إعداد د. جميل الدويهي
من الأمور المحيّرة التي تحيط بحياة القديسة مريم، والدة السيّد المسيح، تعدّد الروايات حول السنوات الأخيرة من وجودها على الأرض. وليس مفهوماً أن تكون العذراء مريم، وهي أمّ الإله في نظر المسيحيّين، موضوعاً لروايات كثيرة… فالمؤرّخون، وكذلك الرويات الشعبية، لم يقدّموا نصّاً واحداً فقط يؤكّد المكان الذي عاشت فيه، بعد صلب المسيح وقيامته.
ويعتمد الذين يقولون إنّ مريم العذراء عاشت في أفسس (تركيا) على قول المسيح على الصليب للقدّيس يوحنّا الحبيب: “هذه أمّك”. كما قال لمريم: “هذا ابنك”، فإذا كان يوحنّا الحبيب قد ذهب إلى أفسس، فبالنسبة لهؤلاء، ستكون مريم العذراء هناك معه.
والقصّة عن حياة العذراء في أفسس، ترتبط بتقليد شعبي، وأيضاً بما ذكره إريناوس وإيسوبيوس القيصري، عن أن القديس يوحنا ذهب إلى أفسس حيث عاش ومات هناك. وجاء في رسالة مؤرخة عام 431، إلى مجلس أفسس: “مدينة أفسس، حيث عاش يوحنا الإنجيلي والعذراء مريم ودُفنا”. كما ذكر بار هبرايوس، وهو قس يعقوبي عاش في القرن الثالث عشر، أن القديس يوحنا أخذ مريم العذراء إلى باتموس، ثم اسّسا كنيسة أفسس القريبة، كما ذكر البابا بنديكتوس السادس عشر أن مريم لحقت بيوحنا إلى أفسس. وكان البابا يريد أن يلغي النص الذي يقول إن مريم العذراء دفنت في أورشليم، لكنه مات قبل أن يفعل ذلك. وذكر أبيفاميوس السلامي في القرن الرابع الميلادي أن العذراء قد تكون أمضت سنواتها الاخيرة في أفسس.
ويعتقد السكان في أفسس أن كنيسة السيدة العذراء التي تأسست هناك هي أول كنيسة على اسم العذراء.
ولا يزال هناك منزل قديم في أفسس يعتقد أنه المنزل الذي عاشت فيه السيدة العذراء، ويدعى “مريمانا”، ولاكتشاف هذا البيت قصة غريبة، فقد رأت إحدى الراهبات الألمانيات، وتدعى كاترين إيمريش (1774-1824)، في المنام منزل السيدة العذراء في أفسس، وإيمريش لم تزر أفسس في حياتها، ويقال إن هذه الراهبة تقية جداً، وقد ظهرت على جسدها جروح المسيح منذ عام 1813.
وقد استرعى هذا الحدث انتباه شاعر يدعى كليمنس برينتانو، فأجرى مقابلات مطوّلة مع الراهبة حتى ماتت عام 1824. ونشر هذا الشاعر ما سمعه من الراهبة في كتاب من جزءين صدرا عام 1833 و1852 على التوالي.
وقد اتُّهم برينتانو بأنّ كتابيه يحتويان على أكاذيب. وهذا أدّى إلى إلغاء طلب قداسة الراهبة إيمريش، التي عاد قداسة البابا يوحنا بولس الثاني وأعلنها طوباوية عام 2004.
وبناء على رؤى الراهبة، قام كاهن فرنسيّ يدعى أبي جوليان غوييت، في تشرين الأول 1881، بالبحث عن المنزل، فوجده على سفح تلة “كوريسوس” المطلّة على بحر إيجه. واعتبر الكاهن أنّ المنزل يطابق الرؤية التي تحدّثت عنها الراهبة إيمريش.
ومنذ عام 1891، تحوّل المنزل الحجريّ إلى مزار لآلاف الزائرين من أنحاء العالم. وقام بزيارته أيضاً ثلاثة بابوات هم: البابا بولس السادس عام 1961، والبابا يوحنا بولس الثاني عام 1979، والبابا بنديكتوس السادس عشر عام 2006.
تركمانستان
في التقليد الشعبي الديني في شرق تركمانستان، أن العذراء مريم عاشت هناك بعد صلب السيد المسيح وقيامته. ويعتقد أنّ مريم العذراء ماتت ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث صعدت جسداً وروحاً إلى السماء. في تشبيه مباشر بموت المسيح وقيامته، ولا يختلف إيمان المسيحيّين التركمان، وهم أقلية ضئيلة بين السكّان المسلمين، بالنسبة إلى”رقاد” وليس “موت” مريم العذراء عن اعتقاد أغلب المسيحيّين، حيث أن عيد انتقال العذراء هو في الخامس عشر من شهر آب. والانتقال يختلف عن الموت بكلّ تأكيد.
وفي تركمانستان مدينة تدعى Merv، أو ماري، ويعتقد أنّ مريم العذراء عاشت وانتقلت إلى السماء من هناك. ولكن ليس معروفاً كيف وصلت العذراء إلى ماري، وهي بلاد بعيدة عن أورشليم، ما يلقي ظلالاً من الشكّ على الرواية الشعبيّة التركمانية، التي يقال إنّ النساطرة يؤيدونها.
رواية إسلاميّة
في إحدى الروايات الإسلامية عن السنوات الأخيرة لحياة مريم العذراء، أنّها عاشت مع ولدها النبي عيسى عليهما السلام في الجبل بعيدَين عن أعين الناس، يَتَعبدان ويَقومانِ في الليل ويَصومان في النهار، يعتمِدان في غذائهما على نباتات الأرض ومياه المطر، وفي أحد الأيام نَزَل عيسى من الجبل لجمعِ بعض النباتات ليأكلَ مع والدته، في هذه الأثناء نَزَل مَلاك على السيدة مريم وهي تُصلّي في مِحرابها، فخافت ووقعت مغشيّاً عليها، وبعد أنْ أفاقت قالت للمَلاك: من أنت يرحمك الله؟ قال لها: أنا مَلَك الموت. فقالت له: جِئت زائراً أم قابضاً؟ قال: بل قابضاً. فقالت: يا ملَك الموت لا تَتَعجّل حتى يعود قُرَّةُ عيني، وريحانة قلبي، وفلذة كبدي عيسى. فقال لها: ما أَمرني الله تعالى بذلك، وأنا عبد مأمور من الله. فقالت: يا ملَك الموت قد سلَّمتُ أمري لله تعالى ورضيتُ بقضائه.
فَنَزل سيدنا عيسى إلى إحدى قرى بني إسرائيل ينادي: يا بني إسرائيل أنا روح الله عيسى ابن مريم، إنّ أمي قد ماتت فأعينوني على غسلها ودفنها، فردّ عليه أهل القرية بأن هذا الجبل مليء بالأفاعي ولم يسلكه أحد منذ سنين، فعاد سيّدنا عيسى وفي طريق عودته لَقي رجلين فقال لهما: إنَّ أمي ماتت غريبة بهذا الجبل، فأعينوني على دفنها، فرد الرجلان بأنَّ جبريل قد أرسلهما لذلك، فحفرا القبر، ونزلت الحُور العِين فغسَّلْنَها، ودفنها عليها رضوان الله ورحمته.
نرى في هذه الرواية أنّ مريم العذراء قد ماتت قبل ولدها، وهذا ينفي حقيقة مسيحية يقوم عليها الإيمان المسيحي، وهي الصلب والقيامة، والإنجيل ومؤرخون كثيرون جداً يذكرون أن المسيح صلب في الثالثة والثلاثين من عمره، ومريم ماتت في الثالثة والخمسين على الأرجح أي بعده وليس قبله. كما أن الرواية الآنفة تسمّي المسيح بالنبي، أسوة بغيره من الأنبياء، وهو عند المسيحيين الإله المتجسد، وهو الوحيد الذي أقام الموتي وتكلم في المهد صبياً. ولو كان نبياً حقاً لكان وُلد من امرأة عادية كما ولد جميع الأنبياء، ولم يولد من امرأة عذراء في حكمة إلهية عجيبة تدل على تفرده واختلافه عن الأنبياء.
ولم تحدد الرواية الإسلامية مكان الجبل الذي دفنت فيه مريم، ولكنها تتوافق مع ما ذكره المحدث النوري في كتاب “مستدرك الوسائل” “أن عيسى ناداها بعدما دفنت فقال: يا أماه ، هل تريدين أن ترجعي إلى الدنيا؟ قالت: نعم، لأصلي لله في ليلة شديدة البرد، وأصوم يوما شديد الحر ، يا بنّي ، فإن الطريق مخوف” (ج 7، ص 505)، أي إن المسيح كان حياً عندما انتقلت مريم، بحسب الرواية.
وذكر المؤرخ ابن الجوزي في كتابه “المنتظم في تاريخ الملوك والأمم” ج 2، ص41 عن “وفاة مريم عليها السلام، فإنّها بقيت بعد رفعه (المسيح) ست سنين ، وكان جميع عمرها نيفاً وخمسين سنة”.
وذكر النويري صاحب كتاب نهاية الإرب في فنون الأدب (ج 14، ص 248): “قال الكسائىّ قال كعب: ماتت مريم ابنة عمران أمّ عيسى عليهما السلام قبل رفعه، فدفنها في مشاريق بيت المقدس”.
وتؤكد رواية النويري أن قبر العذراء هو في مشاريق القدس. وهذا يتوافق مع حقيقة وجود قبر يُعتقد أن العذراء قد دفنت فيه على سفوح جبل الزيتون في القدس. لكن الرواية لا تتوافق مع الحقائق المسيحية بأن يسوع صلب وصعد إلى السماء وكانت مريم أمه لا تزال حية.
في الهند وكشمير
إذا كان صحيحاً أن السيد المسيح قد زار الهند والتيبيت في فترة من حياته لا نعلم عنها الشيء الكثير (بين سن 12 و29 عاماً)، فقد تكون مريم العذراء ذهبت معه إلى هناك، وهي المعروف عنها بأنها كانت ترافقه في حله وترحاله.
وهناك عدد كبير من الكتاب والمؤرخين الذين حاولوا إثبات أن المسيح كان في الهند لفترة طويلة، ومنهم لويس جاكوليوت الذي ألف كتاباً عام 1869، بعنوان الإنجيل في الهند، ونيكولاس نيتوفيتش الذي وضع وثيقةعام 1887 بعنوان “حياة القديس عيسى- أفضل ابناء الإنسان”، وليفي دولينغ الذي كتب في عام 1908 أن المسيح ذهب إلى الهند والتيبت وفارس، وأشور، واليونان ومصر… ونيكولاس رودريتش الذي زعم في عام 1925 أن المسيح ذهب إلى الهند برفقة تجّار… إلى ما هنالك من روايات تخالف الإيمان المسيحي ولم يأت على ذكرها. ومن الساذج أنّ بعض الروايات تحدثت عن زيارة المسيح إلى إنكلترا، وهذا أقرب إلى أساطير تم تداولها في القرن الثاني عشر، وظهرت في أعمال أدباء وشعراء، منهم روبرت دو بورون، ثم ويليام بلايك في قصيدته “وهكذا فعلت تلك القدمان في الزمان القديم”.
ومثل ذلك القول الغريب أن المسيح قد سافر إلى أميركا أيضاً في عام 600 (كتاب المورمون، الفصل 11-18).
هذا “السفر” إلى أميركا حدث كما هو واضح بعد 600 سنة من صلب المسيح، أي بعد القيامة. وتلك الرواية لا تختلف عنها قصص أخرى عن سفره بعد القيامة أيضاً إلى الهند وكشمير وروما والتيبت وبورما.
يعتقد ميرزا غلام أحمد، مؤسس مذهب الأحمدية أن المسيح مات في كشمير بعمر 120 سنة… كما يرى مفكر يدعى ماهر بابا (1894-1969) أن المسيح عندما صلب، لم يمت جسدياً، لكنه دخل في حالة تدعى “أنا الله بدون وعي جسدي”، وفي اليوم الثالث عادت إليه حياة الجسد، وتجوّل متخفياً في العديد من الأماكن مع تلاميذ له، وتحديداً مع برتلماوس وتدايوس، ووصلوا إلى الهند. وسمي هناك مسيح القيامة، كما سافر إلى رانغون في بورما، ثم عاد إلى كشمير ودفن في بلدة هارفان، بإقليم كان يار.
من أين جاء ماهر بابا بهذه الرواية؟
أجابت التقاليد الشعبية عن السؤال كما يلي: بعد نجاة المسيح من الصلب، سافر إلى الهند بصحبة مريم العذراء، حيث بقيا هناك حتى نهاية حياتهما، وتعتقد الطائفة الأحمدية أن مريم العذراء دفنت في بلدة تدعى موري Murree في باكستان، وإن قبرها موجود في مزار Mai Mari da Ashtan.
ونحن لا نؤيد هذه الروايات الشعبية، إنما نعرضها من باب العلم ونقل المعرفة.
في العراق
وهناك رواية اخرى عن مرقد مريم العذراء من العراق، فقد جاء في تقرير المؤسسة العامة للآثار والتراث العراقي: “يقع مرقد مريم العذراء في جانب الكرخ ببغداد وقد باشرت هيئة تمثل المؤسسة العامة للآثار و التراث في 2/5 / 1984 في التنقيب و التأكد من حقيقته… وإنه عند الحفر وجدت الهيئة رخامة و عند قلبها ظهر عليها صورة أسد منحوت بنحت بارز في رقبته سلسلة وفي ظهره طائر بهيئة نسر او صقر وإن مقدمة لوح الرخام كانت بهيئة نصف عقد مدبب. و تبين ان القبر مشيد بشكل صندوق من الآجر، وتم النزول بالحفر الى عمق مترين ونصف المتر عن مستوى صبة الأسمنت، فظهرت طبقة من التراب النظيف ثم ظهرت الجمجمة وتحتها آجرة وباقي عظام الصدر والمنكبين، وبعدئذ تم تصوير الهيكل العظمي. وقد عمل صندوق من الخشب للمحافظة على بقايا الرفاة [هكذا]، و عند الحفر لإنزال الصندوق عثر على قطعة من الرخام الأسود مطعمة بالرخام الأبيض عليها زخارف هندسية، و هي قطعة فنية يعود تاريخها الى القرن الثالث الميلادي.”
ولم تؤكد وثيقة المؤسة العامة للآثار والتراث في العراق وجود مريم العذراء في القبر. كما لم نسمع شيئاً عن أن التحاليل أوصلت إلى أي نتيجة بهذا الخصوص.
وحسب المرويات الشعبية في الموصل بشمال العراق، فإن مئذنة الجامع النوري الكبير المائلة، تنحني باتجاه قبر مريم العذراء الذي يعتقد البعض أنه يقع قرب أربيل، وهي مدينة كبيرة في إقليم كردستان.
في دمشق
في بعض المرويات أيضًا أن السيدة العذراء توفت بعد رفع المسيح بخمس سنوات، وكان عمرها حينئذ ثلاثًا وخمسين سنة، ويقال: إن قبرها في أرض مدينة دمشق. ولم نعثر من جانبنا على نصوص موثقة لهذا الزعم، ما عدا نصاً واحداً يفيد بأن العذراء توفت في دمشق، وهو على “ويكيبيديا.” لكن ابن عساكر يذكر في كتابه “تاريخ دمشق” أن والدة مريم العذراء، القديسة حنة أقامت أو دفنت في دمشق. وربما خلط البعض بين والدة مريم ومريم نفسها.
جبل الزيتون
يقع جبل الزيتون على مشارف مدينة القدس، ويعتقد على نطاق واسع أن منزل السيدة العذراء كان هناك، وكذلك قبرها، فمن الممكن أن تكون مريم قد رافقت القديس يوحنا إلى أفسس، ثم عادت إلى القدس.
والقبر في القدس يزوره الآلاف كل عام، وهو مؤلف من 3 غرف صغيرة. ويعتقد أن مريم باتت في القبر 3 أيام، وفي اليوم الثالث صعدت إلى السماء، ولذلك لا وجود لرفاتها في القبر.
وفي التراث المسيحي أن الرسل المفجوعين لانتقال مريم، قد أخذوا جسدها ووضعوه في قبر قرب القبر الذي كان جسد يسوع ابنها قد وضع فيه، وقاموا بلف الجسد بكفن أبيض ووضعوه في القبر. ولكن جسد مريم لم يبق هناك فقد جاء إليها ابنها يسوع وأخذ جسدها ونفسها إلى السماء.
ويذكر الإنجيل أيضا أن مريم بقيت في أورشليم (سفر أعمال الرسل (1: 12 ــ 14): “حينئذ رجعوا إلى أورشليم من الجبل الذي يدعى جبل الزيتون، بالقرب من أورشليم : بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وفيلبس وتوما وبرثولماوس ومتّى ويعقوب بن حلفى وسمعان الغيور ويهوذا أخو يعقوب ومريم أم يسوع ومع إخوته”.
ولكن هذا النص لا يمنع أن تكون مريم قد عاشت عدة سنوات (ربما 10 سنوات) في أورشليم، قبل أن تذهب مع يوحنا إلى مكان آخر، ثم تعود (أو لا تعود) إلى القدس..
وتصر الكنيسة الكاثوليكية على ان مريم العذراء عادت إلى أورشليم في سنيها الأخيرة. ومن غير المعروف كيف توفت مريم، ولكن في التراتيل الكنسية (الميامر) هناك قول بأنها مرضت وتوفت.
وتعتقد الكنيسة أن مريم العذراء انتقلت إلى جبل الزيتون مع من ظلوا أحياء من التلاميذ الإثني عشر وأنها من هناك انتقلت مع التلاميذ إلى السماء، وذلك بعد 13 إلى 15 عامًا من رحيل يسوع وبالتالي يكون ذلك قد تمّ بحوالي عام 43، وبناء على ذلك فإن عمرها كان بحدود الستين سنة.
ويعتقد مؤرخون آخرون ان مريم انتقلت في عام 48. والله أعلم.