مُناجاةٌ وعَتْبٌ وجَمال!   

 

 

(قِراءَةٌ في مَقطُوعَةِ «ذَرِينِي هُناك… في كَوكَبٍ آخر!» لِلشَّاعِرَة مِيراي شحاده حَدَّاد)

 

مِن جَمِيلِ ما قَرَأتُ، هذهِ الأَيَّامَ، مَقطُوعَةٌ تَسِيلُ مِنها عُذُوبَةٌ في المَشاعِرِ وفي الجَرْسِ، على أَلفاظٍ تَلَفَّعَت بِحُلَّةٍ نُورانِيَّةٍ وَ «حُسْنًا غَيرَ مُجْلُوبِ»(1). إِنْ تَوَسَّمتَ الشِّعْرَ فيها، فَإِنَّها مِنْ رُوحِهِ تَعَرَّت مِن جِلبابِ العَرُوضِ وأَوزانِه. وإِنْ رَأَيتَها في النَّثْرِ، فهي مِنْ سامِقِهِ، على شِعرِيَّةٍ لا نَجِدُها في الكَثِيرِ مِن دَواوِينِ القَرِيض.

هي «ذَرِينِي هُناك… في كَوكَبٍ آخر!»، لِلأَدِيبَةِ المُرهَفَةِ مِيراي شحاده حَدَّاد، نُشِرَت في المُدَوَّنَةِ الغَرَّاءِ «Aleph-Lam»، بِتارِيخِ 19/ 11/ 2020.

يَتَرَبَّعُ الجَمالُ فِيها على أَرضٍ سَدِيَةٍ تَتَضاحَكُ فِيها الأَقاحُ على تَنَوُّعِ مَطارِفِها والشَّمِيم.

تَأخُذُكَ مِنَ القِراءَةِ الأُولَى، وتَشُدُّكَ إِلى الثَّانِيَةِ فَتَأتِيها بِشَغَفٍ، فَلا نَشازَ بل انسِيابِيَّةٌ مُرِيحَةٌ، ولا تَعابِيرَ مُسَنَّنَةً تَخدِشُ خَدَرَكَ، ولا سَطْحِيةً تُمِلُّكَ، بل عُمْقٌ في الرُّؤْيَةِ والرُّؤْيا، وصُوَرٌ مُتَناسِقَةُ الأَلوانِ والظِّلال.

 

في مَطاوِيها عَتْبٌ مُرٌّ على أَرضٍ زَرَعَتِ الشَّاعِرَةُ في تُرْبِها «مَواجِعَ وِصالِها»، وسَطَّرَت على أَدِيمِها «تارِيخَ عِشقِها»، ورَسَمَت «دُرُوبَها» في مَباسِطِها والوَعْرِ، ونَشَرَت «أَطيابَها» سَخِيَّةً أَرِجَةً في أَمدائِها، وعاشَت هُيامَها مُتَّقِدًا ثَرَّ الإِيحاءِ في سَمَرِها ولَيالِيها، ونَشَرَت أَمامَ مِحرابِها «خَطاياها العَذارَى الرُّضاب»، وَ «عَصَرَت ذاتَها لِتَروِي تُرابَ الأَحباب». فهي تَكادُ تَتَّحِدُ بِأَرضِها لَواعِجَ وأَحاسِيسَ، وتُنذِرُها بِلِسانِ العاشِقِ العاذِلِ «أَوجَعَنِي وَرِيدِي… يا أَرضُ! لا تُنادِينِي! أُلَوِّحُ لَكِ، مِنَ البَعِيد».

ولا غَرْوَ مِن هذا الانصِهارِ الرُّوحِيِّ بِالأَرض. أَوَما شامَت في عُرُوقِها «تُرابَ الأَحباب»، لَكَأَنَّها تَتَمَثَّلُ قَوْلَ المَعَرِّي(2)، وتَحياهُ في الصَّمِيم؟!

ويَتَفاقَمُ تَبَرُّمُها حَتَّى «وَجَعِ الوَرِيد» فَتَصرُخُ مِنْ قَعْرِ الجُرْح: «أَنا راحِلَةٌ إِلى كُوكَبٍ آخَر»، فَتُذَكِّرُنا بِعُمَر أَبِي رِيشَة وكانَ لَهُ «في كَوكَبٍ مَوعِدا»(3).

جَمِيلٌ رَحِيلُ هذه المُبدِعَةِ، على جَناحِ خَيالِها الرَّفَّافِ، إِلى دُنيا وَشَّحَتها بِرِيشَةِ النَّقاءِ، وارتاحَت في حِضْنِها تَرتَشِفُ «نَخْبَ الحَياة» الَّتي تَطمَحُ إِلَيها بِشُعُورٍ رَقِيقٍ لا يَقوَى على الظُّنُونِ المُوَسْوِسَةِ، وجَنانٍ سامٍ يَلفُظُ كُلَّ شَوَهٍ والتِواء.

هي المُتَيَّمَةُ بِأَرضِها، تُوشِكُ أَن تَتَّحِدَ بِذَرَّاتِها، فَتُذَكِّرُنا بِجُبرانَ القائِل: «أَنتِ أَنا أَيَّتُها الأَرضُ، فَلَو لَم أَكُنْ لَما كُنتِ»(4)، لِذا فَإِنَّ مَلامَتَها عَمِيقَةٌ نازِفَةٌ مُتَجَذِّرَةٌ في حُرُوفِها، مُنسَلِخَةٌ مِنْ أَساها المَكْنُون.

وتَكشِفُ الشَّاعِرَةُ جُنُونًا تَلَبَّسَها «فَقَد سالَ نُسْغُ جُنُونِي»، وجُنُونُ المُبدِعِينَ مِنْ سِماتِ إِبداعِهِم، وهو، لَو رَأَيتُم، ذُرْوَةُ التَّبَصُّرِ حَيثُ لا بَصَرَ يَرْقَى، ولا سَعْيَ يُفِيد. وقالَها نِزار قَبْلًا(5)، وسَبَقَهُما كُثُر.

أَلحافِزُ الرَّئِيسُ لِتَناوُلِ مَوضُوعَةٍ، وإِعمالِ النَّقْدِ والتَّبَصُّرِ فِيها، هو التَّذَوُّقُ المُستَثارُ حِيالَها، والاندِهاشُ الفَورِيُ غِبَّ تَلَقِّيها، والرَّغبَةُ في إِعادَةِ قِراءَتِها. وهذا ما انتابَنا مع مُفَلَّذَةِ شاعِرَتِنا.

هكذا

وشَدَّتْنا هذه المَقطُوعَةُ، ما عَراها غَبَشٌ، ولا أَرهَقَها تَعَمُّلٌ، فَاستَفَزَّت قَلَمَنا فَباحَ بِما تَحَسَّسَ، وافْتَرَّ، وهو المُستَهامُ بِكُلِّ بَدْعٍ، والمُنْتَشِي بِكُلِّ رَحِيْقٍ صُراح.

أَلَا أَكْثِرِي مِنْ هذا العَطاءِ يا نَجِيَّةَ البَهارِ، أَوَلَيسَ في عُرُوقِكِ مِنْ نَجِيْعِ أَبِيْكِ، الشَّاعِرِ الكَبِيرِ عَبدالله شحادة؟!

فَدُونَكِ اليَراع!

***

 

(1): حُسْنُ الحَضارَةِ مَجلُوبٌ بِتَطرِيَةٍ       وَفي البَداوَةِ حُسنٌ غَيرُ مَجلُوبِ   (أَبُو الطَّيِّب المُتَنَبِّي)

(2): خَفّفِ الوَطْءَ! ما أظُنّ أدِيمَ     ــــــــــــ     الأَرضِ إِلَّا مِن هذه الأجسادِ   (أَبُو العلاء المَعَرِّي)

(3): قُولِي لَهُم سافَرَ، قُولِي لَهُم       إِنَّ لَهُ في كَوكَبٍ مَوعِدا   (عُمَر أَبُو رِيشَة)

(4): «أَنتِ الجَمالُ في عَينَيَّ، والشَّوقُ في قَلبِي، والخُلُودُ في رُوحِي. أَنتِ أَنا أَيَّتُها الأَرضُ، فَلَو لَم أَكُنْ لَما كُنتِ»   (جُبران خَلِيل جُبران، «البَدائِع والطَّرائِف»)

(5): إنَّ الجُنُونَ وَرَاءَ نِصْفِ قَصَائِدِي     أَوَلَيسَ في بَعضِ الجُنُونِ صَوابُ؟!   (نِزار قَبَّانِي)

اترك رد