اسكَندَر داغِر… حاوَرَ المُبدِعِينَ فَأَبدَع!     

 

 

(لِمُناسَبَةِ صُدُورِ «فُرسانُ القَلَمِ في لُبنان» وَ «مِنَ العَتَمَةِ إِلى الضَّوْء» لِلصِّحافِيِّ الكاتِبِ اسكَندَر داغِر)

 

 

«إِسكَندَرُ» الماضِي طَوَى صَعْبَ الحُدُودِ بِإِنتِصارِهْ

ونَجِيُّنا جازَ العُقُولَ بِما تَأَلَّقَ مِن يَراعِهْ

«فُرسانُهُ» انتَثَرُوا على أَوراقِهِ ومَدَى بَيانِهْ

وسَرَى مِنَ الحَلَكِ الدَّجِيِّ إِلى الضِّياءِ على حِصانِهْ

لِيَعُودَ في فَجْرِ الحُرُوفِ مُجَلَّلًا بِسَنا جُمانِهْ

كَسَبَ السِّباقَ بِعَزمِهِ الماضِي وبَرَّزَ في رِهانِهْ

فَغَدا المِدادُ كَواكِبًا تَزهُو وتَبْرُقُ في زَمانِهْ!

 

 

اسكَندَر داغِر..

حاوَرَ المُبدِعِينَ فَأَبدَع!

هذا الصِّحافِيُّ المُبَرِّزُ، والأَدِيبُ الرَّقِيقُ، والقارِئُ المُحَنَّكُ لِما تُخفِيهِ الوُجُوهُ والسُّطُورُ، والشَّيْخُ الشَّابُّ المُخَضْرَم..

هو عَلَمٌ في السَّاحَةِ الثَّقافِيَّةِ، شابٌّ بِرُوحِهِ النَّشِطِ، وبَرِيقِ عَينَيهِ المُتَوَقِّدِ، وسَعيِهِ الَّذي لا يَعرِفُ الكَلالَ، ولَو بَدَت غُضُونٌ على جَبِينِهِ العالِي، وأَدبَرَت جُمَّةٌ كانت سَوداءَ زَاهِيَةً، فالخَرِيفُ أَقبَلَ بِخَيلِهِ ورَجْلِهِ، والعُمرُ أَثقَلَتهُ السِّنُونُ، ولكِنَّهُ اختَزَنَ ذَخائِرَ اِئتِمَنَهُ عَلَيها كِبارٌ رَحَلُوا مع الرَّاحِلِين.

جَدِيدُهُ، في دُنيا الحَرفِ، كِتابانِ قَيِّمانِ هُما «فُرسانُ القَلَمِ في لُبنان» وَ «مِنَ العَتَمَةِ إِلى الضَّوْء».

غِبَّ حِيازَتِي عَلَيهِما، رُحتُ أَتَصَفَّحُ واحِدًا فَأَدرَكتُ أَنَّنِي في صُحْبَةِ ناثِرٍ آسِرٍ يَروِي ما يُفِيدُ العَقلَ مَعرِفَةً، ويَزِيدُ الخَزِينَ الثَّقافِيَّ، ويُرِيحُ النَّفسَ المُتعَبَةَ مِن هُمُومِ الأَيَّام.

فَعُدتُ أَدراجِي إِلى الصَّفحَةِ الأُولَى، وبَدَأتُ قِراءَةً مُتَمَهِّلَةً، مُتَمَعِّنَةً، مُتَبَحِّرَةً، مُلتَقِطًا المَعلُوماتِ الثَّرَّةَ التِقاطَ السَّنابِلِ مِن حُقُولٍ ذَهَّبَتها الشَّمس.

وقُلتُ لِقَلَمي: قُمْ مِن سُباتِكَ، فَالرِّحلَةُ لَذاذَةٌ، واشتِيارُ الشَّهْدُ مَضمُونٌ، والاحتِفاءُ بِالصَّباحِ الباسِمِ مِن أَوْلَى الأُمُور. فَاقْطِفْ مِن أَقاحِهِما ما يُعَطِّرُ الدَّربَ المَحفُوفَةَ بِالشَّوكِ في وَطَنٍ تَنِزُّ جِراحُهُ، ولا مِن آسٍ أو مُؤَاسٍ، وَرَصِّعْ صَحِيفَتَكَ بِما يَلِيقُ بِالأَمِيرَينِ الوافِدَين..

لِلكِتابَينِ نَكهَةُ التَّجوالِ في مُرُوجٍ غَضَّةِ الشَّمِيم. هما حَلَقاتٌ مِنَ التَّذَكُّرِ والنَّجاوَى والبَوْحِ استَلَّها مِن أَلسِنَةِ عَمالِقَةِ الحَرْفِ ونَشَرَها بَواحًا في صَحائِفِهِ الوِضاء.

أَضيافُهُ  طَبَعُوا على عَصرِهِم مَلامِحَهُم فَنَتَأَت صُلْبَةً لا تَشْحَبُ على الحِقَب. كَما تَرَكُوا «دَوِيَّ أَعمالِهِم في الآذانِ(1)» كَأَنْ «تَداوَلُ سَمْعَ المَرْءِ أَنمُلُهُ العَشْرُ(2)».

تَتَمَيَّزُ كِتابَةُ صاحِبِنا بِسَلاسَةِ الأُسلُوبِ الصِّحافِيِّ على عُذُوبَةِ الأَدَبِ النَّابِضِ، والالتِزامِ الحُرِّ بِكَشْفِ الحَقِيقَةِ الَّتي خَفِيَت على الكَثِيرِينَ مِمَّن تَناوَلُوا مَسِيرَةَ هؤُلاءِ الكِبار. وكَيفَ لا، وهو الَّذي جاذَبَهُم رَيْحانَ الأَحادِيثِ، وما عادَ إِلى المَصادِرِ يَبتَزُّها، ويَستَقِي مِن مَعِينِ غَيرِهِ، بَل شَمَّرَ عن ساعِدَيهِ، ودَخَلَ الحَلْبَةَ، يُواجِهُ مَن قَصَدَ، لِيَستَلَّ مِن لِسانِهِ، بِبَراعَتِهِ ودَماثَتِهِ، ما قَد لا يَروِيهِ هذا المُبدِعُ إِمَّا اختَلَى بِقَلَمِهِ، لِأَنَّ العَقلَ، عِندَ التَّفَكُّرِ وَوَزْنِ الأُمُورِ، يَرقُبُ مَلِيًّا ما يَهُمُّ بِهِ اللَّسانُ، ويُمَرِّرُ في غِربالِهِ الدَّقِيقِ ما تُسِرُّ بِهِ النَّفسُ ويَبُوحُ بِحَمِيمِيَّتِهِ الفُؤَاد.

 

اسكَندَر داغِر..

لا تَعرِفُ مَعَهُ الإِملالَ، فَالسَّفَرُ في رَكْبِهِ راحَةٌ ومُتعَةٌ، فهو يُنسِيكَ مَشاغِلَكَ حَتَّى تَتَمَنَّى لَو تَطُولُ الرِّحلَةُ، فَالحُداءُ عَذْبٌ، والرَّحِيقُ الصَّافِي لا تَرتَوِي مِن خَدَرِهِ الجَوارِحُ العِطاش.

مِن فَضائِلِهِ الجَمَّةِ جَمْعُهُ الحاذِقُ لِآراءِ كِبارٍ مِن أُدَبائِنا حَولَ مَسائِلَ مُهِمَّةٍ، لَملَمَها، بَل استَلَّها مِن أَلسِنَتِهِمِ الَّتي لا تُسِرُّ إِلَّا بِالغَوالِي، فَجاءَت رُدُودًا مِن ذَواتِ الصُّدُورِ، على أَسئِلَةٍ مَدرُوسَة.

ومِن تَتَبُّعِنا لِهَؤُلاءِ الكِبارِ في الفِكرِ نَغْنَى مِن تَجارِبِهِمِ الحُبْلَى بِالمَعارِفِ. والحَياةُ سِلسِلَةٌ لا تَنقَطِعُ مِنَ الاختِباراتِ يَستَفِيدُ مِنها المَرءُ بِقَدْرِ حِكمَتِهِ، والحَصِيفُ مَن يَجمَعُ بُرَّها في كُواراتِهِ، ويَقطِفُ مِن كُرُومٍ زَرَعَها المُتَنَوِّرُونَ على دُرُوبِهِمِ المُضِيئَة. فَنَحنُ، مِثالًا، نَعلَمُ أَهَمِّيَّةَ الكِتابَةِ في حَياةِ الكاتِبِ الحَقِّ، ومَدَى حاجَتِهِ النَّفسِيَّةِ إِلى الخُلُودِ بِحِضْنِها، وقَد نَجهَلُ قُوَّةَ تَأثِيرِها في أَجسادِنا، فَجاءَنا الأَدِيبُ جُورج مَصْرُوعَة بِرَأيِه الفاصِل: «أَحتاجُ حَتَّى جَسَدِيًّا إِلى الكِتابَةِ، وفي يَقِينِي أَنَّ انقِطاعِي عَن هذا النَّشاطِ يُؤَدِّي بِي إِلى الانهِيارِ الكُلِّيّ» (فُرسانُ القَلَمِ في لُبنانَ، ص 221).

ومِن آرائِهِم ما هو جَرِيءٌ يَتَعَرَّضُ لِجَدَلِيَّاتٍ حَسَّاسَةٍ شَغَلَتِ القَومَ، ولَمَّا تَزَل. وَنَسُوقُ، مِثالًا، رَأْيَ الأَدِيبِ والشَّاعِرِ جُورج جُرداق، حَولَ المُشكِلَةِ الرَّاهِنَةِ بَينَ مَن يُدافِعُونَ عَنِ الشِّعرِ التَّقلِيدِيِّ التُّراثِيِّ العَمُودِيِّ بِصَلابَتِهِ وفَخامَتِهِ وأَناقَتِهِ وغِناهُ، وبَينَ مَن يُناصِرُونَ الشِّعرَ الحَدِيثَ والسَّاعِينَ إِلى تَحطِيمِ «صَنَمِيَّةٍ» – أَخْذًا بَقَولِ بَعضِهِم – تَستَعبِدُ الشَّاعِرَ، وتُكَبِّلُ انطِلاقَتَهُ، وتَحِدُّ مِن خَيالِهِ، وتُقَوْقِعُ الشِّعرَ في أَوزانٍ قُيُود. يَقُولُ «الجُرداق»: «خَمسَةٌ وتِسعُونَ بِالمائَةِ مِنَ الكُتُبِ الَّتي تَصدُرُ في العالَمِ العَرَبِيِّ ولاسِيَّما في لُبنانَ لَها وَقْعٌ سَيِّءٌ في نَفسِي… وأَسخَفُ هذه الكُتُبِ جَمِيعًا الكُتُبُ الَّتي يَقُولُ أَصحابُها إِنَّها دَواوِينُ شِعرِيَّة. وغايَةُ السُّخْفِ فِيها ما يَصدُرُ بِاسمِ ما يَدعُونَهُ «شِعْرًا حَدِيثًا»» (فُرسانُ القَلَمِ في لُبنانَ، ص 99).

ويُلاقِيهِ «مَصرُوعَة» بِصَراحَتِهِ الَّتِي قَد يَراها بَعْضٌ فِجَّةً فَيَقُول: «أَلمُحتاجُونَ إِلى الصَّمتِ هُمُ اليَومَ كُثُرٌ، ولا يَخلُو عالَمُ الأَدَبِ مِنهُم… رُبَّما كان صَمتُهُم، رَحمَةً لَهُم أَوَّلًا، ثُمَّ لَنا» (فُرسانُ القَلَمِ في لُبنانَ، ص 225).

ومِمَّا رَأَيتُ مِن أَدِيبَيْنا سالِفَي الذِّكْرِ فَإِنَّنِي أَزدادُ قَناعَةً بِأَنَّ كَثِيرِينَ مِن حَمَلَةِ الأَقلامِ يَتَهافَتُونَ على مَعْمَعانِ الكِتابَةِ، ويَتَهالَكُونَ في طَلَبِ الشُّهرَةِ، مُصَعِّدِينَ في جَبَلٍ لا تُسعِفُهُم رُكَبُهُمُ الواهِيَةُ في تَوَقُّلِ مَراقِيهِ الصَّعبَةِ، فَلا يُحرِزُونَ في الحَلْبَةِ نَصْرًا يُذكَرُ، ولا يَعُودُونَ مِن رِحْلَةِ الإِبداعِ إِلَّا بِسَقَطِ مَتاعٍ يَكُونُ عِبْئًا على رُفُوفِنا، وهَباءً في نَسِيمِنا العَلِيل.

وأَرانِي أَستَأنِسُ بِرَأيِ الشَّاعِرِ راجِي عَشقُوتِي: «لَيسَ هُناكَ، شِعرٌ قَدِيمٌ، وشِعرٌ حَدِيثٌ، هُناكَ شِعرٌ وَحَسْبُ. وما القَدِيمُ وما الحَدِيثُ، إِلَّا استِمرارٌ لِلُعبَةِ الإِنسانِ في التَّلاعُبِ على أَلفاظِ طُمُوحِهِ، أَو فُضُولِهِ، إِلَّا هُوِيَّةٌ واحِدَةٌ لِشَخصِيَّتَينِ تَتَمازَجانِ، بَل وتَتَلاحَمانِ مُنطَلَقًا وغايَة… هُما الشِّعرُ في مُطْلَقِهِ، قَدِيمِهِ وَحَدِيثَه» (مِنَ العَتَمَةِ إِلى الضَّوْء، ص 147).

أَما أَصابَ صاحِبُنا؟!

أَلَيسَ الجَمالُ الجَمالَ أَنَّى وُجِدَ وكَيفَما تَمَظهَر؟!

أَلَيسَ قَدْرُهُ الأَثَرَ الَّذي يَترُكُهُ في النَّفسِ، والَّذي يَرفَعُها إِلى التَّجَرُّدِ والشَّفافِيَّةِ والتَّعالِي على عَفَرِ الأَدِيمِ، مُتَماهِيًا مع أَثِيرٍ مِنْ نَقاء؟!

ومِنَ الآراءِ الَّتي تَستَأهِلُ الوُقُوفَ عَلَيها، وتَعمِيمَها على كُلِّ شاعِرٍ، مُبتَدِئًا كانَ أَم مِمَّن أَوغَلُوا في مُراوَدَةِ النَّظِيمِ، رَأيٌ لِلشَّاعِرِ فُؤَاد الخشِن: «دَربُ الشِّعرِ دَربٌ لانِهائِيَّةٌ، على الشَّاعِرِ أَن يُحِسَّ أَنَّهُ دائِمًا في بِدايَتِها لِيَستَمِرَّ في العَطاءِ والتَّطَوُّر…» (مِنَ العَتَمَةِ إِلى الضَّوْء، ص 207).

ونَعُودُ إِلى «الجُرْداق» نَقرَأُهُ ضاحِدًا القَولَ المَأثُورَ: «وَراءَ كُلِّ رَجُلٍ عَظِيمٍ امرَأَة» – الَّذِي يُنسَبُ إِلى نابُوليُون بُونابَرت وهو، في الحَقِيقَةِ، لِلفَيلَسُوفِ الإِغرِيقِيِّ أَرِسطُو -: «أَلمَرأَةُ يُمكِنُها أَن تَكُونَ وَراءَ كَثِيرٍ مِن الآثارِ العَظِيمَةِ، بِوَصفِها أَحَدَ الكائِناتِ الَّتِي يَستَلهِمُها أَهلُ الفَنِّ، ولكِنَّ هذا الأَمرَ لا يَعنِي أَنَّ المَرأَةَ يَجِبُ أَن تَكُونَ بِالضَّرُورَةِ وَراءَ كُلِّ عَمَلٍ عَظِيم» (فُرسانُ القَلَمِ في لُبنانَ، ص 99).

كَما يُعطِي رَأْيًا جارِحًا في الحَرَكَةِ النِّسائِيَّةِ الأَدَبِيَّة: «في لُبنانَ حَرَكَةٌ نِسائِيَّةٌ، لا عَلاقَةَ لَها بِالأَدَب» (فُرسانُ القَلَمِ في لُبنانَ، ص 100).

ومِنَ الأَفكارِ الطَّرِيفَةِ ما أَتحَفَنا بِهِ الشَّاعِرُ تَوفِيق ابراهِيم: «إِنَّ جَمالَ بِلادِنا أَفضَلُ مِن جَمالِ سوِيسرا، وأَكبَرُ دَلِيلٍ على ذلك، هو أَنَّ الطَّبِيعَةَ في لُبنانَ أَوجَدَت شُعَراءَ وأُدَباءَ تَأَثَّرُوا بِجَمالِها، وغَنُّوا بِلادَهُم بِأَعذَبِ القَصائِد… بَينَما طَبِيعَةُ سوِيسرا لَم تُفلِحْ في إِيجادِ شاعِرٍ أَو أَدِيبٍ بارِز!» (مِنَ العَتَمَةِ إِلى الضَّوْء، ص 139).

وها هو الشَّاعِرُ يُوسُف غصُوب يُسَلِّطُ الضَّوءَ على حَقِيقَةٍ يَغفُلُ عَنها كَثِيرُونَ، أَلَا وهي كَيفِيَّةُ المُطالَعَةِ المُجدِيَةِ، فَيَقُول: «على القارِئِ أَن يَتَجاوَزَ بِالفِكرِ حُدُودَ الأَلفاظِ فَيَفتَحَ ناظِرَيهِ على ما لَم يَجْرِ بِهِ المِدادُ ولَم تَستَوعِبْهُ الصَّحائِف» (مِنَ العَتَمَةِ إِلى الضَّوْء، ص 32).

هي حَقِيقَةٌ ساطِعَةٌ وإِنْ خَفِيَت على جُمهُورٍ عَرِيضٍ مِنَ القُرَّاءِ يَتَناوَلُ الكَلِمَ فَيَتَلَهَّى بِقُشُورِهِ عن لُبابِهِ، ويَبقَى على سَطحِهِ البارِزِ فَلا يَغُوصُ إِلى عُمقِهِ حَيثُ جَوهَرُهُ وسِرُّ حَياتِهِ ودُرُّهُ المَكنُونُ، ثُمَّ يَرُوحُ يَنثُرُ أَحكامَهُ الخاطِئَةَ فَيَصلُبُ العَمَلَ الإِبداعِيَّ على خَشَبَةِ جَهلِهِ وتَقصِيرِه.

 

اسكَندَر داغِر..

هذا «الحَكَواتِيُّ» المُشَوِّقُ يَأخُذُ مِن كُلِّ مُبْدِعٍ حاوَرَهُ ما يُثِيرُ فُضُولَ القارِئِ المُفَتِّشِ عَنِ التَّسرِيَةِ، كما يُرَوِّي عَطَشَ المُثَقَّفِ الَّذي يَستَزِيدُ العِلمَ ولا يَكتَفِي.

فَمِن أَلسِنَتِهِم – وكُلُّهُم ذَرِبٌ -، وعُقُولِهِم وهي مَشاغِلُ مَعرِفَةٍ، ومِن مُعايَشَتِهِمِ الكِتابَةَ طَوِيلًا، بِشُؤُونِها وشُجُونِها، يَمْتَحُ صَدِيقُنا آراءً حاسِمَةً تَنُمُّ عن عُمْقٍ وحَصافَة. فَها هو، مِن سُؤَالِهِ الأَدِيبَ رَئِيف خُورِي، يَأخُذُ مِنهُ رَأْيَهُ الثَّمِينَ القاطِع: «على أَنَّ لِي رَأْيًا في العامِّيَّةِ والفُصْحَى، هو أَنَّهُما صُورَتانِ لِلُغَةٍ واحِدَةٍ، وقد تَعايَشَتا على مَرِّ الأَجيالِ، فَكانَت الفُصحَى بِمَثابَةِ مَثَلٍ أَعلَى تَنهَضُ إِلَيهِ العامِّيَّةُ، وكانت العامِّيَّةُ بِمَثابَةِ مَصْنَعٍ يُوَلِّدُ لِلفُصحَى ما تَحتاجُ إِلَيهِ لِمُسايَرَةِ مَوكِبِ الحَياةِ على الدَّوام. لِذلِكَ عَرَفَ تارِيخُ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ عَمَلِيَّتَينِ مُتَساوِيَتَين: إِحداهُما عَمَلِيَّةُ تَعمِيمِ الفَصِيحِ والأُخرَى عَمَلِيَّةُ تَفصِيحِ العامَّيَّة. وعلى هذا الأَساسِ يُمكِنُ القَولُ، إِنَّ بِنْيَةَ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ رُكِّبَت وقامَت واستَطاعَت أَن تَصمُدَ عُمرًا لَم تَصمُدْ لَهُ أَيُّ لُغَةٍ أُخرَى» (فُرسانُ القَلَمِ في لُبنانَ، ص 151).

كما يُفِيدُنا عِلْمًا مِنَ الأَدِيبِ قَدْرِي قَلْعَجِي، ذِي النِّضالِ الدَّؤُوبِ، والتَّجرِبَةِ المَدِيدَةِ، في مَوضُوعٍ يُلامِسُ الالتِزامَ في الأَدَبِ، إِذ يَقُول: «بَعدَ خِبْرَتِي الطَّوِيلَةِ، اقتَنَعتُ بِأَنَّ الأَدِيبَ الحَقَّ، لا يَستَطِيعُ أَن يَكُونَ عُضْوًا في حِزْبٍ سِياسِيٍّ، لِأَنَّ أَوَّلَ مَزايا الأَدِيبِ هي الحُرِّيَّةُ الفِكرِيَّةُ، والنَّقدُ المُستَمِرُّ، والبَحثُ عن الخَيرِ والقِيَمِ العالِيَةِ، في كُلِّ وَجْهٍ وفي كُلِّ مَيْدانٍ، وكَثِيرًا ما تَتَعارَضُ هذه النَّزَعاتُ مع التَّقَيُّدِ في حُدُودٍ مَرسُومَةٍ لا يَجُوزُ لِلأَدِيبِ الحِزبِيِّ أَن يَتَطَلَّعَ إِلى ما وَراءَها مِن آفاقٍ قد تَكُونُ زاخِرَةً بِتِلكَ القِيَمِ والآمالِ الَّتِي يَنزَعُ إِلَيها…» (فُرسانُ القَلَمِ في لُبنانَ، ص 200).

مَروِيَّاتُ «اسكَنْدَرِنا» مَوسُومَةٌ بِالصِّحَّةِ، فَهِيَ مُسنَدَةٌ، غَيرُ مُطَرَّزَةٍ بِخُيُوطِ الخَيالِ مِن صِحافِيٍّ طامِحٍ إِلى الإِثارَةِ والسَّبْقِ، ولو على حِسابِ واقِعٍ باتَ في عُهْدَةِ التَّارِيخ. وكِتاباتُهُ المُكَثَّفَةُ تَتَمَيَّزُ بِذَكاءِ الاختِيارِ الَّذي يُقَدِّمُ صُورَةً – وإِن تَكُنْ مُجتَزَأَةً – تَشمُلُ جَوانِبَ المَوضُوعَةِ الأَساس. وهي لَيسَت مَدِيحًا وتَقرِيظًا، على ما جَرَتِ العادَةُ هذه الأَيَّامَ، فَصَدِيقُنا يَرفَعُ الحَقِيقَةَ شِعارًا، فَيُعطِي «ما لِقَيصَرَ لِقَيصَرَ وما لِلَّهِ لِلَّه»، على أَن يَسأَلَهُ، بِالكِياسَةِ واللَّباقَةِ، عن هَناتِهِ وعُيُوبِه. فَها هو يَقُولُ عن جُبران خَلِيل جُبران: «في رَسائِلِهِ المُتَبادَلَةِ مع صَدِيقَتِهِ مارِي هاسكل، كان يُخبِرُها أَنَّ والِدَهُ مِن أَبرَزِ شَخصِيَّاتِ بَلدَتِهِ بشَرِّي ومِن أَغناهُم […] وما هُنالك مِنَ الحِكاياتِ الخُرافِيَّةِ، لِأَسبابٍ وأَسباب» (فُرسانُ القَلَمِ في لُبنانَ، ص 9).

وعن تَوفِيق يُوسُف عَوَّاد يَقُول: «لَقَد ضَرَبَ عَرْضَ الحائِطِ بِكُلِّ هذه الحَقائِقِ، وتَجاهَلَها بِشَكلٍ كامِل» (فُرسانُ القَلَمِ في لُبنانَ، ص 18).

وهذا يَدُلُّ على مَوضُوعِيَّتِهِ، وتَوَخِّيهِ الحَقِيقَةَ، مِن دُونِ غَرَضٍ ، أَو هَوًى شَخصِيٍّ، أَو تَهَيُّبٍ مِنِ اسْمٍ عَرِيضٍ لَمَّاعٍ كادَ أَن يَكُونَ (طَوْطَمًا Totem) في قَومِه.

هو الصِّحافِيُّ الحُرُّ الَّذي ما عُرِفَ عَنهُ تَزَلُّفٌ، ولا باعَ قَلَمَهُ في سُوقٍ لِلنِّخاسَةِ راجَ لِفَترَةٍ كَسَبَت خِلالَها بَعضُ الأَقلامِ المَأجُورَةِ أَصفَرًا هَزِيلًا زادَ اصفِرارَها وهُزالَها في مِهرَجاناتِ القَول.

صَدِيقَنا

في مَطاوِي كِتابَيكَ وَجَدنا أَخبارًا وطَرائِفَ كانت لِتُنسَى لَو لَم تَنْضُ يَراعَكَ وتَنتَشِلْها مِن بَراثِنِ النِّسيان. وهي ما وَرَدَت عِندَ سِواكَ لِأَنَّها ابنَةُ السَّاعَةِ في لِقاءَاتِكَ، وكانت تَداعِيًا لِمَجْرَياتِ الأَحادِيث. وهنا فَضْلٌ آخَرُ لَكَ مِن فَيْضِ أَفضالِكَ، أَنَّكَ وَرَّثْتَ الآتِيَ زادًا لَن يَتَخَلَّى عنه ولو كَرَّتْ قُرُونٌ، يَعُودُ إِلَيهِ في ساعاتِ السَّمَرِ، واحتِشادِ عُشَّاقِ الكَلِمَةِ حَولَ مَوائِدِها السَّخِيَّة.

وإِنَّكَ لَتُغْبَطُ على لِقاءَاتِكَ مع مَن باتُوا في ضَمائِرِنا رُمُوزًا لِلبَدْعِ في زَمَنِ الخِصْبِ، وأَيَّامِ البَساطَةِ الجَمِيلَة.

في نِهايَةِ مَطافِي مَعَكَ، أَخِي اسكَندَر، أَرفَعُ كَفِّي إِلى جَبِينِي امتِنانًا لَكَ على رِحلَةٍ «بانُورامِيَّةٍ» في رِياضِ ما يُقارِبُ السِّتِّينَ مِن مُبدِعِينا، أَبناءِ أَرضِنا الطَّيِّبَةِ، عُدتُ مِنها وخَزائِنِي تَهزَجُ بِكُلِّ طَرِيفٍ ظَرِيفٍ مُنِيف. لَقَد أَشَعتَ العِطْرَ في دُرُوبِنا، تُلَطِّفُ مِن وَعثائِها، وتَرُدُّ بَعضَ جَمِيلٍ عَلَينا لِمَن نَذَرُوا أَيَّامَهُم في استِجداءِ الحَرْفِ، كَي نَختالَ في مَواكِبِ الأُمَمِ الرَّاقِيَةِ، ونَرمُقَ العَلاءَ بِأَعيُنٍ مِلاءٍ بِالعِزَّةِ والفَخار.

لَقَد زَوَّدتَنا بِذِكرَياتٍ دافِئَةٍ لَن تَبرَحَ مُخَيِّلَتَنا، وإِنَّنا إِلَيها كُلَّما تاقَت نُفُوسُنا إِلى البَهارِ، ومَراقِي العُلَى.

لَكَم نَعِمْنا في صُحبَتِها، والصَّوَرِ المُرفَقاتِ، ولَو مِن بَعِيدٍ، وَحَسْبُنا أَنَّ «مَن فاتَهُ اللَّحمُ فَلْيَشْبَعْ مِنَ المَرَق».

تَقُول: «يَرحَلُ الإِنسانُ وتَبقَى بَصَماتُهُ» (فُرسانُ القَلَمِ في لُبنانَ، ص 193).

وإِنَّكَ لَباقٍ بِكُلِّ ما طَبَعتَ مِن بَصَماتٍ على جِدارِ البَقاء.

أَمَدَّ اللهُ في عُمرِكَ طَوِيلًا لِتَكثُرَ بَصَماتُكَ تَواشِيحَ سَناءٍ في سِجِلِّ الخالِدِينَ، يا مُرَيَّشًا في حِرْفَةِ الكِتابَة..

سَلِمتَ لِلعَطاء!

ـــــــــــــــــــــــ

1): فَإِذا أَخرَسَ الزَّمانُ لِسانِي      فَدَوِيُّ الأَعمالِ في آذانِهْ   (سَعِيد تَقِيِّ الدِّين)

2): وَتَركُكَ في الدُّنيا دَوِيًّا كَأَنَّما          تَداوَلُ سَمْعَ المَرْءِ أَنمُلُهُ العَشْرُ   (المُتَنَبِّي)

 

 

اترك رد