سعيد عقل في ذكرى ولادته الثامنة بعد المئة… عاشق المحكية “لغة الحياة”

 

كلود أبو شقرا

 

في ملعب الجمال ترعرع طفل صار في ما بعد أحد أكبر الشعراء في لبنان والعالم العربي، وبين أحضان أم تعشق الثقافة والفن والإبداع اكتشف أسرار اللغة وشق طريقه بسرعة نحو امتهان الشعر، ليس بمعناه المادي بل بالمعنى الأسمى، الذي هو تمجيد الروح والقيم الإنسانية والحق والخير.

إنه سعيد عقل، هذا “الكبير” في محراب الشعر، المستلّ من جمالياته دوزنات صيّرها قصائد يختلط فيها الإنسان والأرض والوطن في وحدة متكاملة احتضنتها مؤلفات بالعربية واللبنانية والفرنسية، وشكلت عناوين مضيئة لمسيرة شاعر رسم قصائده بنبض عاطفي مكلل بالعنفوان وعشق للإنسان وقضاياه، وحقق حضورًا مستمرًا أبدًا في الزمان والمكان لا يمحوه غياب أو موت…

في مدينة زحلة (محافظة البقاع اللبناني) رأت عينا سعيد عقل النور في الرابع من يوليو1912، وتلقف عقله الصغير كل ما جادت به طبيعة تلك المنطقة من روعة أبدعها الخالق، فتعلم منها التعلق بالأرض ونهل من مدارسها العلم لغاية المرحلة الثانوية، وكان يعتزم التخصص في الهندسة، لكن ظروفًا قاسية اضطرته إلى ترك المدرسة وتحمّل مسؤوليات عائلية، فمارس الصحافة والتعليم في زحلة.

في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي ترك مدينته الأحب إلى قلبه وانتقل إلى بيروت وكتب بجرأة وصراحة في جرائد ”البرق” و”المعرض” و ”لسان الحال” و”الجريدة” وفي مجلة ”الصياد” ودرَّس في جامعاتها…

 

فرح الكتابة

تعود علاقة سعيد عقل مع الكتابة إلى الصغر، إذ نبضت في عروقه منذ خبر عقله تفجُّر نهر البردوني وغضبه في الشتاء وهدوئه وسكينته في الصيف، الأمر الذي أثار في في روحه فيضًا من المشاعر ترجمها على الورق، وما لبثت الكتابة أن أضحت بالنسبة إليه فعل خلق ومصدر فرح لا يوصف، رافقه طيلة حياته بالزخم نفسه.

لقاء سعيد عقل الأول مع القراء كان عبر “بنت يفتاح” (1935) مأساة شعرية نالت جائزة “الجامعة الأدبية”،  وفي الثَّلاثينيَّات أيضًا كتب “فخر الدين” مطوَّلة تاريخية وطنيّة برهنت قدرة الشعر على التأريخ متقيّدًا بالأصول.

عام 1937 أصدر كتاب “المجدلية” تتميز قصائده باتحاد كلي للشاعر مع الكون، من ثم تتالت سلسلة مؤلفاته: “قدموس” (مسرحية-1944) وهي عمارةً شعرية ذات مقدمّة نثريّة. “رِنْدَلى” (1950) قصائد في الحب المرتكز على الروح بعيدًا عن الغرائز. “مُشكلة النخبّة” (1954) كُتيّب نثري يطالب فيه سعيد عقل بإعادة النّظر في السياسة والفكر والفن وأمور الحياة كافة. “كأس الخمر” (1960) يتضمّن مقدّمات وضعها سعيد عقل لكتب منوّعة، وشهد بها لشعراء وأدباء مبرزًا مواهبهم ومقيّمًا إنتاجهم. “لبنان إن حكى” (1960) نصوص تركز على أمجاد لبنان بأسلوب قصصي يتراوح بين التاريخ والاسطورة. “أجمل منك؟ لا… ” قصائد غزلية تمتاز بتنوّع القوافي ومواكبة التركيب الشعري للموجات النفسيّة. “يارا” (1961) شعر حبّ باللغة اللبنانيَّة. “أجراس الياسمين” (1971) قصائد في الطبيعة. “كتاب الورد” (1972) نثر شعري ذو نفحات حب. “قصائد من دفترها” (1973) شعر حبّ يغني العذريّة والبراءة. “دُلزى” (1973) قصائد حُبّ من نار وحنين يُكمل فيها نهج “رندلى”. “كما الأعمدة” (1974) قصائد يتحدّى سعيد عقل فيها نفسه ويمزج بين التراكيب الفصحية وتراكيب اللغة اللبنانية، مما يقرِّب شعره من الحياة ويمنحه نكهة جمالية. “خماسيَّات” (1978) مجموعة أشعار باللغة اللبنانية والحرف اللبناني، “الذَّهب قصائد” (1981) شعر بالفرنسيّة يتضمن خُلاصة ما توصّل اليه فكره في أوْجِ نُضجه، “خماسيّات الصبا” (1992) بالفصحى والمحكية اللبنانيّة  تمثّل ذُروة الكثافة في المضمون، ”نحتٌ في الضوء” (2000) شعر عمودي تأملي، ”شرَر” (2000)، شعر عمودي تأملي.

 

رفيق الكبار

ارتبط سعيد عقل بعلاقة صداقة مع كبار الشعراء  والأدباء العرب في القرن العشرين وكتب في معظمهم أجمل القصائد، ألقاها على المنابر في مناسبات تكريمهم، من بينهم: “الأخطل الصغير” (بشارة الخوري)، أمين نخلة، محمد مهدي الجواهري، شبلي ملاط، شفيق معلوف، عزيز أباظة، طه حسين، أحمد شوقي، صلاح لبكي، فؤاد أفرام البستاني، عبدالله العلايلي…

كذلك كانت له قصائد تغنى فيها بأمجاد مدن عربية عريقة من بينها: مكة (المكرمة) والأردن والشام…

 

عقل واللغة

“كل لغة تكف عن أن تكون محكية هي ميتة وكل لغة تتداولها الألسنة هي لغة حية”، هكذا اختصر سعيد عقل علاقته باللغة، فبالرغم من أنه كتب بالفصحى قصائد اشتهرت في أنحاء العالم العربي، إلا أنه كان يعتبر أن اللغة المحكية في أي دولة هي اللغة الحقيقية، وكل لغة تكفّ عن أن تكون محكية لا بد من أن تتوقف يومًا، لذا كتب اجمل شعره باللبنانية، التي يعتبرها إحدى لغات هذه المنطقة من العالم، مؤكدًا في لقاء تلفزيوني: “أنا مع الحياة ولا يهمني الأموات، فلو كنت سعوديًا لدعوت إلى اعتماد اللغة السعودية مكان اللغة العربية ولو كنت عراقيًا لدعوت الى اعتماد اللغة العراقية ولو كنت  مصريًا لدعوت إلى اعتماد اللغة المصرية…”

قرأ روائع التُّراث العالميّ شعرًا ونثرًا، فلسفةً وعلمًا وفنًا ولاهوتًا، ودرس تاريخ الإسلام وفِقْهَهُ، وتعمق في التراث العربي معترفًا أن له فضلا عليه في أنه أعطاه فكرة عن جمال  البيت الشعري وعن الوزن العربي في بعض التركيبات التي توصل اليها الشعراء العرب. كذلك أتقن أوزان الشعر في الفرنسية وله فيها مؤلفات شعرية، وعرف الأوزان اللبنانية والفنيقية والسريانية، كما في المحكية اللبناني التي كتب  فيها شعرًا ونثرًا، وابتكر الحرف اللبناني باللغة اللاتينية وكتب فيه بعض دواوينه،  وعرف أيضًا الأوزان اليونانية والألمانية،… كل ذلك تأكيدًا منه أن اللغة لا تقف عائقًا أمام الموهبة الشعرية، وأنه يقدر أن يكون شاعرا في اللغة العربية واللبنانية والفرنسية. قال في هذا السياق: “ليتني اعرف الانكليزية وهي اللغة الأولى في العالم، لكنت كتبت بها كما فعل جبران. لكنني لا أتقن من اللغات العالمية الثماني الا الفرنسية، وهي الخامسة بين هؤلاء اللغات”، مستطردًا: “من لبنانيتي أذهب الى العالمية”.

تميّز بابتكار الخماسيات في الشعر وكتبها بالعربية واللبنانية والفرنسية، وهي تتألف من خمسة أبيات: ثلاثة على قافية واحدة واثنتان على قافية أخرى، فيما الرباعيات، التي اكتشفها عمر الخيام، تتألف من أربعة أبيات، ثلاثة منها على قافية واحدة والرابع منها منفلت.

 

علاقته بالرحابنة

غنت فيروز أجمل  قصائد سعيد عقل من ألحان الأخوين رحباني (حوالى 30 قصيدة بين المحكية والفصحى) ما عدا قصيدة واحدة من ألحان عبد الوهاب، وهي “مر بي يا واعداً وعداً”.

كان عقل معجبًا بعاصي ومنصور الرحباني وبصوت فيروز، إلى درجة أنه لم يكن يفضّل أن يلحن أحد قصائده غيرهما،  حتى عبد الوهاب عندما لحن له قصيدة واحدة، لم يعجب باللحن وتمنى لو أنها كانت من ألحانهما.

من أبرز أغاني فيروز من كلمات الشاعر سعيد عقل: “غنيت مكة”، “سيفٌ فليشهر” (القدس في البال)، “يارا”، “بحبك ما بعرف”، “أمي يا ملاكي”، “شال”، “أحب دمشق” “بالغار كللت”، “أردن”، “عمّان في القلب”، “فتحهن عليي”، “من روابينا القمر”، “مر بي”، “نسمت”، “قرأت مجدك”، “شام يا ذا السيف”، “سائليني”، “قصيدة لبنان”، “مشوار”، “مرجوحة”، “بحبك ما بعرف”، “بيبقى المسا”، “لاعب الريشة”، “دقيت.. طل الورد عالشباك”، “لمين الهدية”…

***

أروع ما يلّخص مطامح سعيد عقل قوله: “أقول الحياةُ العزمُ ، حتى إذا أنا انتهيتُ تَوَلّى القَبرُ عزمي من بَعدي”. هذه العبارة محفورة على ضريحه في زحلة الذي رقد فيه بعد رحيله  في 28 نوفمبر 2014.

 

اترك رد