مقدمة كتاب “الجلسة الحوارية حول كتاب “بلاد القصرين””- الكتاب الفكري الخامس لجميل الدويهي بقلم الاديبة مريم رعيدي الدويهي، امينة سر مشروع الاديب د. جميل الدويهي افكار اغترابية للادب الراقي.
ماذا تريد منّا أيّها الجميل، وأنت تتخطى الحدود المرسومة لأدب مهجري، وتعلن أن الإبداع مكانه على القمم، وليس على الحضيض؟ ولماذا تريد أن تفتح عيوننا على نهضة لم تكن في الحسبان… متعدّدة الوجوه والأشكال؟
رأيتك طفلاً متمرداً، مشاغباً، تخربط المقاييس، وتركض إلى تلك الشجرة البعيدة عن منزلكم… لا تهاب الأفاعي والعقارب، و”تعربش” عليها، لأنك تريد أن تصعد إلى فوق، غير عابئ بالأغصان الكثيفة والأشواك. ورأيتك صبياً، تقف على المنابر في التاسعة من عمرك، وتخطب وتعلّي الصوت كأنك زعيم سياسي. كما رأيتك في الصف الخامس الابتدائي تجادل المعلمين، وتخطّئهم بجرأة الكبار، ويثبت أنك على حق. وعرفتك شاباً في الجامعة، يشهد لك الأساتذة والزملاء، وأنت تريد العلى وتسهر الليالي… وها أنت في غربتك، تحارب الحروب التي تأتي إليك بغير وجه حق، لأنك مبدع، وعليك أن تدفع ثمن النجاح. فأنت صاحب الكرم، وكم من النواطير الذين يأخذون الحق من أصحابه! لكن إرادتك أيها الطفل الكبير، وما تسميه “الإصرار”، هما جزء من روحك ومن انتصارك.
أحلامك ليست بعيدة كبُعد الأرض عن السماء. هي قريبة، وسيأتي يوم تكون فيه أيها الجميل في ضمائر الناس، يحفظون قصصك، ويعلّمونها لأبنائهم في المدارس والبيوت. وستكسر حواجز التجاهل لأنك خلقت لكي تعلو بكلمتك وبتواضعك… وستتحوّل العناقيد السوداء، علامة الحقد، والشر، والضغينة، إلى ذهب خالص، كروحك المعطاء في زمن صعب… وكثير تعبه ومعاناته…
نواطير الكروم يسهرون على غلالهم، أما أنت فغلالك الحبر الذي لا يعتق. وقد تعلمت من أجدادك الأقدمين دروس الفروسية، والنضال الإنساني، والحريّة، والصبر، وطول الأناة… وأخذت من بيتك التضحية، والتواضع، وحب الخير، والترفع عن الصغائر. والشرير لا ينتصر عليك، وعنده وجوه كثيرة، وأمم تسير في ركبه، أما رأيت كيف تكاثروا على الناصريّ؟ فماذا يضيرك أن يكون معك نخب من الأوفياء والمخلصين وأصحاب الضمائر؟
عندما يخاف الإنسان يصبح ميتاً. نعم. هكذا رأيتك وسمعتك بأم عيني، تجادل العسكري على حاجز الاحتلال، وترفض أن تحني رأسك، فيغضب، ويهدّد، ويزمجر، وأنت هادئ ومتمسك برأيك ولو كلفك السجن أو فقدان الحياة. هذا أنت. تملك أداة لمحاربة الظلم… والشجاعة حررتك من زمن طويل.
لا تخف أيها الصعلوك من المواجهة، ولو كان الناطور عتيّاً، وجسمه أكبر منك، وظلّه الثقيل قد يحطّمك. هو الجبان الذي يتلاشى ويصبح كالماء، وأنت المقدام الذي لا ترهبه قوة على الأرض. وكم أنت مضحك عندما تقول للناطور: رجل لرجل. فهل سألك أحد عن عمرك؟ لعلك في العاشرة أو أكبر قليلاً. وقلبك فيه براءة… وفيه جسارة الأسود…
إنهض أيها الرجل، لكي تقطف العناقيد شقراء، فحبرك يمحو السواد، واضحك لأن الوادي قد اشتاق لضحكة صبيّ عركته الأزمنة، فأصبحت الضحكة من النوادر في كتاب وجوده.
مسرعاً مسرعاً. لكنْ لا اللحظات ستنتهي، ولا المقادير ستأخذ منك ما هو حق لك. إنّ البقاء للأقوياء، والأدب الحيّ الذي كتبتَه مكتوب له الخلود.