كلود أبو شقرا
في الذكرى السنوية الثانية لزيارة البابا فرنسيس إلى دولة الإمارات العربية المتحدة (3 – 5 شباط 2019) وتوقيع “وثيقة الأخوّة الإنسانية” أضواء على أصداء هذه الزيارة التاريخية لدى الرأي العام العالمي الذي تلقفها بحماسة، وافردت لها كبريات الصحف مساحات واسعة، ذلك أنها الأولى التي يقوم بها بابا الكنيسة الكاثوليكية إلى منطقة الخليج، وقد اختار لها شعار “اللهم اجعلني قناة لسلامك” بهدف توطيد أواصر المحبة بين الفاتيكان والعالم الإسلامي، ودعم المسيحيين في المنطقة.
رغم أن الزيارة استمرت ثلاثة أيام إلا أن الحضور الروحي للبابا فرنسيس إلا أنها حفرت عميقًا في منطقة الخليج، ذلك انه أحدث تغيّرًا جذريًا في العلاقة بين الأديان من خلال إلغاء ما شابها من تباعد وتفرقة بسبب الحركات الإسلامية التي أججت التطرف الديني وخنقت الأصوات المعتدلة، فارتفعت مجددًا في هذه الزيارة، وتفاعلت مع بابا السلام والأخوّة الإنسانية في لحظة استثنائية اقتطعت من الزمان لتصبح هي كل زمان، وتسطّر تاريخًا جديدًا أكثر سلامًا للأجيال المقبلة…
تواصل بين الأديان
ركزت وسائل الإعلام العالمية على أهمية زيارة البابا فرنسيس إلى دولة الإمارات التي تأتي في سياق مساعٍ متبادلة لمد جسور التواصل بين الأديان والثقافات المختلفة، إذ تسعى الإمارات إلى تعزيز مبدأ التعايش الديني السلمي، فأنشأت لهذه الغاية وزارة للتسامح (2016)، وخصصت 2019 عاماً للتسامح، فيما وصفها البابا بأنها أرض تسعى إلى أن تكون نموذجاً للتعايش والتآخي الإنساني، ونقطة التقاء بين الحضارات والثقافات المتنوعة، وذلك في رسالة وجهها إلى شعبها قبيل توجهه إليها
من هنا أدرج الإعلام العالمي الزيارة ضمن حوار بين الأديان تسعى كل من الإمارات والفاتيكان إلى إرساء دعائمه، وتكرس صورة الإمارات كـمهد للتنوع، في منطقة تشتعل بالاضطرابات الناجمة عن خلفيات دينية وعرقية، لا سيما أنها تحتضن نصف المسيحيين الكاثوليك المقيمين في شبه الجزيرة العربية، والبالغ عددهم نحو مليوني نسمة.
في هذا السياق ذكرت وسائل الإعلام بمقولة البابا فرنسيس: “الإيمان بالله يوحد بدلاً من أن يفرقنا رغم الاختلافات، ويبعدنا عن العدائية والكراهية”، واشارت إلى أن السلطات في دولة الإمارات العربية المتحدة تحظر أي استغلال سياسي للدين، لا سيما من جماعة الإخوان المسلمين.
حدث استثنائي
الحدث الأبرز في الزيارة الذي توقف عنده الإعلام العالمي لقاء البابا مع الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، فاعتبره بارقة أمل لمسيحيي الشرق الأوسط، ونشر صور اللقاء بين البابا وشيخ الأزهر وأرفقها بتعليقات من بينها أن البابا استثمر الوقت لبناء علاقة متينة مع الإمام الأكبر الذي يصفه بـ “الأخ والصديق العزيز”، وأشار إلى أن الرمزين الدينيين الكبيرين اختارا أرض الإمارات لعقد قمة تاريخية في “لقاء الأخوة الإنسانية” للتباحث في سبل تعزيز التعايش بين الأديان والعقائد المختلفة.
أيضاً ركز الإعلام العالمي على موقفي البابا وشيخ الأزهر في هذا الحدث الاستثنائي،واعتبار الدكتور أحمد الطيبأن “وثيقة الأخوة الإنسانية” دعوة لنشر ثقافة السلام واحترام الغير وتحقيق الرفاهية بديلا من ثقافة الكراهية والظلم والعنف، مطالباً قادة العالم وصناع السياسات ومن بأيديهم مصير الشعوب بالتدخل الفوري لوقف نزيف الدماء وإزهاق الأرواح، ووضع نهاية فورية للصراعات والفتن والحروب العبثية. أضاف أن الوثيقة المشتركة نداء لكل ضمير حي ينبذ التطرف ولكل محب للتسامح والإخاء، وطالب من يحملون في قلوبهم إيمانًا بالله وبالإنسانية العمل لتصبح الوثيقة دليلًا للأجيال المقبلة نحو ثقافة السلام والاحترام المتبادل.
من جهته، أكد البابا فرنسيس أن الوثيقة شهادة لعظمة الإيمان بالله الذي يوحد القلوب المتفرقة ويسمو بالإنسان، وقال: “فكرت مع الإمام الأكبر في مكان إطلاقها، ووقع اختيارنا على أبوظبي لنشجع هذا النموذج المميز للأخوّة الإنسانية وتعزيز التسامح بين الأديان في هذا الوقت الذي يعاني فيه ملايين الناس من العالم للاضطهاد”.
أضاف: “عبر هذه الوثيقة، نطالب أنفسنا وكل القادة بالعمل جديًا على نشر ثقافة التسماح والتعايش. نأمل أن تكون وثيقتنا بداية حقيقية لسلام يسود العالم ينعم به البشر ودعوة للمصالحة والتآخي بين جميع الناس”.
الإسلام والإرهاب
أمل مفكرون ومثقفون عرب أن تساعد الزيارة التاريخية للبابا فرنسيس إلى دولة الإمارات، على تبديد سوء الفهم العالمي لظاهرة الإرهاب في ظل ربطها بالدين الإسلامي,
اعتبر محمد البشاري،الأمين العام للمؤتمر الإسلامي الأوروبي، أن زيارة البابا تأتي في سياق زمني ومكاني بالغ الأهمية، فأبوظبي، باعتبارها عاصمة التسامح في 2019، تتوج مبادرات قامت بها في السابق من بينها: “هداية”، مركز “صواب”، منتدى تعزيز السلم ومجلس حكماء المسلمين، الهدف منها تحصين الشباب المسلم وحمايته من الوقوع في شراك الغلو والتطرف، من خلال دعم خطاب إسلامي معتدل يحرص على رأب الصدع الحاصل بسبب الحروب والفهم الخاطئ للدين، أي الهوة بين المنظومة الغربية والمنظومة الإسلامية.
أضاف أن هذه الزيارة تأتي في زمن “اختطاف” الدين من قبل جماعات توظفه لأغراض سياسية تمليها أجندة دول لا تريد أمنًا روحيًا، لافتًا إلى تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا وقال: “ينقلنا مؤتمر الأخوّة الإنسانية من فضاء الحوار والتعارف إلى فضاء إطلاق المبادرات، أي كيفية إيجاد صيغة تعاون”.
تابع أن المسلمين يعيشون في تمازج مع المكونات الأخرى في أوروبا، لكن باتت الريبة تخيّم على النظرة المتبادلة في المجتمع الغربي منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، لذا أمل أن يضفي هذا المؤتمر شرعية للوجود الذي يعيشه المسلمون مع المكونات الدينية الأخرى في أوروبا.
أما علي النعيمي، رئيس المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، فأوضح أن المطلوب في اللحظة الراهنة طي صفحة الماضي بما فيها من مآس وآلام والتركيز على الحاضر والمستقبل، معتبراً أن دولة الإمارات لم تنتظر الآخرين حتى يبادروا، بل أخذت زمام المبادرة وفتحت آفاقا للجميع.
وقال رضوان السيد، أستاذ الدراسات الإسلامية، إن البابا الحالي للكنيسة الكاثوليكية رجل تسامح وحوار، أضاف: “سبق له أن زار مصر، وجربناه خلال سنوات صعبة على الإسلام والمسلمين، ما ترك مناسبة إلا وأعلن تضامنه مع الاستقرار والحوار والإسلام.. لقد قدمت الإمارات مبادرة ولقيت استجابة من رجل ملائم، وهذا التجاوب لا يحصل دائمًا، لاسيما أن الأمر يتعلق بأكبر مرجعية أخلاقية في العالم”.
تابع أن هذا التجاوب حصل مع بيئة ملائمة في أبوظبي، من النواحي كافة، وذكر بمقولة لهانز كينغ “لا مجال لإحلال السلام في العالم ما لم يكن ثمة سلام بين الأديان”.
بدوره رأى سمير مرقص، مساعد الرئيس المصري السابق، أن زيارة البابا فرنسيس تأتي في ظل تحولات كبرى في العالم، وأضاف أن هذه المحطة التاريخية تكتسب زخمًا لأنها تتمّ وسط سياق من الانفتاح في الإمارات، وبالنظر إلى شخصية البابا فرانسيس، فهو ابن العالم الثالث وليس أوروبيا، وعاش مآسي الحرب العالمية الثانية وأنظمة الحكم الاستبدادية في أميركا اللاتينية وانحاز إلى الفقراء والمهمشين في تجربة اجتماعية ملهمة.
مشاهدات
-القداس الإلهي الذي احتفل فيه البابا بعد ساعات على التوقيع على وثيقة الأخوّة الإنسانية،الأول من نوعه في منطقة الخليج العربي، وشارك فيه أكثر من 160 ألف شخص من أنحاء العالم وشكّلأكبر تجمع مسيحي في دولة الإمارات.
-في ختام القداس التاريخي، توجّه البابا فرنسيس بالشكر إلى دولة الإمارات، قائلاً باللغة العربية: “أوجّه الشكر إلى أولاد زايد في دار زايد”.
-تمثال “مريم أم يسوع” الذي ركز إلى جانب المذبح صنع من الخشب في الإمارات لمناسبة الزيارة البابوية ، وهو ابيض بكامله، مع شريط ذهبي على اطراف ثوب العذراء.
-خلال القداس، جلس البابا فرنسيس على كرسي صُنِع له خصيصا وسيحفظ في متحف اللوفر بأبو ظبي”.
-زار البابا برفقة الشيخ محمد بن زايد وشيخ الأزهر متحف اللوفر أبوظبي، ووقّع على “كرة الأولمبياد الخاص التذكارية”، بحضور ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وذلك بمناسبة استضافة العاصمة أبوظبي الأولمبياد الخاص للألعاب العالمية (8 -22 آذار 2019).
تغريدات
بالتزامن مع زيارته التاريخية للإمارات العربية المتحدة، تواصل البابا فرنسيسمع متابعيه على على “تويتر”، في خمس تغريدات:
أكد في الأولى أن “الله مع الذين يسعون إلى السلام، وبسبب مباركته من السماء، فإن كل خطواتهم ناحية هذا الدرب تتحقق على الأرض”.في التغريدة الثانية، تطرق إلى وثيقة “الأخوّة الإنسانية”، وغرد:”وثيقة الأخوّة الإنسانية التي وقعتها اليوم في أبوظبي مع أخي الإمام الأكبر للأزهر، تدعو الأشخاص الذين يؤمنون بالله والإيمان بالأخوة الإنسانية أن يتحدوا ويعملوا معًا”.
أما التغريدة الثالثة، فأكد فيها على أهمية الصلاة، قائلا: “الصلاة تنقي قلب الإنسان من الالتفاف على نفسه، وصلاة القلب تعيد الشعوربالأخوّة”.
لمناسبة وضعه حجر الأساس لكنيسة القديس فرنسيس في أبوظبي، تحدث البابا في تغريدته الرابعة، حول دور القديس فرنسيس، في تذكير البشرية بأن المسيحيين انطلقوا في الحياة وهم مسلحون بإيمانهم المتواضع وحبهم الملموس، وتابع “إذا كنا نعيش في العالم وفقا لتعليمات الله، فسوف نصبح ممثلين لوجوده”.