رِحلَةٌ في العُيُونِ الخُضْر!  

   
وكُنَّا، وَكانَ الصّحْبُ، والخَمْرُ، والسَّاقِي،     وشَدْوٌ، وأَوْتارٌ، وشِعْرٌ بِإِغداقِ،
وكانَت أَمامِي تَرْشُفُ الكَأْسَ في غِوًى…       أَلَا لَيْتَ شِعْرِي كانَ في الكَأْسِ إِغراقِي

وخِلْتُ بِأَنَّ الخَمْرَ تَرشُفُ ثَغرَها،         لِما في الثَّنايا(1) مِن بَرِيقٍ وإِشراقٍ
وأَلقَت سِهامًا مِن لِحاظٍ سَدِيدَةٍ،            تَلَقَّفتُها، صَبًّا، بِلَوعَةِ خَفَّاقِ
وأَومَت إِلى عَيْنَيَّ خُضْرَةُ عَيْنِها         إِلَهِيَ… هَلْ هذا الخِضابُ(2) لِإِحراقِي؟!
وشِئْتُ بِذاكَ الأَخْضَرِ اليَنْعِ رِحلَةً،                 إِلى عالَمٍ ناءٍ، على مَتْنِ أَحداقِ
حَزَمْتُ لَها قَلْبِي، وَطِرْتُ مُغَرِّدًا،                  تُطَوِّفُنِي في الرِّيْحِ صَهْوَةُ أَشواقِي
وتِهْتُ، ولَمْ أَدْرِ إِلى أَيِّ عالَمٍ                     وَصَلْتُ، وَقَد دَبَّ العَبِيرُ بِأَعراقِي
هُنا رَبوَةٌ في ضَوعَةِ الطِّيْبِ تَزدَهِي،               تَأَنَّقَ في وَشْيٍ، بِها، سِحْرُ خَلَّاقِ
ومَرْجٌ نَدِيٌّ أَخضَرٌ، كَم زَها بِهِ                    تَوَزُّعُ أَطيابِ الرَّبِيعِ بِأَطباقِ
وبَينَ تِلالٍ هانِئاتٍ بُحَيرَةٌ،                        على جِيْدِها المُبْتَلِّ زَهْرٌ بِأَطواقِ
دِيارٌ كَأَنَّ اللهَ حَطَّ رِحالَهُ                  بِها، فَكَساها الزَّهرَ بِالطِّيْبِ مُهْراقِ(3)
جَداوِلُها تَشدُو العُلَى، وطُيُورُها                   سُكارَى، وأَدْواحٌ بِنَشوَةِ إِطراقِ،
تُعانِقُها الأَنسامُ، عاطِرَةَ اللِّقا،                    فَتَعزِفُ ناياتُ الهُيامِ بِأَجواقِ
أَأَرْضٌ لِأَحلامٍ هي، أَمْ تُرَى هُنا                  مَلاذٌ لِأَحلامِ الهَوَى عِنْدَ عُشَّاقِ؟!
لَقَد قِيْلَ، يَومًا: لِلجَمالِ إِلَهَةٌ،                     ومَملَكَةٌ تَحوِي الجَمالَ بِأَنساقِ
لَقَد صَدَقُوا، إِنِّي رَأَيتُ. وهَل هُنَا          سِوَى مَوطِنٍ لِلحُسنِ، والأَلَقِ الرَّاقِي؟!
***
وَقالَتْ، وَقَد طالَ الشُّرُودُ: أَشاعِرِي…            أَراكَ كَمَنْ ضَلَّ المَسِيرَ بِأَنفاقِ
تُرَى سَرْحَةٌ لِلشِّعْرِ، أَمْ عَودَةٌ إِلى                 مَغَانِي صِباكَ الغَضِّ عَوْدَةَ مُشتاقِ؟
بِرَبِّكَ قُلْ لِي كَيفَ كانَتْ مَتاهَةٌ،                 لِشاعِرِ أَحلامٍ بِجَولَةِ آفاقِ؟
وهَل في رَبِيعِ الأَعْيُنِ الخُضْرِ فَوْحَةٌ             كَنَشرِ تَباشِيرِ الرَّبِيعِ بِأَعباقِ؟
فَقُلتُ، كآتٍ مِنْ ذُرَى الحُلْمِ، إِنَّنِي        وَجَدتُ، بِأَعماقٍ لها، يُمْنَ(4) أَعماقِي
وأَنَّ دِيارَ السِّحرِ ما لاحَ مِنْ رُوًا(5)،      وما لَفَحَت رِيحُ الهُيامِ بِآماقِ(6)
ولَولا حَياءٌ في الفُؤادِ، ورَهبَةٌ                     مِنَ الكُفْرِ يَكوِينِي، ورِفْعَةُ أَخلاقِي
وإِيمانِيَ الصَّافِي بِرَبٍّ يَسُوسُنا                   لَقُلتُ هي الفِردَوْسُ والعالَمُ الباقِي
وقُلتُ لِسُمَّارِي: دَعُونِي وخَلوَتِي.                وقُلتُ لَهُ: صُبَّ الخُمُوْرَ أَيا ساقِي،
أَنا في رِحابِ الشَّوقِ مِن أَعْيُنٍ غَدَتْ            لَهِيْبًا بِشِعْرِي، واخضِرارًا بِأَوراقِي!
***

1): ثَنَايا: جَمْعُ ثَنِيَّة وهي إِحدَى الأَسنانِ الأَربَعِ الَّتي في مُقَدَّمِ الفَمِ، ثِنتانِ مِن فَوْقُ وثِنتانِ مِن تَحْتُ

2): الخِضابُ: خُضْرَةُ الشَّجَرِ عِندَ ابتِداءِ الإِيراق

3): مُهْراق: مَصبُوب؛ مَسكُوب

4): يُمْن: بَرَكَة، سِعَة عَيْش

5): الرُّواءُ: حُسْنُ المَنظَرِ في البَهاءِ والجَمال

6): آماق: جَمْعُ مُؤْقِ العَيْنِ، وهو طَرَفُها الَّذي يَلِي العَيْن

اترك رد