تحقيق ندى قزح
هو الخوف، الغريزة الإنسانية التي ترافقنا منذ لحظة الولادة حتى الساعة الأخيرة من حياتنا. نخاف حين ننفصل عن ذاك العالم الدافئ الآمن في رحم أمهاتنا إلى عالم جديد في هوائه وأصواته ولمساته. ونخاف أيضا حين تحين لحظة العبور من هذه الأرض لنغادر الأحباء، فنحزن لوداعهم ونقلق عليهم بسبب الفراق والحنين.
إن الخوف لا يمنعنا من الموت، لكنه يمنعنا من الحياة وعيشها بالملء والتمتع بكل يوم من أيامها. فالإنسان الشجاع لا يستسلم أبدا لمخاوفه بل يواجهها ولا يتهرب منها، لأنه بذلك يتغلب عليها وينعكس النصر عليه قوة وسلاما وفرحا.
في هذه الأيام، يتأرجح اللبناني بين الخوف الذي خلفه انفجار مرفأ بيروت وجائحة كورونا وتهديدها المباشر للحياة والوضع الاقتصادي، الذي بات يهدد كل الأعمدة الصامدة لبناء وطن جديد طالما حلمنا به.
ما هو الخوف؟ ولماذا نخاف عند كل تهديد للحياة؟ وما هي الخطوات التي يمكن اتخاذها لمعالجة مخاوفنا؟
الخوف: هويته وأسبابه
“منذ اللحظات الأولى يولد الخوف معنا، فهو جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان.” أكدت الدكتورة ماريا مجدلينا الخازن، إختصاصية في علم النفس ومحاضرة في جامعة الروح القدس-الكسليك في حديث إلى “الوكالة الوطنية للإعلام”.
وقالت: “يشعر المولود الجديد بالتهديد لمجرد انتقاله إلى عالم جديد، مما يولد عنده مشاعر الخوف من عدم القدرة على تأمين حاجاته الأساسية من المأكل والمشرب والأمان إذا تأخرت الأم عن تلبية تلك الحاجات. حين ينمو الدماغ ويتطور مع مرور السنوات، يأخذ الخوف أشكالا مختلفة في وعي الإنسان ليصبح عند البالغين نوعا من الحماية الذاتية وأخذ الاحتياطات الخاصة في كل مرة كانت حياته مهددة بالخطر. فالخوف بحد ذاته هو آلية دفاعية له وظيفة حيوية ألا وهي حماية نفسه وأحبائه في سبيل البقاء والوجود، وإذا اتخذ أشكالا أخرى في مسيرة حياتنا فبإمكانه أن يسبب عائقا ويتحول من دور الحماية إلى إلحاق الأذى فيكبله ويمنعه من عيش حياة منتجة. ومن أهم الأسباب التي تحول الخوف من الإيجابي إلى السلبي، هو تلقي الإنسان صدمات كبيرة أو متكررة منذ الطفولة تظهر تفاصيلها في تاريخ حياته، وقد تلعب الناحية الوراثية دورا فيظهر في السلوك والتصرف كلما تقدم في العمر”.
لماذا تزداد مخاوف اللبنانيين؟
انفجار مرفأ بيروت
عن الإنفجار الذي حصل في مرفأ بيروت في شهر آب المنصرم، كشفت أنه “أيقظ لدى قسم كبير من اللبنانيين صدمات نفسية تعود إلى زمن الماضي مما زاد شعور الخوف في داخلهم، وقد لاحظت ذلك عندما استمعت إلى أشخاص كانوا موجودين في ساحة الإنفجار، بعضهم أصيب والبعض الآخر فقد أحد أفراد عائلته أو حبيبا أو صديقا. وقسم آخر كان بعيدا تماما عن موقع الإنفجار أيضا تأثر لمجرد سماع الخبر، فصوت الإنفجار العظيم والمشاهد الحية على التلفاز ورؤية الجرحى والناس المتألمين، مشاهد ذكرتهم بحرب تموز عام 2006، ومن هم أكبر سنا تذكروا الحرب الأهلية وويلاتها”.
أضافت: ” كما لاحظت أن فئة لا بأس بها من الشبيبة الذين يعيشون في منطقة الشمال، لم يتعرضوا في الماضي على صدمات كبيرة بسبب الحروب التي مرت على لبنان وكانت بعيدة عن موقع سكنهم، لم يتأثروا كثيرا بانفجار بيروت مثل سكان بيروت وضواحيها الذين عاشوا اللحظات الأليمة بكل تفاصيلها. تلك المشاهد أحيت صورا وصدمات مضت كانت قد أصبحت في ذاكرة النسيان، فعادت إلى الواجهة من جديد لتذكرهم بتلك الجراح وتركت لديهم رعبا وخوفا منعهم من النوم وانعكس بشكل سلبي على البعض. وقد قابلت أيضا بعض المسنين الذين تدمر منزلهم في الحرب، ثم تدمر مرة ثانية جراء الانفجار وفقدوا أحد أفراد عائلتهم. إن هذه المشاعر المؤلمة تضاعفت عند من فقد عزيزا، وبات يخاف من فقدان من تبقى من أحبائه على قيد الحياة من دون سابق إنذار، مثلما حصل في الرابع من آب وكانت المفاجأة للجميع. فهناك من كان برفقة ولده أو أمه أو أبيه لحظة وقوع الحادث حين فارقوا الحياة، مما زاد شعور الخوف عندهم وأصبحت الصدمة النفسية صدمتين وأصيبوا بالشعور بالذنب لأنهم لم يتمكنوا من إنقاذهم. هؤلاء الأشخاص الذين تضرروا أكثر من غيرهم هم أمام خيارين، إما التأقلم مع الوضع الجديد أم الاستسلام للواقع المرير. أما الأطفال فيتخطون آثار الانفجار والمخاوف الناتجة عنه، بقدر ما يتخطى الأهل الحادثة ويعطون بمثلهم القوة والشجاعة ومرافقتهم بشكل إيجابي لتخطي المرحلة. وأما الشبيبة فقد انعكس ذلك عند البعض عزمًا وإصرارًا للتشبث بالوطن، إيمانًا منهم بأن دورهم أساسي وضروري في بناء لبنان جديد، والبعض زادت رغبته في الهجرة بحثًا عن وطن جديد يعيشون فيه بأمان ويحلمون بمستقبل مزدهر وحياة كريمة.”
فيروس الكورونا
بعد انفجار مرفأ بيروت الذي هز لبنان والعالم، ربما لم يبق أمام اللبناني إلا أن ينسى تفشي فيروس الكورونا وخطورته أمام المصيبة الأكبر التي حلت في بلاده. وأوضحت في حديثها أنه “في بداية أزمة كورونا كان الالتزام بشكل أكبر وقد شملت المسؤولية الجميع، واستطعنا التغلب عليه نوعا ما من خلال أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر. ولكن الأعداد تفاقمت في الفترة الأخيرة مما يشكل خطرًا على المجتمع اللبناني بأكمله، لأن المواطن الموجود أمام منعطفين خطيرين فضل أن يموت بسبب الكورونا ويخرج ليكافح الجوع والظلم والقهر. ويبقى التحدي الأكبر لدى فئة الشبيبة الذين يحبون بطبيعتهم الاكتشاف والمغامرات والعلاقات الاجتماعية ولقاء الأصدقاء، فهم اليوم لا يستطيعون عيش حياتهم بشكل طبيعي إن من ناحية الدراسة أم الحياة الاجتماعية، وذلك يشكل ضغطا كبيرا على الأهل لإيجاد بعض الحلول والحوافز الإيجابية والوسائل البديلة، الذين بدورهم يشعرون أيضا بالخوف وقد زادت همومهم بين عملهم وتأمين أولادهم وحاجاتهم فدخلوا في حلقة مفرغة”.
وتابعت: “يتمتع اللبناني بميزة خاصة لا تتمتع بها كل الشعوب، وهي قدرة التأقلم مع ظروف الحياة بأي شكل أتت، ويعود ذلك إلى كثرة الصعاب التي مرت على الوطن مما أكسبه هذه القدرة الخاصة ضد المصائب والحروب. وها هو اليوم يواجه أقسى الظروف، ولا نراه يستسلم بسهولة فيحاول متابعة حياته والترفيه عن النفس على الرغم من محيطه المرير.
والجدير ذكره أن هناك أشخاصا في لبنان والعالم لا يصدقون أن جائحة كورونا التي تصيب عالمنا اليوم هي حقيقية، بل يعتقدون أنها بدعة تم اختراعها من أجل السيطرة على الشعوب والتحكم بمصيرها، وبخاصة أن المعلومات متضاربة ولا حقائق مثبتة حتى اليوم، لذلك هم لا يخافون من الكورونا لأنها غير موجودة بالنسبة إليهم. أما عند أصحاب الأمراض المستعصية والمزمنة والمسنين والحوامل والأطفال، فيكثر الخوف أكثر لأن الحالة تتطلب الكثير من الحذر خوفا من مضاعفات أكبر قد تخطف منهم الحياة”.
الضائقة الإقتصادية
في هذا السياق تحدثت عن واقع اللبناني منذ القدم، وقالت: “نحن في لبنان نواجه دائما حالة من التهديد متواصلة، بسبب الوضعين الأمني والاقتصادي اللذين يشكلان شعورا بالخوف الدائم وعدم الأمان المتواصل. إن هذه المرحلة ليست موقتة، بل رافقتنا منذ الطفولة وتمر الأيام والسنوات والشعور هو هو لا يتغير، لأن الأوضاع في لبنان لم تتبدل يوما. من خلال ذلك اكتسبنا ميزة التأقلم ومتابعة الحياة كما هي، ولكننا لا نتخطى ذلك لأن الدراسات تؤكد أن الإنسان لا يستطيع أن يعالج مشكلة ويتخطاها طالما هي ما تزال موجودة ويعاني منها. ففي هذه الظروف القاسية والأسباب الخارجية التي فرضت علينا، نحن نستطيع أن نقدم الدعم والمساعدة لبعضنا البعض ولا الحل، وتختلف نوعية المساعدة من حالة إلى أخرى. فمن عاش اضطرابات عدة في طفولته بسبب الضائقة الاقتصادية أو مورس عليه العنف بكثرة، هو من سيخاف أكثر من غيره ويعاني من الظروف الراهنة لأنه سيشعر بحالة تهديد جديدة بما يخص الجوع والقهر والإفلاس.”
في ذاكرتنا الجماعية، تعيش تصورات قديمة في اللاوعي عن ثقافة وتاريخ بلادنا”، أوضحت الخازن وربطت “سبب خوفه الكبير من الجوع الذي يجعله يسرع بشكل مفاجئ إلى تأمين غذائه وتخزين المونة بصورة مبالغ فيها كلما شعر بتهديد للحياة. ويعود ذلك إلى تذكره المجاعة التي مرت على لبنان وحصدت الآلاف في أثناء الحرب العالمية الأولى، حين تضور الناس جوعا ولم يكن بمقدورهم فعل شيء كما لم يقووا على المقاومة. وفي ذاكرته أيضا غزو الجراد في العام 1915 والذي دمرت على اثره معظم المحاصيل الزراعية، ما ترك أيضا حالا من الذعر لدى اللبنانيين حين سمعوا بإمكانية وصول الجراد هذا العام. لذلك من الطبيعي أن يكون اللبناني يخاف أكثر من غيره من الحروب والانهيار والمجاعة والقهر لأنه مر على بلدنا الكثير.”
كيف نتخطى الخوف؟
عن تخطي مخاوفنا العديدة، كشفت “أن الشعب اللبناني يخاف من الغد وما قد يحمله له من مفاجآت جديدة، لكننا نراه يتحدى الظروف ويحاول العيش من جديد، يحب السهر والتنزه والتبضع والرحلات لأنه بذلك يهرب قليلا من الواقع ويرفه عن النفس طالما لا حلول أخرى لديه. فمن يواجه خوفه وما يزال منتجا في الحياة ولا يؤثر ذلك بشكل كبير عليه، بإمكانه أن يتخطى الخوف مع مرور الأيام ومتابعة النشاطات والعمل وممارسة الرياضة أو بعض الهوايات. أما من يشعر بخوف شديد عليه أن يحدد نوعه ويواجهه ليتخطاه، فإن كان يؤثر على حياته الاجتماعية أو تحصيله العلمي أو عمله، فمن الأفضل أن يطلب المساعدة من شخص مختص وألا يعتبر ذلك ضعفًا بل قوة في المحاولة على التخطي، وأن يقبل المساعدة لأنه ليس الوحيد الذي يعاني من خوفه، بل أصبحت النسبة عالية جدا بعد انفجار بيروت ومن هم بحاجة إلى الدعم والمساعدة كثر لعيش حياة منتجة”.
وختمت بالنصيحة: “أشجع وجود الجمعيات الأهلية من أجل دعم المتضررين ومساعدة الناس بعضهم لبعض التي ساهمت ماديا بشكل كبير في الآونة الأخيرة والأهم كان الدعم المعنوي، لأنهم شعروا أنهم ليسوا وحدهم وهناك من يكترث لأمرهم ويفكر بهم. فالمساعدة حين تأتي من شخص مدني يعمل بشكل تطوعي ومجانا، تؤثر في الأشخاص أكثر بكثير ممن يقدم الدعم كوظيفة أو واجب. وأنصح كل من يشعر بألم نفسي ولا يتمكن من تخطي مخاوفه، أن يتوجه لطلب المساعدة وألا يتردد فمن الضروري معالجته فورا والتكلم عن وجعه لإيجاد الحلول. ومن الممكن أحيانا اللجوء إلى دواء يساعد على تخطي المرحلة بشكل أسرع ويخفف آلامه في حالات معينة يحددها الطبيب النفسي المرافق. ونحن اليوم بإمكاننا التوجه إلى جمعيات وطنية ودولية تقدم العلاج مجانا أو بشكل رمزي لدعم من لا يستطيع تأمين كلفة العلاج، لذلك علينا التحلي بالشجاعة وعدم الخجل من طلب المساعدة طالما هي متوفرة في كل مكان لعيش حياة منتجة تنعكس إيجابي على الإنسان”.
يقول سقراط: “الخوف يجعل الناس أكثر حذرا، وأكثر طاعة وأكثر عبودية”. في نهاية المطاف، لا بد للخوف أن يحمي الإنسان ويصون حياته ليبلغ إلى الحرية فلا يصبح أسير القلق والألم، فخوفنا من السقوط يجب ألا يمنعنا من محاولة الوصول إلى القمة.
سوف يرافقنا الخوف حتى اللحظات الأخيرة من الحياة. ويبقى القرار النهائي للإنسان، إما أن يكبله ويؤثر على مسيرة حياته وعيشها بالملء، وإما أن يحقق الغاية التي من أجلها خلق معنا من المهد إلى اللحد، ألا وهي الدفاع عن النفس والحماية والوجود بحرية وأمان.