أنطوان رعد*
من حق المرء أن يتساءل: ما الذي يدفع شخصاً نال من الشهرة فوق ما يحلم به إنسان وحقّق ثروة تتيح له أن يعيش في أي بقعة من بقاع الأرض بيسر ورفاهية، وأحرز مكانه علمية عالمية يحسده عليها أي طبيب في الكون؟ ترى ما الذي يدفع البروفسور فيليب سالم إلى الكتابة عن لبنان وعن تبشيره بالقومية اللبنانية وعن اتخاذ مواقف وطنية حاسمة تفقده جزءاً لا يستهان به من شعبيته الكاسحة؟ أسالَ لعابه تيمّناً بمقعد نيابي، أم سال لعابه طمعاً بحقيبة وزارية “دسمة”؟ للإجابة عن هذا التساؤل المشروع يمكنني الجزم لا هذا ولا تلك… ولكنه الشغف بحب وطنه، وهو شغف يبلغ حدّ الهوس، إيماناً منه بأنّ وطنه المعذّب الذي تأتمر به كل قوى الشرّ في العالم من الأبعدين والأقربين فضلاً عن أبنائه “الميامين” سينتصر حتماً على جلاّديه إذا طبَّق شعبه “الوصفة الطبية” التي يقترحها فيليب سالم..
لبنان وطن مريض والمأساة تكمن في أنّ شعبه أوكل أمر علاجه إلى أطباء دجّالين مشعوذين همّهم أن يظلّ الوطن مريضاً لكي تبقى جيوبهم في بحبوحة وعافية.. ناهيك بأنّنا شعب ثرثار يؤمن فجأة بفضيلة الصمت حين يكون الصمت مرادفاً لشهادة الزور…
إنّ الطبيب البارع يقوم بتشخيص المرض تشخيصاً دقيقاً وفي ضوء هذا التشخيص يصف للمريض العلاج الناجع ولكن ما حيلة الطبيب إذا امتنع المريض عن تناول الدواء واتباع العلاج؟
“القومية اللبنانية في فكر فيليب سالم” كتاب جديد صدر مؤخراً بمناسبة مئوية دولة لبنان الكبير، وهو يتضمّن مواقف سالم وأفكاره حول القومية اللبنانية، و “الحياد الفاعل” ودور لبنان الحضاري والإنساني. هذا الكتاب الذي أعدّه الكاتب والإعلامي أسعد الخوري يعتبر مرجعيّة مهمّة في تاريخ القوميّة اللّبنانيّة منذ البطريرك الدويهي حتّى اليوم.
يدعونا البروفسور فيليب سالم إلى قومية لبنانية تختلف في منطلقاتها عن منطلقات الرواد الذين دعوا إليها. فالقومية اللبنانية لديه لا تنطلق من موقف عدائي للعروبة إيماناً منه “بأنّ لبنان ليس ذا وجه عربي فحسب بل هو عربي من رأسه حتى أخمص قدميه، ولكنه وطن نهائي لجميع أبنائه كما جاء في اتفاق الطائف. نهائي بمعنى أنه لا يذوب في كيان آخر ولن يكون تابعاً لكيان آخر وفي هذه القومية أيضاً أنّ هناك أرضاً واحدة في كل الأرض تكون أرضنا، لهذه الأرض يجب أن نقدّم الولاء المقدّس. إنّ لبنان موجود في الجسد في الشرق ولكنه في الحضارة موجود في العالم كله، لهذا اللبنان نعلن له وحده الولاء المطلق، ولكننا في الوقت نفسه نعانق بمحبة وفرح جميع البشر.”
ويخاطب سالم ثوار السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) ثوار المجتمع المدني الذين حدس قبل سنوات بما سيحدث واستشرف ثورتهم المباركة كما لو كان يقرأ في كتاب مفتوح: “أنتم رعاة المئوية الثانية. في المئوية الأولى لم يبنِ أهلكم وطناً يليق بكم، لذا ندعوكم في المئوية الثانية أن تبنوا وطناً يليق بأبنائكم، وتعالوا كلنا مسلمين ومسيحيين نركع ونصلِّ معاً قائلين: كن معنا يا الله. لا تحجب وجهك عنّا.”
يؤكّد سالم أنّ القومية اللبنانية الجديدة تؤمن بالدولة المدنية بالتعدّدية الحضارية وفي هذا الصدد يقول: “نحن نحترم حزب الله ونحترم رجاله، ولن ننسى تحريره أرض الجنوب من العدو الإسرائيلي، لذا نقف بإجلال أمام شهدائه، إلاّ أننا لن نسمح له بإلغاء دور لبنان العظيم في الشرق وفي العالم. نحن على اختلاف عميق مع فلسفة الثورة الإسلامية في ايران لأننا لا نؤمن بمزج السياسة بالدين. ولذا: “نعمل جاهدين لفصل الدين عن السياسة وإقامة دولة مدنية في لبنان. إنّ الدولة التي تحدّد المواطن بدينه أو بطائفته تهين الإنسان لأنه أكبر بكثير من انتمائه الديني. لقد عانى هذا الشرق الكثير من الآلام بسبب استعمال الدين كأداة سياسية.”
يقول سالم: أنظروا من حولكم فماذا ترون؟ ترون مسلمين يقتلون مسلمين ويعتدون على دين الإسلام، ومسيحيين يهربون من بلادهم إلى بلاد الله الواسعة. وترون إسرائيليين يقيمون دولة لليهود وحدهم دون غيرهم. نحن نرفض تصنيف البشر حسب دينهم لأننا نؤمن بأنّ الله يعانق كل البشر بمحبة ولا يميِّز بينهم”. ويرى سالم أنّ القومية اللبنانية تقوم على ثالوث مقدّس هو الحرية والديمقراطية والتعددية الحضارية ولذا، فإنّ لبنان “هو نموذج مغاير للدولة العبرية التي تحدّه من الجنوب وهو نموذج مغاير ايضاً للدول العربية والإسلامية التي تحدّه من الشرق. قد تدعي إسرائيل أنها موئل الحرية والديمقراطية ولكن لا يمكنها أن تدّعي أنها موئل التعدّدية الحضارية. وها هي اليوم تعمل بكل قوتها لتصبح دولة يهودية، تعمل لكي تصبح كدول العالم العربي حولها، كما أنّ إسرائيل تعمل ليكون دين الدولة عندها اليهودية، أما لبنان فوحده بين دول المنطقة لا دين للدولة فيه.”
من الواجب أن نعترف بأننا لم نتمكّن من تثمير هذه التعددية الحضارية في صنع لبنان عظيم وبدل أن تكون هذه التعددية مصدراً للوحدة والتقدّم والغنى نجحنا في استعمالها كأداة للتفرقة بيننا والتشرذم في صفوفنا. إنّ عالمية لبنان لا تنحصر في وجود العالم كلّه فيه، بل تكون أيضاً في وجود لبنان في العالم، ولبنان موجود وفاعل وحاضر في جميع بقاع الأرض بنقل أبنائه الذين حملوه وأخذوه معهم أينما انتشروا في الأرض لذلك نقول إنّ لبنان وطن عربي في الهوية السياسية ولكنه وطن عالمي في الهوية الحضارية. إنه من الشرق، لكنه للعالم كلّه.”
وبالإضافة إلى هذا الثالوث المقدّس تقوم القومية اللبنانية على الحياد الفاعل بمعزل عن المحاور الإقليمية والصراعات الدولية لأنّ الحياد يصبّ في مصلحة لبنان العليا ويجنّبه أن يكون ساحة لحروب الآخرين على أرضنا ولذا يقترح سالم “وضع لبنان تحت إشراف مظلّة دولية لمدة انتقالية يضمّد خلالها جراحه ويرمّم مؤسساته. إنّ لبنان اليوم بحاجة إلى ضمانة دولية سياسية وأمنية واقتصادية.”
إنّ البروفسور فيليب سالم في كل ما خطّه يلقي بطوق نجاة إلى وطنه الذي يتخبّط في خضمّ من الأزمات الكيانية ولكن زعماء هذا الوطن يصرّون على الغرق وعلى الانتحار الجماعي. وفي تبشيره بالقومية اللبنانية تقع على كثير من الطوباوية والرومانسية. تُرى هل هو يحلم، تُرى هل هو يطلب المستحيل؟ وهل بقي لنا غير الحلم نداوي به بشاعة الواقع وتفاهة المسؤولين وجشعهم؟
لم يبقَ أمام اللبنانيين سوى الصلاة. إنّ الصلاة التي يرفعها المرء إلى خالقه تتمّ في أجواء التأمّل الروحي والصمت؛ أما الصلاة التي يرفعها المواطن إلى وطنه فيجب أن يجهر بها دون تزمت وطني أو استفزاز وفي مقالات البروفسور فيليب سالم صلاة تختصر إيمانه العميق بلبنان وولاؤه المطلق له ومحبته اللامتناهية لوطنه أرضاً وإنساناً، وعلى كل لبناني سواء في أرض الوطن أو في دنيا الانتشار أن يردّد هذه الصلاة الرائعة وأن يعمل بها قبل أن ينطلق إلى عمله وقبل أن يأوي إلى فراشه:
“أنا قومي لبناني حضاري. أبي هو هذا اللبنان. أمي هي هذه الأرض. أهلي هم كل اللبنانيين. ديني “أعبد لبنان بعد الله.” أحب إخوتي إلاّ أنني لا أحب أخي الذي لا يلتزم الولاء لأبي وأمي. أعاهد الله أن أكون إنساناً حضارياً، وأعاهد لبنان أن أكون مواطناً أقوم بواجباتي قبل أن أطالب بحقوقي. أنا قومي لبناني إلاّ أنني أعتبر البشرية جمعاء عائلتي.”
هذه ليست مجرّد صلاة، إنها دستور جديد للبنان ومزمور من مزامير الحضارة الإنسانية. ولكن على من تقرأ مزاميرك يا فيليب؟ّ
***
(*) نقيب المعلّمين الأسبق