين على أجسادهن، وأنفاسهن، ومستقبلهن، إن نجون من موت تربّص بالكثيرات، بل اصطاد بعضهن.
كانت تعيش هيلين، يومياتها رفقة زوجها الصحافي إلياس، وولديها يحيى وياسر، في الموصل، بعد أن انتقلت من “حليقي”، إثر زواجها، فتحولت صاحبة “وشم الطائر” في “المعتقل”، إلى الرقم (27)، وهو عنوان الفصل الأول للرواية.
“كان أعضاء التنظيم قد أخذوا من الأسيرات كلّ حاجياتهن، بضمنها خواتم الزواج الذهبية، لكنّ خاتم زواج هيلين لم يكن خاتماً، كان وشم طائر. سمعت، وهي تحدّق في إصبعها، أحدهم ينادي بصوتٍ عالٍ (27)، رقم (27).. لم تعرف هيلين في البداية بأن ذلك رقمها. وحين نادى مرّة أخرى، ظنّت بأنه غاضب لأنها خرجتْ من مكانها في الطابور، وركضت نحو أمينة. لم تصدّق عينيها حين لمحت صديقة طفولتها الأعز أمينة، هناك في الجهة الأخرى من القاعة.
وأمينة كذلك فتحتْ فمها غير مصدّقة. لكن لم يدم عناقها الدامع سوى ثوانٍ، إذ جاء صوته الهادر معلناً (27 مباعة)”.
ومن هنا تبدأ رحلة هيلين “في سوق السبايا”، لا يرافقها من ماضيها إلا وشم طائر “القبّج” ذبلتها، والتفكير المتواصل بمصير أسرتها، وبلقاءات المصادفة مع شقيقها المعتقل، وابنيها اللذين يتحوّلان إلى جنود في جيش “تنظيم الدولة”، هي التي تتنقل من صاحب سرير إلى آخر من “الدواعش”.
“المالك” الأول كان يدعى “أبو تحسين”، وقد ابتاعها “اون لاين”، أي عبر الإنترنت، لكنّها لم تعمّر معه طويلاً، فيقرر إعادتها إلى “ذلك السوق الغريب” واستعادة أمواله، لتنتقل إلى مستقر وسرير “مالكها” الثاني، عيّاش التونسي الفرنسي، الذي يكرّر اغتصابها يومياً، قبل أن يُقتل في أحد المعارك.. “من بين مشتريها، عيّاش أحسنهم، خلال الأسابيع الستة التي بقيتْ فيها معه، لم يضربها بتلك الوحشية التي تملأ جسدها بالرضوض، وحينما يغتصبها فهو يفعل ذلك بمفرده، وليس جماعياً. بل إنه يتحدّث معها ويستمع إليها أحياناً”.
بعد مقتل عيّاش، المسؤول السابق في “الحسبة” (شرطة الأخلاق)، تتمكن هيلين بالهرب بمساعدة آخرين لتنضم إلى شقيقها “آزاد” في قرية “المهتدين”، وقوامها الأساس من الرجال الأسرى، حيث يعمل الشقيق كبقية رفاقه في خدمة الحكّام الجدد من ذوي اللحى، وهي ذات القرية التي تكتشف فيها أن ولديها باتا من رجالات “داعش” المتشددين.
“لن نأتي معكم، قال يحيى، أمامنا مهمّة كبيرة، أكبر من العائلة. عائلتنا هي الدولة الإسلامية بكاملها، ونحن نجاهد لكي تنتصر الدولة. باقي أمم العالم تسير وراء المال فقط”.
فيما بعد ينجو الخال “آزاد” من موت محقق، حيث يفر من قرية “المهتدين” بمساعدة سيّده، ليبدأ بالعمل على إنقاذ شقيقته، مستعيناً بفرق إنقاذ السبايا، أو سماسرة الإنقاذ.. تنجح هيلين أخيراً في ذلك، ورفقة ولديها اللذين يعودان عن داعشيّتهما، بعد أن كانا يتدرّبان على قطع الرؤوس، فيلمحان مشهداً في فيديو توثيقي يقلب مسيرتهما رأساً على عقب.
“تردّد يحيى قليلاً قبل أن يتحدث: رأينا شيئاً مروعاً أثناء التدريب. توقف برهة ليستجمع أنفاسه ثم أكمل: عرضوا على الشاشة أمامنا عمليات قطع رؤوس. قالوا علينا أن نتعلم ذلك ونقوم بتنفيذه ضد أعدائنا”… “أخبرها ياسر كيف أنه ويحيى شاهدا إلياس في اليوتيوب. شاهدا على شاشة العرض أعضاء التنظيم يقطعون رأس إلياس، والدم يتدفق من رقبته. المدرّب الذي عرض عليهم ذلك المشهد بدم بارد، قال: أولئك الرجال خونة وكفّار، ويجب محاربتهم هكذا بالسيوف.. وحين رأى المدرّب دموع الولدين، وبخهما قائلاً: الدولة لا تقوم لها قائمة بالمستضعفين، وأنتم رجال، عيبٌ عليكم البكاء”.
وهناك الكثير من التقاطعات، وإن كان السرد الروائي طاغياً بطبيعة الحال في “وشم الطائر”، ما بينها وبين كتاب “في سوق السبايا”، فقارئ الكتاب ومن ثم الرواية، ليس من العسير عليه أن يلحظ جلياً هذه التقاطعات، لدرجة أن اسم “عبد الله” مربيّ النحل في الرواية والكتاب، هو ذاته الذي يعمل على إنقاذ السبايا، وهو ما لم تنكره ميخائيل التي قالت، دون مواربة، في مفتتح الرواية التسجيلية هذه “ليس من قبيل المصادقة توافق الرواية مع واقع ناس يعيشون معنا في هذا الزمان”، وإن كان التطابق في بعض المناطق يصل إلى ما يكاد يلامس العلامة المئوية الكاملة ما بين الرواية والكتاب، فتبدو “وشم الطائر” وكأنها تستنسخ الكثير مما جاء “في سوق السبايا”.
وكان من اللافت، ذلك الرصد لمشاهدات هيلين التي شكلّت مصدراً خصباً للحديث عن مصائر الأخريات، فأمينة، صديقتها الأقرب، تعود إلى زوجها تحمل طفلاً من أب “داعشيّ”، و”ليلى” الطفلة ذات العاشرة تفقد قدرتها على النطق، و”ريحانة” تقتل نفسها في المعتقل بعد أن تناوب العديد من الرجال على اغتصابها (…).
رحلة “السبّية” هيلين، تنتهي كما “وشم الطائر” الرواية، بالوصول إلى كندا، رفقة ولديها، اللذين نفضا تماماً عنهما ما علق فيهما من فكر داعش وطقوسها، حيث تستقر العائلة هناك.. يتعلمون الإنكليزية، ويهرعون إلى أحضان عالمهم الجديد، لكن هيلين لم تنس يوماً أن “الناس في قريتها القديمة يحاكون رقصة الطير الجريح، فيتمايلون بأجسادهم على نغمات الناي الحزينة”.
وإذا ما أردنا محاكمة الرواية، فإنها نجحت في نقل ذلك التدفق الشعوري المرافق لحكايات لأيزيديات، على حساب اللغة وجماليّاتها، مع أنها لم تتفوق كثيراً في هذا النقل عمّا كتبته “في سوق السبايا”، فـ”وشم الطائر” ليست إلا نسخة مزيّدة ومنقحة عن كتابها السابق.
***
(*) ملخص الرواية، مأخوذ عن مقال للكاتبة الفلسطينية بديعة زيدان