اليابان البلد القصي عند الطرف الآخر من الأرض، هذا الأرخبيل الذي تعلم الإنسان فيه أن يواجه مصاعب الطبيعة، الأرض المتشظية أفلاذا في شكل جزر، والأعاصيروالزلازل التي لا تحابي بشرا ولا حيوانا، هذا البلد الذي تعلم كيف يصغي إلى العالم فيأخذ أفضل ما عنده من معارف علمية وتقنيات في بدايات القرن، بدون أن يفقد خصوصياته الروحية والسياسية والثقافية والاجتماعية، فيطلع إلى العالم بمعجزة التقانة والصناعة، وكان الراحل يوسف إدريس يقول: أخاف من الألمان واليابانيين، من عقدة التفوق عند الألمان، وعقدة النقص عند اليابانيين، تعلمنا – ومن العلم ما قتل- نحن العرب أن نخضع في أحكامنا، وفي تبعيتنا للغرب الأمريكي والأوروبي، وفي خضم ذلك نسينا جزءا مهما من الأرض ومن التاريخ ومن الثقافة في الطرف الآخر من الأرض، فاليابانيون تعلموا أن لا يخضعوا للهيمنة الأوروأمريكية، وأن يبحثوا بأنفسهم، ويترجموا بأنفسهم، ويعرّفوا العرب وثقافتهم بأنفسهم، بلا وسيط أوروبي أو أمريكي.
أذكر أن كاتبا عربيا التقى بباحث ياباني جاء إلى القاهرة في مهمة ترجمة مقدمة ابن خلدون إلى اللغة اليابانية، فلما استغرب الكاتب العربي ذلك أضاف الباحث: نحن نملك ترجمات للمقدمة من اللغات الحية، ولكن لا نملكها من العربية رأسا، حكومتي ترغب في نقلها من العربية، لا شك في أن النقل من العربية مباشرة غير النقل من لغة وسيطة حية. هذا المثال الحديث يبين كيف يعتمد هذا الشعب النشيط على نفسه.
لليابان حضور طيب في الوجدان العربي، وتقبل مبدئي، ذلك أن اليابان لم تحتل بلدا عربيا، وليس لها ماض استعماري مع العرب، كما أنها تمثل بلدا نشيطا مبدعا، منظما مطواعا، محافظا على أصوله الحضارية، منفتحا على ثقافة العصر ومشاركا إيجابيا فيها، عبر ما يقدمه للإنسانية من ثمرات الفكر والعلم والتقانة، إنها باختصار مثال حي لحل واقعي لجدلية الأصالة والمعاصرة، أو الخصوصية والغيرية، هكذا هي الصورة اليابانية في المخيلة العربية، ونقطة أخرى فحين قررت اليابان الانفتاح على الدنيا والخروج من عزلتها الحضارية والجغرافية، بعد مغامرة أسرة الميجي 1868/1912 وأفضالها على اليابان، وهي تشبه في تراثنا أفضال هارون الرشيد والمأمون في إنشاء بيت الحكمة، والانفتاح على ثقافة العالم القديم آنذاك، في ذلك الوقت بالذات أرسل محمد علي باشا أول بعثة عربية مصرية إلى إيطاليا وفرنسا عام 1813 و1826 للدراسة والترجمة، وكان في البعثة رفاعة رافع الطهطاوي، لكن اليابان نجحت ولحقت بالعصر وفشلنا نحن، فرغم تواصل البعثات وأشكال الإصلاح، إلا أننا بتعبير زكي نجيب محمود نعيش عالة على الآخر، ولا نقدم شيئا للعالم، ناهيك عن الاستبداد والفساد حد العبثية.
وكانت تلك المغامرة التي بدأت في منتصف القرن مع الجيل الأول من المستعربين، الذي يمثله إيزوتسو توشيهيكو ومائجيما شينجي إلى الجيل الثاني، الذي يمثله إتاغاكي يوزو، إلى الثالث الذي يمثله نبو أكي نوتوهارا، واليوم نخبة من الشباب الياباني المهتم بالدراسات العربية والإسلامية، منها الشاب يوشياكي فوكودا. ومن مشاهير الاستعراب الياباني يوزو إيتاغاكي وسان إيكي ناكاؤوكا، وتوسيو كورودا، وأوئيو كازوماسا، وأكهيرو تاكانو وماسارو فوريواتي، ولعل من أشهرهم في حقل الدراسات الإسلامية توشيهيكو إيزوتسو، الذي له دراسات عن الوحي، فضلا عن ترجمته للقرآن الكريم إلى اللغة اليابانية، وإلى الجيل الثالث ينتمي المستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا، الذي رأى بكل أريحية وصدق أن يقدم حصيلة دراسته للثقافة العربية والحياة في العالم العربي، مدنه وحواضره وأريافه وبواديه طيلة أربعين عاما في كتابه الصغير الجم الفائدة: العرب وجهة نظر يابانية.
يمكن القول إن هذا الكتاب هو أشبه باليوميات، يوميات ياباني في بلاد العرب، ملاحظات وانطباعات عابرة ولمحات ذكية، ولكنها ذات قيمة فالرجل ليس سائحا، بل هو مثقف وعالم بالعربية آدابها وثقافتها، قرأ الأشعار العربية من الجاهلية حتى أمل دنقل، والنثر العربي من نثر قس بن ساعدة حتى غسان كنفاني ويوسف إدريس، إذ يكتسي كتابه أهمية بالغة، فهو انطباعات عارف وخبير لا مجرد سائح، ويكتسي أهمية كذلك لأنه رؤية الآخر غير العربي (الآسيوي) للداخل العربي، وليس أفضل من الآخر ناقدا، خاصة إذا كان نقده بريئا موضوعيا، ويخالطه الحب والاحترام معا وهذا هو شان المستعرب الياباني.
يمكن القول إن هذا الكتاب هو أشبه باليوميات، يوميات ياباني في بلاد العرب، ملاحظات وانطباعات عابرة ولمحات ذكية، ولكنها ذات قيمة فالرجل ليس سائحا، بل هو مثقف وعالم بالعربية آدابها وثقافتها.
وفي جانب النقد لمظاهر الثقافة العربية ينحى باللائمة على المثقف العربي وعلى الكتاب النجوم الذين يتكلمون كأنهم سلطة، وعلى انتهازية بعضهم ولا يخفي عدم إعجابه بموقف حنا مينا في روايته «المرصد» التي كتبها لإرضاء النظام، فنال منصبا في وزارة الثقافة، ومع إعجابه برواية «الشراع والعاصفة» رفض ترجمتها، لأن موقف الكاتب في مغازلة النظام يتعارض مع وظيفة المثقف، وهي النقد والرفض والاحتجاج على كل مظاهر النقص والظلم والتردي، فالمثقف موقف وليس مجرد ثقافة نظرية أو مهارة في الكتابة: «أنا أقدر الكتّاب الذين لهم مواقف ثابتة ومبدئية، ولهذا السبب اخترت من الأدب السوري المعاصر الكاتب هاني الراهب، وقدرت كثيرا علي الجندي الذي يعاني، وحيدر حيدر، وبالمناسبة إنني معجب أيضا بعبد الرحمن منيف». وهذا يذكر القارئ بموقف الكاتب الإسباني خوان غويتيسلو، الذي رفض جائزة من حاكم عربي ومبلغها كان كبيرا، والحجة في الرفض استبداد الحاكم، في حين كان في اللجنة المانحة روائي ليبي مرموق وناقد مصري كبير. والكاتب والمثقفون في اليابان عقولهم عاجزة عن الفهم كيف يمدح مثقف عربي حاكما، فهذا غير موجود في اليابان، كما يقول، ولا شك في أن الكاتب يتعجب من المهرجانات الشعرية العربية ذات الطابع الصخبي والمأدبي والجوائز والتكريمات والأوسمة، وهو ما يتعارض مع وظيفة الشعر ورسالته، فالشعر كما يفهم في اليابان مثلا يقرأ على انفراد للتأمل والسياحة الروحية والفكرية، في حين يقرأ على المنابر في العالم العربي لغرض الحماسة والتصفيق، وفي النهاية التكريم والإغداق من المال العام، على حساب جوع الشعب وحالته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المزرية.
إن إعجاب المؤلف بغسان كنفاني كونه كاتبا ممتازا فنيا وإنسانيا ورساليا فهو قطع الصلة بعائلته ذات التكوين الفرنكفوني وتعلم العربية، ليقترب من روح الشعب، ولم يكن مجرد ملاحظ من فوق، إن كثيرا من المثقفين العرب هم على شاكلة «يقولون ما لا يفعلون» يتحدثون عن حقوق المرأة في حين تعيش نساؤهم في عالم الحريم، وعن الديمقراطية في حين يمدحون المستبد، ويسعون لنيل أوسمته وجوائزه، يجد الكاتب عذرا ربما في الخوف، فالخوف هو قاسم مشترك بين الناس في العالم العربي، فقيرهم وغنيهم، مثقفهم وأميهم صغيرهم وكبيرهم، إن الخائف لا يفكر بصوت مسموع ولا يمارس حياته بكل صراحة.
***
(*) القدس العربي