أنسي الحاج: النزاع بين الجسد واللغة

 

طلبتُ في هذه الكلمة – الموجزة بالطبع، بناء لرغبة المنظمٍين – الوقوف عند جانب وحسب في شعر أنسي الحاج، وهو النزاع بين الجسد واللغة، واجداً فيه ما يدل على تجربته الوجودية المتعينة بلسان الشعر، من جهة، وما يدل، من جهة ثانية، على جمالية جديدة للقصيدة العربية.

ألقى الشاعر الراحل يوسف الخال، قبل شهور على إطلاق مجلة “شعر” في بيروت، محاضرة قلما انتبه إليها الدارسون، يشدد فيها على أن الشعر “تجربة” قبل أي شيء آخر؛ وهو قولٌ جديد في تعريف الشعر لا نجد له سابقة، وإن نجد تجلياً له في شعر بعض القدماء، مثل أبي نواس أو ابن الرومي أو أبي العلاء المعري تحديداً. وإذا كان الكلام عن “التجربة” يصح في شاعر، فإنه أكثر ما يصح في شعر أنسي الحاج. يكفي لذلك الوقوف عند قسمَين في شعره الأول: القسم الذي لم ينشره في كتاب، واشتمل على قصائد توزعت في عدد من الدوريات اللبنانية، مثل “الأديب” و”الحكمة” و”المجلة”، والقسم الثاني الذي ضمنه كتابه الأول: “لن”. المسافة بين القسمين واضحة للعيان؛ ولو قرأت عليكم واحدة من قصائد القسم الأول لما تعرفتم على “نبرة” الشاعر، ولا على جملته.

أنسي الحاج

 

كتب الحاج قصائد القسم الأول كما لو أنه يُمسك بأيدي من سبقوه وعاصروه وتأثر بهم، بين فؤاد سليمان والياس خليل زخريا، فيما كتب قصائد “لن” ابتداء من تجربة عاطفية عصفت بحياته، وقادته، بكونها تجربة، وجودياً وشعرياً: قادته إلى نصب خشبات امتدت بين الوجود والشعر، بين الخفي في عتمة الجسد والغامض في جمل التعبير. قد يجد البعض – ومنهم أنا، في دراساتي عنه – صعوبة في استجلاء معالم هذه التجربة، إذ إنها لا تتعين في وقائع، ولا ترسمها نقاط استدلال، وإنما تكشفها وتعلنها هذه اللغة التي لا تهنأ فوق مخدتها، ولا تغط في شخير متماد.

لطالما استوقفني، في “لن”، سطره الأول، جُملته الأولى: “أخاف”، إذ وجدت فيها إعلاناً دالاً يخفي أكثر مما يذيع، على أن في إعلانه ما يشير إلى نزاع أكيد، يسبق القصيدة ويتعداها. هذا النزاع قد ينساق البعض إلى تفسيره وفق منظور جنسي، بما يشير إلى التلعثم والتأتأة قبل الإفصاح والتمكن والإنشاد: هذا ما كشف مجهول الجسد في غمار العيش الحميمي مع الآخر.

كان الحاج “يخاف”، جسداً وقولاً، أمام ما يرتمي فيه من دون أن يعرفه، أمام ما يلذه ويرعبه في آن… هذا الخوف الذي يجمعه، في غمرة العناق، بالفراغ والوحشة؛ هذا الخوف من أننا أطفال في هيئة رجال (أو العكس)، من أننا نلهو بالحياة نفسها في عتمة جسدًينا.

إلا أن “أخاف” أنسي الحاج هذه ليست وجودية وحسب، بل شعرية أيضاً، إذ تنفتح اللغة نفسها على مهاوٍ، قلما سلكََها الشعراء، الذين تقيدوا بمضمون الوصية الشهيرة، التي دعتهم إلى حفظ ألف بيت قبل نسيانها سبيلاً إلى احتراف الشعر. اللغة تسبق أنسي الحاج إلى قصيدته، بل تنتظره فيها، وهو ما يختل منذ: “أخاف” هذه. يختل إذ إن ضغطاً، بل ضغوطات، هي التي باتت تمسك بالحروف قبل صدورها، هذه الضغوطات التي لا تسترسل في الإنشاد، مثل “الرسولة”، بل تنتفض وتصرخ، في شجار حميمي عبر الكلمات. هذا الشجار هو بعض المدونة الانفعالية لجسد لم يقف أمام حافة سرير الشهوة، مثل الياس أبي شبكة، ولا اكتفى بوضع مرآة القصيدة أمام عيني الحبيبة، كما في شعر نزار قباني، ولم يحسب وقع الشهوة على القصيدة “كوقعِ الهنيهة في المطلق”، كما مع سعيد عقل.

هكذا أقامت القصيدة في نزاع، وأملى التوترُ على الحروف حضورَها، ما شكلَ افتراقاً وفرقاً في مسار هذا الشعر عمّا كان عليه، إذ بتنا – مع قصيدة أنسي الحاج – أكثر قرباً من كينونتنا، من إنسانيتنا الراعفة.

***

(*) القيت في الجامعة اليسوعية، ببيروت، في ندوة بعد سنة على غياب أنسي الحاج، 2015.

 

 

اترك رد