صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الهجرة وتشكل النخبة السياسية في لبنان، تناول فيه مؤلفاه بول طبر ووهيب معلوف ظاهرة تشكّل النخبة السياسية في لبنان في العلاقة بشكل رئيس بالاغتراب اللبناني العائد، من دون إغفال دور المغترب المقيم في الخارج، وإن بصورة غير تفصيلية.
من المعلوم أن أدبيات الهجرة في الآونة الأخيرة تجاوزت المنهجية القومية التي كانت سائدة في دراسة الهجرة وبدأت تعتمد بدلًا منها المنهجية العابرة للحدود القومية. وبناء عليه، بدأت الدراسات في إظهار دور المغترب في العديد من جوانب الحياة في بلده الأم في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. غير أن هذه الدراسات نادرًا ما تطرقت بشكل منهجي إلى دور الاغتراب في صناعة النخبة السياسية في البلد الأم وفي إعادة إنتاجها، ولا سيما في بلد كلبنان حيث يقارب عدد المهاجرين ضعف عدد السكان المقيمين فيه.
يتناول الكتاب (أربعة فصول في 208 صفحات بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) هذه الظاهرة بالبحث مستخدمًا الإطار النظري العائد إلى كتابات عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، ومستندًا إلى تقنية المقابلات شبه المفتوحة مع عدد كبير من النخب السياسية اللبنانية ذات الخلفية الاغترابية.
مفهوم النخبة السياسية
في الفصل الأول، “مراجعة للأدبيات بشأن مفهوم النخبة السياسية”، يهدف طبر ومعلوف إلى استعراض المقاربات المتعددة لمفهوم النخبة السياسية إلى يومنا هذا في الأدبيات الأكاديمية، ومناقشة مصادر تشكُّل النخبة السياسية في الأدبيات الراهنة عن الموضوع، وصولًا إلى اختتام النقاش بضرورة مقاربة الهجرة بوصفها أحد المصادر لتشكُّل النخبة السياسية في البلد الأم.
يرى المؤلفان أنّ “الافتراض الأخير يكتسب راهنية خاصة في ظل عصر الهجرة، خصوصًا في بلدان العالم الثالث، حيث تشكِّل الهجرة ظاهرة مستمرة ومنتظمة (كما في لبنان الذي يشكل حالة دراسية أنموذجية في هذا المجال). بصورة أكثر تحديدًا، سندرس الأشكال المختلفة للهجرة في ما يتعلق بعملية تشكُّل النخبة السياسية في البلد الأم، وهي: الهجرة العائدة، والهجرة العابرة للحدود الوطنية، والدياسبورا”.
ويعتمدان في تحليلهما على مفاهيم رأس المال وقابلية تحويل رأس المال التي أرساها عالم الاجتماع الفرنسي بورديو، ويؤكدان أن توسيع الإطار النظري لبورديو بما يتجاوز الحدود الجغرافية للدولة – الأمة “يمكّننا من فهم كيفية تحويل رأس المال الاقتصادي المكتسب خلال الهجرة إلى رأس مال سياسي مفوّض، أي الاستحواذ على مكانة النخبة في البلد الأم، أو تحويل رأس المال الاقتصادي المذكور إلى رأس مال آخر ذي صلة بالسياسة في البلد الأم”.
الدياسبورا وولادة لبنان الكبير
في الفصل الثاني، “دور الدياسبورا اللبنانية في ولادة دولة لبنان الكبير”، يسلط المؤلفان الضوء على أبرز النشاطات والمجهودات التي بذلها مهاجرون وأعضاء في الدياسبورا اللبنانية، أفرادًا وجمعيات، في سبيل تحقيق أهداف تحرر لبنان من الحكم العثماني، وإنشاء كيان لبناني مستقل.
برأيهما، اتخذ دور الدياسبورا اللبنانية شكلين: الأول، تأليف سرديات تاريخية وأدبية سوّغت إنشاء هذا الكيان، أو إرسال ما نسميه هنا “التحويلات الثقافية-التاريخية” و”التحويلات الثقافية–الأدبية” إلى البلد الأم الذي كان في طور التشكّل (مساهمات مهاجرين، مثل بولس نجيم ويوسف السودا وجبران خليل جبران كان لها دور أساسي في هذا المجال)؛ والثاني، اتخاذ مواقف سياسية وإطلاق مبادرات ونشاطات سياسية سعت جميعها إلى تحقيق الأهداف المذكورة، أو إرسال ما نسميه “التحويلات السياسية” إلى البلد الأم قيد التشكّل (هنا أدّت الدياسبورا دورًا مساندًا لمصلحة إنشاء دولة لبنان الكبير خلال الحرب العالمية الأولى ولاحقًا خلال الصراع بين الدول الغربية المنتصرة لتقاسم التركة العثمانية بين عامي 1918 و1920).
خلفية تاريخية
في الفصل الثالث، “الخلفية التاريخية للدراسة (1943-1990)”، يقدّم المؤلفان نظرة تاريخية إلى الدور الذي أدّته الهجرة في التأثير في العمليات السياسية في المدة 1943 (قيام الجمهورية اللبنانية الأولى) – 1990 (قيام الجمهورية الثانية).
بيّن طبر ومعلوف أن رأس المال الاقتصادي الاغترابي – المهجري أدّى أدوارًا مختلفة في عملية الاستحواذ على مكانة النخبة في لبنان من السياسيين المعنيين في المدة 1943-1990 . واختلفت هذه الأدوار بين دور مساعد للزعامات السياسية التقليدية (خاصة في الجنوب وزحلة) مثل كامل الأسعد وكاظم الخليل وجوزيف سكاف (وبهذا المعنى، أدّى رأس المال الاقتصادي المذكور هنا دورًا مساعدًا، وربما كبيرًا أحيانًا، في إعادة إنتاج هذه الزعامات السياسية التقليدية واستمرارها في الاستحواذ على مكانة النخبة)، ودور مساعد لخصوم هذه الزعامات التقليدية الذين أرادوا حصة أكبر في النظام الطائفي اللبناني، مثل موسى الصدر ونبيه بري. وأدّى رأس المال الاقتصادي المذكور دورًا مكمّلًا في ظهور نخب سياسية جديدة مثل رشيد بيضون، ودورًا أساسيًا في ظهور نخب سياسية جديدة مثل حسين العويني وإميل البستاني ونجيب صالحة، ودورًا أساسيًا أيضًا في ظهور نخب سياسية جديدة على المستوى النيابي، مثل سليمان عرب وميخائيل الدبس ويوسف حمود.
بيانات ومعطيات
في الفصل الرابع، “عرض البيانات والمعطيات وتحليلها”، يناقش مؤلفَا الكتاب النتائج التي توصلا إليها بهدف تحديد أنماط عامة في البيانات التي جمعاها من المقابلات والمصادر الثانوية ذات الصلة بالموضوع قيد الدراسة. ويهدفان إلى تسليط الضوء على كيفية قيام الأشكال المختلفة لرأس المال الاغترابي (المهجري) بأداء أدوار مختلفة ومتفاوتة في عملية استحواذ الأطراف المختلفة في الحقل السياسي اللبناني على مكانة النخبة.
يناقش طبر ومعلوف القواسم المشتركة المستمَدة من المقابلات التي أجرياها، كما من المصادر الثانوية ذات الصلة. يتناولان البيانات الخاصة بثماني نخب سياسية والمجموعة من مصادر ثانوية، ثم يقاربان المعلومات التي جُمعت من المقابلات التي أجرياها مع 26 من أعضاء النخب السياسية اللبنانية، ووصل العدد الإجمالي للحالات المدروسة إلى 34 حالة. والجدير بالذكر أن أغلبية النخب السياسية التي دُرست في هذا الفصل تتحدّر من خلفيات اجتماعية متواضعة، أو من الطبقة الوسطى، أو الفئة العليا من الطبقة الوسطى. بهذا المعنى، أدت الهجرة دورًا مزدوجًا في مسارات هذه النخب، فمكّنتها من تحقيق الارتقاء الاجتماعي التصاعدي (الثروة الاغترابية أو المهجرية)، وكذلك الصعود السياسي (الاستحواذ على مكانة النخبة السياسية).