قَلَمِي!   

 

رَفِيقَ حُلْمِي، وخِدْنَ الحَقِّ طَيَّ فَمِي،         يا ناثِرَ الضَّوْءِ في الظُّلْماتِ يا قَلَمِي
سَأَلتُكَ اللهَ إِمَّا رِيشَةٌ نَضَبَت،               فَارْوِ غَلِيلَ الهَوَى، فِيها، بِدَفْقِ دَمِي

غَزَّارَةٌ أَنْتَ، كَمْ مِنْ أَدْمُعِي نَهِلَتْ،             تَرْوِي الجَمَالَ، وَتُرْوِي غُلَّةَ الأُمَمِ
قُصَّ الحِكاياتِ، عَنِّي، غَيرَ مُرتَجِفٍ،         «وَفَّيتُ قِسطِيَ لِلعُليا ولَم أَنَمِ»(1)
خُذِ الجَنَى مِن بَساتِينِي فَقَد يَنَعَت،            خُذِ السَّنابِلَ مِن حَقلِي، ولا تَرِمِ(2)
رُوحِي سَفَحتُ مِدادًا فَاستَزِدْ مَدَدًا،            سَوِّدْ رِقاعِي بِما جادَت بِهِ رَحِمِي
نَذَرتُ عُمرِيَ أَنْ أَحيا على شَمَمٍ،            يَكُونُ قِبْلَةَ مَنْ يَصبُو إِلى الشَّمَمِ
بِي عُنفُوانٌ مِنَ الصَّخْرِ الصَّلِيبِ، ومِنْ       نَقاوَةِ الأَبيضِ الزَّاهِي على القِمَمِ
ما دُمتُ حَيًّا فَرَكْبِي سائِرٌ أَبَدًا،          في جَبهَتِي الشُّمسُ، والأَرياحُ في عَلَمِي
ما خُنْتُ عَهْدًا، ولا وَعْدًا لِمُؤْتَمِنٍ،             ولا هَتِكتُ بِيَأسِي حُرْمَةَ الذِّمَمِ
ما جِئْتُ أَمرًا نَهانِي عَنهُ مُعتَقَدِي،            ولا رَضِيتُ بِما يَدعُو إِلى نَدَمِي
فَلْيَعْلَمِ القَومُ أَنِّي، ما دَبَبتُ، أَنا               دَربِي الإِباءُ وتَأْبَى غَيرَها قَدَمِي«
لا الخَيْلُ، لا اللَّيْلُ، لا البَيْداءُ تَعرِفُنِي،  لا السَّيفُ، لا الرُّمحُ، لكِنْ شَمْخَةُ القَلَمِ»(3)
فَاكتُبْ، فَدَيتُكَ، عَمَّا قَد شَهِدتُ وما           لاقَى الفُؤَادُ مِنَ الخَيباتِ والسَّأَمِ
ما هَمَّنِي، فَأَنا في الشِّعْرِ قافِيَةٌ،             فِيها الخَيالُ، وفِيها ساحِرُ النَّغَمِ
تُطْوَى العُرُوشُ، ويَفنَى كُلُّ طاغِيَةٍ،          والفِكرُ باقٍ، ونارُ الشِّعرِ في ضَرَمِ
فَانْسُلْ، إِذا ما جَفاكَ الحَرْفُ، مِنْ لَهَثِي،     بَوْحَ الحَنايا، ومِنْ جُرحِي، ومِنْ أَلَمِي
واكتُب حَنِينِيَ آياتٍ مُلَهَّبَةً،                   تُواكِبُ الرِّيحَ، أَو تَسرِي مَعَ النَّسَمِ
واعْرِضْ وفاخِرْ وقُلْ ما شِئْتَ مُزدَهِيًا،       عِشْتُ النَّقاءَ ويَبقَى صَوْنُهُ حُلُمِي!
***
دَوِّنْ، حَيِيتَ، فَإِنِّي اليَومَ مُكتَئِبٌ،            ذاوِي الفُؤَادِ لِما شاهَدتُ مِنْ قَتَمِ
فَالنَّاسُ إِنْ بَسَمُوا، فاحْذَرْ لِبَسمَتِهِم،          يَا بَسْمَةَ الذِّئْبِ يُغْوِي تَائِهَ الغَنَمِ
مِنْهُم أَفَاعٍ تَغاوَت في مَلاسَتِها،              وفي المَلاسَةِ فَتْكُ السَّائِلِ العَرِمِ
كَالعُشبِ يَنبُتُ نَديانًا على قِمَمٍ،              تَحتَ الأَدِيمِ، بِها، نارٌ مِنَ الحُمَمِ
وكَم شَجانِيَ غاوٍ في مَلَذَّتِهِ،                 والقَومُ، مِن حَولِهِ، في بُؤْرَةِ السَّقَمِ
لَم يُشجِهِ الجُوعُ جَوَّالًا وَلَو وَسِعَت     ــــــــــــــ    أَعطافُهُ لَقَضَى الأَيَّامَ في نَهَمِ
وفي المَواكِبِ تَغزُو الصُّبحَ لاهِثَةً،           جُوعٌ بِقَلبٍ، وَهَمٌّ صارِخ ٌبِفَمِ
رَأَيتُ ما هالَنِي، فَالكُلُّ في لَهَفٍ،             لِكَي يَفُوزُ مِنَ الهَيجاءِ بِالغُنُمِ
لا ضَيْرَ إِنْ كانَ مِنْ قُوتِ الجِياعِ، ومِنْ      زادِ الأَرامِلِ، أَو مِنْ مِعْجَنِ الهَرِمِ
فَالنَّاسُ رائِدُهُم كَدْسُ المَكاسِبِ مِنْ         حَقلِ الأُلَى بَذَرُوا الأَكبادِ في الثَّلَمِ(4)
لَم يَنثَنُوا، وصُراخُ الحَقِّ يَصفَعُهُم،         ماتَ الضَّمِيرُ، وأُذْنُ الحِسِّ في صَمَمِ!
***
فَيا يَراعِي، رَفِيقَ الدَّرْبِ إِنْ خَمَدَتْ          نارِي، وَجَفَّ نَجِيْعُ الوَحْيِ في كَلِمِي
وَبِتُّ كالسُّحُبِ البَيضاءِ، لا أَمَلٌ           بِالدَّفْقِ، وانتَهَتِ الزَّخَّاتُ مِنْ دِيَمِي(5)
لا تَبكِ عُمرِي، فَقَد ماتَ الأَرِيجُ، وهل         بَعدَ الأَرِيجِ سِوَى الإِحباطِ والعَقَمِ
لا عِشْتُ إِنْ صارَ عَيشِي قاحِلًا جَدِبًا،        عَيشًا أَوَدُّ عَلَيهِ ظُلمَةَ العَدَمِ!
***

(1): فِيهِ نَظَرٌ إِلى بَيْتِ خَلِيل مُطران في رِثاءِ ابراهِيم اليازِجِي:

رَبَّ البَيانِ وسَيِّدَ القَلَمِ            وَفَّيتَ قِسطَكَ لِلعُلَى فَنَمِ

(2): يَرِم: رامَ يَرِيمُ / رامَ مَكانَ إِقامَتِهِ: بَرِحَهُ، فارَقَهُ / رامَ عَنهُ: ابتَعَدَ عَنهُ

(3): فِيهِ نَظَرٌ إِلى بَيْتِ المُتَنَبِّي:

أَلخَيْلُ وَاللَيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُنِي      وَالسَّيفُ وَالرُّمحُ والقِرْطاسُ وَالقَلَمُ

(4): ثَلْم: الخَطُّ أَوِ الشَّرْخُ أَوِ الشَّقُّ الَّذي يَترُكُهُ المِحراثُ في الأَرض

(5): الدِّيمَةُ: المَطَرُ الَّذِي لَيسَ فِيهِ بَرْقٌ ولا رَعْد

اترك رد