جميل الدويهي: معلّقة جبران خليل جبران

 

كتبت عام 2016 مطوّلة شعريّة من 70 بيتاً، عن المفكّر والأديب اللبناني جبران خليل جبران، بعنوان “معلّقة جبران خليل جبران”، ونشرت هذه القصيدة في صفحتي على فايسبوك، ثمّ سحبتها لقلّة التعليقات عليها آنذاك. وها إنّي أعيد نشرها في عام 2020، بعد أن حازت على إعجابي.

 

أيُّها المبحرونَ، تلكَ بلادي

من عبيرٍ مُسافرٍ في الوهادِ

أقحوانٌ على الذُّرى، أم عَروسٌ

ألقتِ الشالَ بين تـَلٍّ ووادِ؟

أبدعَ الله هَهنا من خَيالٍ

هيكلاً شامخاً، طويلَ العِمادِ

وأساطيرَ من جمالٍ عميقٍ

في كتاب الزمانِ، لا من مِدادِ

قل: طُموحٌ مغامرٌ، عبقريٌّ

لا يزالُ يدورُ في الأبعادِ

كم فتحنا جزيرةً في مُحيطٍ…

واكتشفنا مغاور السندبادِ؟

ليس للبحرِ شاطئٌ، نحن فيـ

ـه الريحُ، والموجُ، والشراعُ الهادي

وقلاعٌ لنا على كلِّ أرضٍ

تغلِب الموتَ، والضبابَ الرمادي

وحروفٌ أنيقةٌ نحتتْها

في الرخام سَواعدُ الأجدادِ

فإذا الدهرُ لمعةٌ من رؤانا

وللبنانَ موكبُ الأمجادِ.

***

عند تلك الجبالِ طفلٌ حزينٌ

يرسمُ الشمسَ، والغديرَ الشادي

ناحلُ الجسمِ في ثيابٍ رِقاقٍ

كثيابِ الرعاةِ والزُّهّادِ…

ماءُ عينيه مثلما النهرُ صافٍ

وهْو ينسابُ في خريرٍ هادي

ليس في البيتِ غيرُ نورٍ ضئيلٍ

فالليالي توشّحت بالسوادِ

والطعامُ القليلُ ما عاد يكفي…

والرغيفُ تقاسمتْه الأيادي…

كان في المنزل القديم صغارٌ

يشرَبون الدُّموعَ في الأعيادِ

والدروبُ عساكرٌ، وخُيولٌ…

والحقولُ مليئةٌ بالجَرادِ

قالت الأمُّ: رتّبوا كلَّ شيءٍ

فالبحارُ إلى الغَريق تنادي

لن نموتَ على الطَّوى في ديارٍ

عاش فيها العبيدُ للأسيادِ.

***

عالَمُ الغرْبِ من حَديدٍ وطينٍ

ضاقت الأرضُ فيه بالأجسادِ

ليس فيه براءةٌ، بل دُخانٌ

طارَ فوقَ مدينةٍ من جَمادِ

كيف للروح ومضةٌ في ترابٍ؟

كيف للوَحْي مهبطٌ في رَمادِ؟

إنَّه الفكرُ، يكسرُ الطوقَ عنهُ

ويغنِّي كما الطيورُ الغَوادي

عندَه السحرُ كلُّه، واتّساعٌ

كامتدادِ السماءِ فوقَ البَوادي

أدهشَ العصرَ، مثلَ قَدموسَ لمّا

هدَّأَ البحرَ، والرياحَ العَوادي

ومضى حاملاً إلى الناس حرفاً

من ضِياءٍ، وثورةً في المبادي

كم لهُ قصّةً مع الوحْيِ تُروى

وحضوراً طغى على كلِّ نادِ!

ذاك جبرانُ، قل: نبيٍّ جديدٌ

أضرمَ النارَ في الكَلامِ المُعادِ

ذاك جبرانُ، عازفُ النايِ، لولا

عزفُهُ، ظلّ شرقُنا في حِدادِ.

***

في كتابِ “النبيِّ” سرٌّ غَريبٌ

حِرتُ فيه، وحارَ منه فُؤادي

تُحفةٌ لم ترَ الخليقةُ أحلى

في طَويل السنينِ والآبادِ

“تائهٌ” قِيل، حينَ تاهَ طَويلاً

فإذا التيهُ يَقْظةٌ للعِبادِ…

بل هو” السابقُ” الذي جاء يَهْدي

ويُغِيرُ على السكوتِ المُعادِي

كَسّر الخُبزَ للجياعِ، فعادوا

يُخبرونَ الشعوبُ عن خَيرِ زادِ

ما “الجنونُ” سوى الجنونِ على مَن

يملأونَ الوُجودَ بالأحقادِ

مستبِدّون من زمانٍ قديمٍ…

يَضربون الصدورَ بالأوتاِد

قد أتاهُم من “العواصفِ” عَصفٌ

أين منه مَطارقُ الحَدّادِ؟

يهْدِم الليلَ، يْجلدُ الجِلْدَ، يرْمي

في الزنازيِن كلَّ زِيفِ اعتِقادِ

إنّ جبرانَ أرجَع الفكرَ حُرّاً

بعد طُولِ الحياةِ في الأصْفادِ.

***

آهِ جبرانُ لو تعودُ إلينا

لترى الجهلَ في ثَمودٍ وعادِ!

حاكِمونَ يُحاكمون البرايا

ورؤوسٌ تميلُ في الأعوادِ

وإذا الناسُ يصرخونَ: “كفانا”

يُذبَحونَ على يدِ الجلاَّدِ…

عندنا الليلُ في البيوتِ مُقيمٌ

والقبورُ تَضيقُ بالأعدادِ

ورجالٌ من الغَياهبِ عادوا

يَرْكبونَ على ظُهور الجـِيادِ

جاهليّونَ يَرقصونَ حُفاةً

في دماءِ النساءِ والأولادِ

والرجال على الرصيف ضحايا

جندلتهم بنادق الصيّادِ

أيُّ شرقٍ لنا؟ وأيُّ شروقٍ؟

أيُّ عقلٍ يَظلُّ للأحفادِ؟

فالوجوهُ كئيبةٌ، والأغاني

باكياتٌ على الشُّطوطِ البِعادِ

آهِ جبرانُ لو تعودُ إلينا…

فبلادي رهينة الأوغادِ

مَن أهانوا “النبيّ” في كلِّ يومٍ

وأذاقوا البريءَ كلَّ اضطِهادِ.

***

ما هو الموتُ؟ هل رحيلٌ بعيدٌ؟

أم حلولُ الظلامِ في المِيعادِ؟

أم حياةٌ جديدةٌ يستريح الــ

ـناس فيها بعد طولِ الجهادِ؟

هل نعودُ كما تقولُ، فإنّ الجسـ

ـمَ يَفني، وروحُنا في امتدادِ؟

هل نصيرُ مع الإلهِ، وفينا

كلُّ حقدٍ مدمِّرٍ، وفَسادِ؟

هل أنا الخيرُ لو أكونُ شقيّاً

وضميري أبيعهُ في المزادِ؟

هل أنا الحبُّ عندما أتمادى

في الأذى والشرورِ كلَّ التمادي؟

إنّ روحي عليلةٌ، وجَناحي

قد كَسرتُ على صُخورِ عِنادي

قلتَ عنّي: أنا القويُّ، ولكنْ

ما انتصرتُ بقوّتي، واعتدادي

يشْهدُ الله أنّ ضعفي كبيرٌ

والليالي تَضجّرتْ من سُهادي

من تراب أنا، وأيّامُ عمري

لا تزيدُ… وإن تكُنْ في ازدِيادِ.

***

يا ابنةَ الحقلِ، لا تنامي طويلاً

وارقُصي عند بَيدرِ الحَصَّادِ

واملئي الكأسَ بالرحيقِ، وغيبي

في الدُّجى عن بصائرِ الحُسّادِ

أنت ميٌّ، عرفُتُها من سكونٍ…

من صفاءٍ على الملامحِ بادي

تسألينَ: متى يعودُ حبيبي؟

جفّ دمعي ولم يَزل في رُقاد

في جبال الثلوجِ، يمشي ويمشي

والطريقُ تطولُ كالمُعتادِ

غابَ في الموتِ، في الحياةِ وفي سحـ

ـرِ الكلامِ العميقِ، والأبعادِ

سوف يأتي إليكِ من أُورْفَليسٍ…

أنتما روحُ عاشقٍ في اتِّحادِ

ضارباً كلَّ بائعٍ، كلَّ شارٍ

صارخاً في هياكل استبدادِ

خالداً في الزمانٍ كغابِ أرزٍ

طيِّب العطرِ، شامخِ الأعمادِ

إنَّ جبرانَ في البقاءِ بقاءٌ

كوكبُ الشِّعر فوقَ كُلِّ بِلادِ.

***

(*) مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني 2020

اترك رد