يا رَفِيَق الدَّرْبِ!

 

 

(لِمُناسَبَةِ رَحِيلِ الصَّدِيقِ العَلَّامَةِ الأَب بُولُس فغالِي)

 

كانَ لِقائِيَ الأَوَّلُ بِالأَب بُولُس فغالِي عندما عُيِّنْتُ أُستاذًا لِلرِّياضِيَّاتِ في ثانَوِيَّةِ بِشَرِّي الرَّسمِيَّةِ في تِشرِينَ الأَوَّل مِن العام 1968، حَيثُ كان هو أُستاذًا لِلُّغَةِ الفَرَنسِيَّةِ وناظِرًا، وكاهِنَ رَعِيَّة.

وتَوَطَّدَت صَداقَةٌ خالِصَةٌ امتَدَّت حَتَّى رَحِيلِهِ الكَئِيبِ في أَيلُولَ 2020.

كان، إِلى وَرَعِهِ، دَمِثَ الأَخلاقِ، مُحِبًّا، مَرِحًا، تَطِيبُ معه الجَلسَةُ، ويَنشُدُهُ الرِّفاقُ جَمِيعًا في ساعاتِ السَّمَرِ والسَّهَرِ والمُنادَمَة.

وكان مَرجِعًا في اللَّاهُوتِ المَسِيحِيِّ، لا يَرُدُّ طالِبًا، ولا يُعْيِيه سُؤَال.

أَصدَرَ مِئَاتِ الكُتُبِ والمَوسُوعاتِ والمَعاجِمِ الدِّينِيَّةِ، فَأَثرَى المَكتَبَةَ، ورَوَى غُلَّةَ الباحِثِين.

فَيا صَدِيقِي…

إِلى رِحابِ أَبِيكَ، الَّذي عَمِلْتَ بِهَدْيِهِ طَوالَ حَياتِكَ، عُدْ، فَلَقَد كَثَّرْتَ وَزَناتِكَ فَحَقَّ لَكَ ثَوابُهُ، فَاهْنَأْ بِهِ مع المُخَلَّصِين!

 

 

مَرَّتِ الأَيَّامُ، والعُمرُ تَداعَى،            فَتَوارَى الصَّحْبُ، يَمضُونَ سِراعا

يا رَفِيقَ الزَّمَنِ الأَجمَلِ، إِذْ              كانَتِ الدُّنيا لِمَبْغانا وَساعا

فَقَحَمناها بِآمالِ الصِّبا،                 ومَهَدناها وُلُوعًا واندِفاعا

يا «أَبُونا»(1)، ذاكِرٌ كَم كُنتَ، في        فَوْرَةٍ مِنَّا، تُوَقِّينا الضَّياعا

غَيرَ أَنَّا، والصِّبا رائِدُنا،                أُذُنٌ تَأْبَى، مع الشَّوقِ، سَماعا

آهِ… كَمْ كانَ دَفِيئًا عُمرُنا،             أَضلُعٌ تَحتَرُّ تَوْقًا والتِياعا

فَإِذا شَطَّ هَوانا كُنتَ، في               بَسمَةٍ، أَو زَفْرَةٍ، تَأسُو(2) الطِّباعا

أَينَها أَيَّامُنا، أَينَ المُنَى،             أَينَ ذاكَ العَهْدُ، رَبِّي أَينَ ضاعا

كَيفَ وَلَّتْ فَنَرانا، حِينَما             صَوَّحَ الدَّهرُ رُوانا، نَتَداعَى

كَتَماثِيلَ مِنَ الثَّلْجِ هَمَتْ             بَعدَ أَنْ تاهَتْ عُتُوًّا وارتِفاعا!

***

كُنتَ، والأَيَّامَ تَطوِيها ضَنًى،            واللَّيالِي إِثْرَها تَمضِي تِباعا،

هَيكَلًا يَنكَبُّ لِلبَحثِ فَلا                يَشتَكِي الضَّعْفَ، ولا يَدرِي انقِطاعا

أَنتَ إِنْ أَوهَى سُهادٌ مُقْلَةً،              وخَبا القِندِيلُ، تَشتَدُّ شُعاعا

ما تَلَكَّأْتَ عن السَّعْيِ ولا               هَدَّكَ البَحثُ فَطَلَّقتَ الصِّراعا

قَلَمًا كُنتَ بِساحِ الحَقِّ لا               يَعرِفُ الإِذعانَ، يُشْرَى، أَو يُباعا

في يَدٍ تَشهَرُ إِنجِيلاً، وفي              أُختِها تَحمِلُ لِلعِلمِ يَراعا

كُنتَ في الأُولَى تَقِيًّا وَرِعًا،             ومع الأُخرَى دَؤُوبًا وصَناعا(3)

يا رَفِيَق الدَّرْبِ، والدَّرِبُ عَفَت،        إِذْ دَعاكَ الغَيْبُ شَدَّيْتَ الشِّراعا

سِرْ إِلى رَبِّكَ دَبَّجْتَ له،                في مَدَى عُمرِكَ، ما يَزهُو رِقاعا

قد رَحَلتَ اليَومَ عَنَّا، فَلَنا                في تَوالِي الذِّكْرِ ما يُنسِي الوَداعا

إِنْ يَكُنْ عَزَّ التَّلاقِي بَعْدَ ذا،            نَبتَغِي، في طَيفِكَ الغالِي، اجتِماعا!

 

***

 

(1): «أَبُونا»: كُنْيَةٌ ولَقَبٌ لِلكاهِنِ المَسِيحِيّ

(2): أَسا المَرَضَ والمَرِيضَ: داواهُ وعالَجَهُ

(3): الصَّنَاعُ: الماهِرُ في الصِّناعَة

اترك رد