رسائل رامبو : مقدمة جديدة

 

 د. شربل داغر

 

لي مع هذا الكتاب سيرة خاصة، تتعين غداة خروجي من حرب لبنان إلى فرنسا (1976)، وتتجلى في توقفي العمدي عن كتابة الشعر لسنوات، بعد أن تبينتُ، بين الحرب والقصيدة، خيطَ “دم فاسد” (وفقًا لعبارة شهيرة لرامبو).

كان الوقت متاحًا في باريس لكي أعايش حربي “الخاصة”ـ لكي أعقد جلسة المحاسبة. أحاسب نفسي عما فعلتُ وعما لم أفعل، عما كتبت وعما لم أكتب. الشاعر أرثور رامبو (1854-1891) كان شريكي في هذه الأيام : رفيقي الذي زاد على تيهي ألمًا، وشاعري الذي أتحقق من فضاء القصيدة الجديد والمفتوح في شعره.

كانت لي سيرة خافية في سيرته، في خصام وتلاق عنيفَين وصاعقَين وفجائيَّين، مثل برق عابر ومشع. لم يَكْفِني التوقف عند شعره (الذي ما كنتُ قد قرأتُه قبل إقامتي في باريس)، وقد كتبَه كله في أقل من خمس سنوات، مقفلًا كتاب الشعر، وهو في العشرين من عمره. هكذا اندسستُ كذلك في سطور حياته، في “رسائله” التي ترامت أمام ناظري : سيرةُ مراهقٍ متمرد في القصيدة، وسيرة “تاجرٍ” باحثٍ عن “الذهب الحقيقي” على ضفتَي البحر الأحمر. إلا أنه، في قصيدته كما في ترحاله، مشى بجسارة من شقَّ طريقه لنفسه بنفسه.

لم يرقْ لكثيرين اعتكافه الضاج، ولا انقطاعه المرعب. هذا ما تنبهوا إليه بعد وفاته، من الشاعر ستيفان مَلَرْمِه إلى أي صحفي في جريدة فرنسية “مناطقية”، وتتالتْ بالتالي محاولات “إعادته” إلى الشعر. ولعلي شريك في هذا…

انصرفتُ إلى ترجمة الرسائل (التي تعود في مجموعها إلى 180 رسالة)، وانتهيتُ منها في ثمانينيات القرن المنصرم. انتقلتُ إلى مدينته، إلى بيته، إلى مقبرته، إلى متحفه خصوصًا، في نوع من “الصحبة” التي آلمتني كلما كنتُ أقترب منه. لم يجد رامبو سببًا للعودة إلى الشعر، فيما دافع هنري ميلر عن فكرة مفادها أن رامبو لو عاش حتى الأربعينيات من عمره، لكان عاد إلى الشعر… حكمًا. بينما وجد أندريه غوييو، أحد أفضل دارسيه في فرنسا، أن مجرد كتابة رامبو الرسالة دليل على كونه لم ينقطع عن الشعر. هذا ما حاولتُه بدوري، إذ ترجمت وأعددتُ الرسائل مثل “كولاج نصي”، مثل نص متتابع، أشبه بكتاب لرامبو عُثر عليه بعد وفاته.

أصابَ رامبو ما أصاب فان كوخ بعده : الشاعر لم يبعْ مجموعة شعرية واحدة في حياته، وكذلك المصور الزيتي أي لوحة. تراكضوا صوبه، ولم يُبقوا أي أثر ممكن عنه إلا وجمعوه، وفحصوه، بما فيه المسدس الذي أطلق منه الشاعر بول فرلين النار على رامبو… كما لو أنهم – في هذه الحالة كما في تلك – طلبوا التعويض عما فاتهم، عما تنكبوا عنه.

لم تبقَ رسالة له، أو إليه، لم يتم الكشف عنها. ودارت حولها سجالات. حتى إنهم تحققوا من رسالة له غير موقعة من قبله، بعد أن باتت جُملته (فضلًا عن خطه) بينة الأسلوب، مثل بصمة الفنان فوق لوحته.

زادت معرفتنا برامبو، لكنه أدار ظهره لنا، ومضى.

يجيب أرنست ديلاهاي، أقرب المقربين إلى رامبو، أحدَ سائليه : “أتسأل عن شعر له؟ (…) أعتقد أنه لا يتذكر حتى أنه كتب الشعر”.

***

(*) مقدمة جديدة، لطبعة جديدة، رابعة، لكتاب الرسائل التي أعددتها وترجمتها.

(*) الصورة المرفقة غلاف الطبعة الاولى في العام 1986.

اترك رد