(إِلى عَبقَرِيَّةٍ مِن دِيارِنا، مِن مَنابِتِنا السَّمْحَةِ المِعْطاءِ، ضَمَّخَتِ الحَرْفَ بِأَرِيجِ الزَّيتِ ونَكهَةِ الزَّيتُون…
إِلى رُوْحِ شاعِرِ الكُورَةِ الخَضراءِ، الصَّدِيقِ عَبدالله شحادة، مع صَلَواتِي)
هل تُلامُ البَنَفسَجَةُ الشَّذِيَّةُ إِنْ تَوارَت في مَخابِئِ الشِّعابِ مِن دُونِ أَن تَبخُلَ بِعَبِيرِها الضَّافِي على عابِرِي السَّبِيل؟!
أَتَذَكَّرُ الشَّاعِرَ عَبدَالله شحادة وقد جَمَعَتنا ثانَوِيَّةُ أَميُونَ الرَّسمِيَّةُ في مُنتَصَفِ سَبعِينِيَّاتِ القَرْنِ الماضِي، إِبَّانَ سَنَتِهِ التَّعلِيمِيَّةِ الأَخِيرَةِ قَبلَ التَّقاعُدِ، في ذلك الزَّمَنِ الجَمِيلِ، قُبَيْلَ اجتِياحِنا مِن حَرْبٍ مَشؤُومَةٍ مَحَقَت كُلَّ سَكِينَةٍ وجَمال!
كانَ البَنَفسَجَةَ الحَيِيَّةَ الوادِعَةَ، بِصَمتِهِ يُؤْنِسُ المَكانَ، وبِحَدِيثِهِ المُقتَصِدِ يَشُدُّ الأَعيُنَ والآذانَ، تَغْرِفُ مِن مَعِينِهِ الثَّرِّ، ومِن مَكنُوزِهِ الوَفِير.
وهو مِنَ القِلَلِ الَّذين إِذا اشتَمَلَتهُم صَحارٍ سَكَنُوا إِلى جَمالِ آفاقِها المُتَرامِيَةِ، وغُرُوبِ شَمسِها السَّاحِرِ، وحَفِيفِ أَنسامِها في العَشايا، فَكانَ شِعْرٌ مُستَطاب…
وإِن غَمَرَتهُم رِياضٌ بِمائِها وأَنسامِها وثَمَرِها والعَبِيرِ، هَدَأَت فِيهِم النَّفْسُ ولَو اعتَرَضَتهُم أَشواكٌ تُخَدِّشُ سُوْقَ أَقاحِها الضَّاحِكِ، واهتِراءٌ في بَعضِ ثَمَراتِها الَّتِي تَتَخَلَّلُ يَنِيعَها السَّمِينَ، فَكانَت قَوافٍ على صُوَرٍ وجَرْسٍ وحَفِيف…
فهو يَملِكُ السّانِحَةَ، يُطَوِّعُها، يَنسُلُها وِلْدَةَ جَمالٍ، ولَو رَأَى بَعضٌ فِيها جَدْبًا وبَوارًا. لِذا نَرَى في شِعرِهِ ونَثرِهِ قَطْفًا لِمَواسِمِ عِزٍّ وذُلٍّ، أَمَلٍ ويَأسٍ، فَرَحٍ وحُزْنٍ، أَزْرٍ وخِذْلانٍ، وفاءٍ وخِيانَةٍ، حُبٍّ ومَقْتٍ، وفِيها جَمِيعًا تَهُزُّنا الكَلِمَةُ المَصقُولَةُ، واللَّفظَةُ المُنتَقاةُ، والجَمالُ المَوَشَّى.
وإِلَيهِ
كانَ الزَّمِيلَ الخَلُوقَ، والصَّدِيقَ الصَّدُوقَ، والوَفِيَّ الرَّاقِيَ، الَّذي تَرَكَ أَثَرًا عَطِرًا طَيِّبًا في نُفُوسِ زُملائِه.
وكانَ تارِيخًا، ومَوسُوعَةً في الآدابِ، ومَرجِعًا ثِقَةً لا تَفُوتُهُ شارِدَةٌ أَو وارِدَة. وانعَكَسَت ثَقافَتُهُ الواسِعَةُ في كِتاباتِهِ، جَلِيَّةً في اقتِباساتِهِ المُوَفَّقَةِ المُوائِمَةِ، سَواءٌ مِنَ المَصادِرِ الأَدَبِيَّةِ أَو الدِّينِيَّة.
وكانَ لَنا أَبًا عَطُوفًا، وأَخًا ناصِرًا، ونَاصِحًا نَصُوحًا، ومُزَوِّدًا بِكُلِّ ثَمِين. ما ضاقَ يَومًا بِسُؤَالٍ لِطالِبٍ، أَو مَعلُومَةٍ لِسائِلٍ، بَل ظَلَّ يُفرِحُهُ العَطاءُ حَتَّى لَيَنطَبِقَ عَلَيهِ قَوْلُ زُهَير بِن أَبِي سُلْمَى:
تَراهُ، إِذا ما جِئتَهُ، مُتَهَلِّلًا كَأَنَّكَ تُعطِيهِ الَّذي أَنتَ سائِلُهْ
مُتَواضِعٌ حَتَّى الذَّوَبانِ، وعلى مَنزِلَتِهِ الأَدَبِيَّةِ الشِّعرِيَّةِ العالِيَةِ لَم نَسمَعْهُ يَومًا يَتَبَجَّحُ أَو يَدَّعِي، وهذهِ سِمَةُ الكِبارِ الحَقِّ، تَتَكَلَّمُ أَعمالُهُم فَتَملَأُ آذانَ الوُجُودِ، وتَختَفِي أَصواتُهُم حَتَّى لَكَأَنَّها حَفِيفُ النَّسِيمِ في الفَجْرِ الصَّافِي.
عَبدالله شحادة…
ضَمَّ في جانِحَيهِ دَماثَةَ أَبناءِ الكُورَةِ، وعَقلانِيَّتَهُم، وانفِتاحَهُم، وتَقَبُّلَهُمُ الآخَر. وطَفَحَت دَواتُهُ بِمَيْرُونِ الزَّيتِ العابِقِ في خَوابِي الخَيْر. وبَقِيَت يَراعَتُهُ خَضْراءَ الحُضُورِ، سَيَّالَةَ البَدْعِ، كَشَجَرِ الزَّيتُونِ المُنبَسِطِ أَمامَ مَنزِلِهِ، حَتَّى الأُفُقِ، لَوحَةً أَبدَعها الأَجدادُ وما زالَت تَتَجَدّدُ على الحِقَب.
ابتَنَى صَدِيقُنا على سَطْحِ دارَتِهِ في بَلدَتِهِ كُوسبا عُلِّيَّةً صَغِيرَةً جَمِيلَةً مُطِلَّةً على السَّهلِ المُخْضَوْضِلِ، يَعتَزِلُ فِيها، مُستَشْرِفًا مَرامِي المَدَى المُبارَكِ، مُتَصَوِّفًا مع كُتُبِهِ وقَراطِيسِهِ وأَقلامِهِ، ولا يَخرُجُ إِلَّا وقد أَلقَى في الرِّقاعِ جَمِيلَ القَوافِي، والمُرَصَّعاتِ الدُّرَر. ولَكَم ذَكَّرَتنِي عُلِّيَّتُهُ بِمَثِيلَتِها عِندَ أَدِيبِ لُبنانَ مارُون عَبُّود في قَريَتِهِ عَيْن كفاعْ، وسَأَلتُهُ مَرَّةً عَنها، فَالتَمَعَت عَيناهُ وأَجاب: «هِيَ صَوْمَعَةُ الحُرِّيَّة في بَلَدِ العُبُودِيَّة».
فَعَقَّبتُ عَلَيهِ: أَللَّهُمَّ! زِدْنا مِن هذه الصَّوامِعِ ما شِئْتَ، فهي حُصُونٌ لِلإِبداع.
فَرَبَّتَ على كَتِفِي بِحَنانِهِ المَعهُودِ، وقال: أَللَّهُمَّ! زِدْنا مِن أَمثالِ هذا الصَّدِيقِ الشَّهْمِ ما شِئْتَ، وابتَسَمَ طَوِيلًا.
حُرٌّ هو في فِكْرِهِ، يَتَشَبَّثُ، في شِعرِهِ، بِالتُّراثِ أَصالَةً، ويُجَدِّدُ فِيهِ ويُسبِغُ عَلَيهِ لَبُوسَ العَصْرِ مِن دُونِ أَن يَتَهاوَن بِعَظَمَةِ اللُّغَةِ، ومُوسِيقَى القَوافِي. هو السِّندِيانَةُ الدُّهرِيَّةُ، جُذُورُها ضارِبَةٌ في عُمْقِ مَكنُوزاتِنا، وأَغصانُها تُضاحِكُ الشَّمسَ، وتُناغِي الرِّياح!
***
شاعِرُنا…
قامَةٌ سامِقَةٌ في أَدَبِنا، ورُكْنٌ رَكِينٌ في مَحافِلِ الضَّادِ، ومَفخَرَةٌ في الشِّعرِ نَزهُو بِها جَمِيعًا ونَعتَزّ.
كانَ ما نَشَرَهُ، قَبلَ الرَّحِيلِ، قَلِيلًا أَمامَ ما تَرَكَ مُبَعثَرًا في الدَّفاتِرِ، والأَوراقِ، ومُتُونِ الصُّحُف. ولَو أَلحَفَ الدَّهرُ في عُتُوِّهِ لَخَسِرنا نِتاجًا مِن خِيرَةِ الكَلامِ، ولكِنْ… «هَيهاتِ تُكْتَمُ في الظَّلامِ مَشاعِلُ»*، فَمَنَّتِ الحَياةُ عَلَيهِ بِابنَتِهِ الشَّاعِرَةِ الذَّوَّاقَةِ مِيراي، فَراحَت، بِجُهْدٍ جَهِيدٍ، تَجمَعُ شَتاتَهُ الأَدَبِيَّ، في مَظانِّهِ، ثُمَّ أَخرَجَتهُ في سِتَّةِ مُجَلَّداتٍ فَخْمَةٍ قَلْبًا وقالِبًا، سَيَكُونُ لَها، يَقِينًا، مَكانُها الَّذي يَلِيقُ بِرِفعَتِها في مَكتَباتِنا العامِرَةِ، وعلى رُفُوفِنا الزَّواهِي. ولَولا هذا العَمَلُ الجَلَلُ المُضنِي مِن هذِهِ الابنَةِ البارَّةِ، لَبَقِيَت آثارُ هذا الشَّاعِرِ الوَدِيعِ مُخَبَّأَةً تَتَآكَلُ مع الأَيَّامِ، حَتَّى يَطوِيها النِّسيانُ فَتُصبِحُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.
***
يَكثُرُ شِعْرُ المُناسَباتِ عِندَ شاعِرِنا، فَيَتَلَقَّفُ التَّحَدِّيَ، ويَخرُجُ مِنْ حَلْبَتِهِ بِالغارِ، إِذْ يَتَحاشَى السُّقُوطَ في بَلادَةِ النَّظْمِ، وخُصُوصِيَّةِ المَوضُوعَةِ، والصِّناعَةِ المَقِيتَةِ، حِينَ يَجعَلُ المُناسَبَةَ الخارِجِيَّةَ مُناسَبَةً داخِلِيَّةً تُثِيرُ وِجدانَهُ، وتُحَرِّكُ خَيالَهُ، فَيَرتَفِعُ بِمَحدُودِيَّةِ الحَدَثِ إِلى الفَضاءِ الإِنسانِيِّ العامِّ؛ وهذا ما لا يُتقِنُهُ إِلَّا الشُّعَراءُ الكِبارُ الكِبار.
ومِن مَظاهِرِ تَمَكُّنِهِ مِن صِناعَةِ الشِّعْرِ مُطَوَّلاتُهُ العُصْمُ المُتَناثِرَةُ في مَناحِي مَجمُوعاتِهِ، تَطُولُ وتَطُولُ فَلا يُساوِرُكَ مَلَلٌ أَو تَأَفُّفٌ، فَلَيسَ مِن تَكرارٍ، بَل تَماوُجُ أَلوانٍ، وتَنَوُّعُ صُوَرٍ، على مُوسِيقَى شَجِيَّةٍ، في لُغَةٍ سَلِيمَةٍ، مَتِينَةٍ، غَنِيَّة. وأَنتَ، في صُحْبَتِهِ، كَأَنْ في مَعِيَّةِ واحِدٍ مِن شُعَراءِ العَرَبِيَّةِ الأَقدَمِينَ الكِبارِ، على أَنَّهُ في جِلبابٍ مَحُوكٍ مِن بِضاعَةِ عَصرِنا، مُؤَاتٍ لِذائِقَتِنا النَّفُورِ، وحَساسِيَّتِنا الجَدِيدَةِ اللَّاقِطَة.
أُسلُوبُ أَدِيبِنا مُتَناسِقٌ، وتَعابِيرُهُ رَشِيقَةٌ فِيها صَلابَةُ السِّندِيانِ، واخضِرارُهُ الدَّائِمُ، وظِلُّهُ السَّابِغُ الوَرِيف. وهو لا يَغفُلُ عن وَحْدَةِ مَوضُوعِهِ، بَل يُحِيطُ بِهِ مِن كُلِّ جانِبٍ، كاسِيًا هَيكَلَهُ مَطارِفَ وَرْدٍ وجُلَّنار.
قَصائِدُهُ المَدِيدَةُ يَنتِظِمُها المَنطِقُ، وأَفكارُهُ تَتَسَلسَلُ آخِذَةً بَعضُها بِتَلابِيبِ بَعْضٍ، وكَيفَ لا وهو الَّذي قَضَى عُمرَهُ العامِرَ يُنشِئُ الطَّلَبَةَ، ويُرشِدُهُم إِلى التَّفكِيرِ السَّلِيمِ المُتَوازِنِ الهادِفِ، ويُحاسِبُهُم على كُلِّ تَذَبذُبٍ يُشَوِّهُ الكِتابَةَ، يُفسِدُ النَّسِيجَ، ويُودِي بِالنَّصّ.
ويَتَمَيَّزُ شِعرُهُ بِتَنَوُّعِ البُحُورِ، ما يَدُلُّ على مُكْنَةٍ عَرُوضِيَّةٍ وازِنَةٍ، كما أَنَّهُ يَملِكُ مُعْجَمًا وَفِيرًا يُجانِفُ، إِلَّا في النَّدَرَى، حُوشِيَّ اللَّفْظِ ومُقَعَّرَه. وهذه الحالاتُ الأَخِيرَةُ المُتَباعِدَةُ تُواجِهُهُ عِندَ بِنائِهِ القَصائِدَ الَّتي تَتَطَلَّبُ عَدَدًا جَمًّا مِن كَلِماتِ القَوافِي ذَواتِ الرَّوِيِّ الواحِدِ. وذُلِّلَ كَثِيرٌ مِن هذه العَوائِقِ بِحَواشٍ تَفسِيرِيَّةٍ لِبَعضٍ مِنَ الكَلِماتِ الصَّعبَةِ، ولَيتَ ما جاءَ كانَ أَشمَلَ لِيَروِيَ غُلَّةَ مَن لم تَكُنِ العَرَبِيَّةُ مِن عُدَدِه المُلازِمَة. على أَنَّ الخُطْوَةَ كانت بَرِيكَةً، وَوَفَّرَت، على العَدِيدِ مِنَ القُرَّاءِ، مَشَقَّةَ الرُّجُوعِ إِلى القَوامِيسِ، وَكَفَت مَؤُونَةَ القِتال.
***
مِن آثارِهِ الجَمِيلَةِ كِتابُهُ «عامُ شاعِرٍ 1942»، وهو غَمْرٌ مِن خَواطِرَ ثَمِينَةٍ هي ثِمارُ تَمَعُّنٍ عَمِيقٍ في الحَياةِ، وسَبْكُ تَجارِبَ طَوِيلَةٍ، مَحبُوكَةٌ كَالزَّرَدِ لا تَرَهُّلَ فِيها ولا نُقصانَ، تَشتَمِلُ فُصُولَ النَّفْسِ وتَقَلُّباتِها، أَخرَجَها صَدِيقُنا في حُلَّةٍ شِعرِيَّةٍ باهِيَةٍ أَخَّاذَةٍ، رَقِيقَةِ الوَقْعِ، مُكَثَّفَةٍ في أَلفاظٍ شَجِيَّةِ الجَرْسِ، عالِيَةِ الدَّلالِيَّةِ، مُستَلَّةٍ مِن مُعْجَمِ الأَحاسِيسِ المُرهَفَةِ، والوِجدانِ الحَيّ. والكَثِيرُ مِنها يَتَلَفَّعُ بِرَمزِيَّةٍ عالِيَةٍ إِمَّا يُفَضُّ خاتَمُها يَنكَشِفُ سِحْرُها، وتَنفَتِحُ أَبوابُها فَتُفضِي إِلى مُرُوجِ نَوْرٍ، وشَواطِئِ رَمْلٍ ذَهَبٍ وَنَخِيل.
وتَتَواءَمُ بَعضُ وَمَضاتِهِ مع التِماعاتٍ لِمُفَكِّرِينَ كِبارٍ، مِن بابِ تَوارُدِ الأَفكارِ، أَو حَصِيلةَ تَناصٍّ (Intertextuality) يَأتِي مِن اطِّلاعِهِ الأَفْيَحِ على ثَقافاتٍ مُتَنَوِّعَة. والتَّناصُّ، بِحَسَبِ جُوليَا كرِيستِيفا، هو «التَّقاطُعُ والتَّعدِيلُ المُتَبادَلُ بَينَ وَحَداتٍ عائِدَةٍ إِلى نُصُوصٍ مُختَلِفَة»؛ وهو لَيسَ مِمَّا يُؤْخَذُ على الكاتِبِ الثَّقِفِ، لِأَنَّهُ راسِخٌ في لاوَعيِهِ، ويَفِيضُ، لاشُعُورِيًّا، أَثناءَ الكِتابَة. ويَقُولُ «رُولان بارت»: «ما أَكتُبُهُ هو تَلخِيصٌ لِلتَّطَوَّرِ الحاصِلِ حَولِي».
فَعِندَما يَقُولُ: «الجَهْلُ في أَوانِهِ حِكمَةٌ بَلِيغَةٌ، والحِكمَةُ في غَيرِ أَوانِها جَهْلٌ مُطْبِق» (المَجمُوعَةُ الثَّالِثَةُ، ص 10)، يَأخُذُنا إِلى بَيْتَي المُتَنَبِّي:
«وَوَضْعُ النَّدَى في مَوْضعِ السَّيفِ بِالعُلَى مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيفِ في مَوضِعِ النَّدَى»
«إِذَا قِيْلَ رِفْقًا قَالَ لِلحِلْمِ مَوْضِعٌ وَحِلْمُ الفَتَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ»
وفي خَطرَتَيهِ «عُمْرُ الفَجْرِ قَصِيرٌ فَلْنَستَمْتِعْ بِهِ ما دُمنا في فَجْرِ الحَياة» (المَجمُوعَةُ الثَّالِثَةُ، ص 21)، وَ «العُمرُ صَحراءُ مُغرِيَةٌ وأَيَّامُ المَسَرَّاتِ واحاتٌ خُضْرٌ، فَهَيَّا بِنا إِلَيها نَتَفَيَّأُ أَظلالَها ما دُمنا في قَيْدِ الحَياةِ» (المَجمُوعَةُ الثَّالِثَةُ، ص 38)، يُذَكِّرُنا بِإِلِيَّا أَبِي ماضِي قائِلًا:
«فَتَمَتَّعْ بِالصُّبحِ ما دُمتَ فِيهِ لا تَخَفْ أَن يَزُولَ حَتَّى يَزُولا».
ونَبْرَتُهُ في «مَن يَمُوتُ وَراءَ دَواتِهِ في سَبِيلِ الوَطَنِ كَمَنْ يَمُوتُ على جَوادِهِ في حَوْماتِ الوَغَى» (المَجمُوعَةُ الثَّالِثَةُ، ص 27)، كَنَبْرَةِ الأَخطَلِ الصَّغِيرِ في:
«سِيَّانَ عِندَ ابتِناءِ المَجدِ في وَطَنٍ مَن يَحمِلُ السَّيفَ أَو مَن يَحمِلُ القَلَما».
وفي شَطْحَتِهِ: «أُحِبُّكِ لا طَمَعًا بِمالِكِ، ولا شَغَفًا بِجَمالِكِ، ولكِنْ وَجَدتُكِ أَهْلًا لِلمَحَبَّةِ فَأَحبَبتُكِ» (المَجمُوعَةُ الثَّالِثَةُ، ص 50)، نَرانا مع رابِعَة العَدَوِيَّة في:
«أُحِبُّكَ حُبَّيْنِ حُبَّ الهَـوى وحُبًّــا لِأَنَّكَ أَهْـلٌ لـِذَاكَ
فَأَمَّا الَّذِي هُوَ حُبُّ الهَوى فَشُغْلِي بذِكْرِكَ عَمَّنْ سـِواكَ
وأَمَّـا الَّذي أَنتَ أَهلٌ لَهُ فَلَسْتُ أَرَى الكَوْنَ حَتَّى أَراكَ»
وعِندَما يَصِيحُ: «لا تَرتَقِي أُمَّةٌ تَمشِي وَوَجهُها يَتَطَلَّعُ إِلى الوَراء» (المَجمُوعَةُ الثَّالِثَةُ، ص 54)، نَسمَعُ ذاكَ الشَّاعِرَ مُصَوِّتًا:
«ولَمَّا غَدَت أَذنابُنا في رُؤُوسِنا غَدَونا بِحُكمِ الطَّبْعِ نَمشِي إِلى وَرَا».
وآنَ يَتَأَوَّهُ: «آهِ كَم أَحبَبتُ البُعْدَ عَنْكِ لِأَنَّهُ تَوطِئَةٌ لِيَومِ وَصْلِكِ المَنشُودِ، وكم خِفْتُ قُرْبَكِ الحُلْوَ لِأَنَّ مَرارَةَ الهَجْرِ سَتَعقُبُهُ»، تَعُودُ إِلَينا آهَةُ الشَّاعِرِ شَفِيق المَعلُوف:
«وَمَا كَانَ يُبكِينِي التَّلاقِي وَإِنَّمَا وَرَاءَ المُلاقِي لاحَ ظِلُّ المُوَدِّعِ».
هذهِ المُفَلَّذاتُ هي مِن عُصارَةِ عُمْرٍ مُثْقَلٍ بِالجَنَى، واختِراقٌ لِحُجُبِ الحَياةِ بِلَحْظِ شاعِرٍ راءٍ، والحَياةُ كُنُوزٌ راهِنَةٌ، والمُقتَدِرُ الحَصِيفُ مَن يُدرِكُ السَّبِيلَ إِلى كُهُوفِها العَمِيقَةِ الغَوْرِ، البَعِيدَةِ القَرار. وأَدِيبُنا مِن هذه النُّخْبَةِ، غَذَّ في سَيْرِهِ فَأَحرَزَ السَّبْقَ، وتَلَقَّفَ الصَّوْلَجان.
وما يَهُمُّ أَنَّ هذه الخَواطِرَ لها مَذاقُ الخُصُلاتِ المَنسِيَّةِ على الدَّوالِي في أَواخِرِ تِشرِين.
ولا عَجَبَ في تَوارُدِ الأَفكارِ الَّذي أَلمَحنا إِلَيهِ بَينَ المُبدِعِينَ، فَعَلَى الذُّرَى تَلتَقِي النُّسُور!
***
أَمَّا «لَيالِي القاوُوش» فهي سِجِلٌّ حَيٌّ لِخَمسَةَ عَشَرَ يَومًا قَضاها الشَّاعِرُ في مَذَلَّةِ السِّجنِ، وجِنايَتُهُ الوَحِيدَةُ أَوجَزَها بِالآتِي: «ذَنْبِي الخطِيرُ، وخَطِيئَتِي العُظْمَى، أَنَّنِي ما عَبَدتُ العِجْلَ الذَّهَبِيَّ، وما سَجَدتُ لِلأَصنام!».
أُسلُوبُها وَصفِيٌّ إِنشائِيٌّ مُسْهَبٌ، بِلُغَةٍ سَلِيمَةٍ مَتِينَةٍ مُوحِيَةٍ، وتَعابِيرُها جُبرانِيَّةُ النَّمَطِ خَيالًا ودِيباجَةً، والتَّصوِيرُ فِيها بَلَغَ أَعلَى دَرَجاتِ الإِتقانِ حَتَّى يُشعِرُكَ المُؤَلِّفُ أَنَّكَ انتَقَلتَ إِلى هُناكَ، فَتَشعُرُ بِالغَثَيانِ لِلبُؤْرَةِ الَّتي حُشِرَ فِيها المَوقُوفُونَ، بَينَ القاذُوراتِ والرَّوائِحِ المُقَزِّزَةِ، في بِيئَةٍ تُحْسَدُ عَلَيها زَرائِبُ الأَنعام.
إِنشائِيَّتُهُ هذه صَرخَةٌ مُدَوِّيَةٌ في وَجْهِ العَسْفِ والتَّخَلُّفِ اللَّذَينِ طَبَعا مُؤَسَّسَةَ السُّجُونِ الَّتي ورِثناها عَنِ الانتِدابِ، فَجَعلناها أَسوَأَ وأَظلَم.
وفي غَمْرَةِ اليَأسِ، خِلالَ أَيَّامِهِ الأُولَى في التَّوقِيفِ حَصْحَصَ شُعاعٌ وَسَطَ الحَلَكِ، إِذ رَقَّ طَبِيبُ السِّجْنِ لِحالِهِ فَنَقَلَهُ مِن «قاوُوشِه» إِلى «قاوُوشِ البرِيمُو»، فَكانَ الخَلاصُ مِنَ الأَقبَحِ ارتِماءً في… القَبِيح. فَتَأَمَّلَ صاحِبُنا بِبَعضِ فَرَجٍ، وارتاحَ إِلى التَّحَسُّنِ النِّسبِيِّ، وأَظُنُّهُ قد استَذكَرَ قَولَ الشَّاعِر:
«وَما عَن رِضًى كانَ الحِمارُ مَطِيَّتِي ولكِنَّ مَن يَمشِي سَيَرضَى بِما رَكِبْ»
كَما إِنَّهُ يُسَلِّطُ الضَّوءَ على بَعضِ عِلَلِنا المُجتَمَعِيَّةِ حَيثُ يُؤْخَذُ البَرِيءُ بِجَرِيرَةِ المُذنِبِ، وحَيثُ الوِشايَةُ تَلقَى الآذانَ المُصغِيَةَ لِأَنَّ مَناعَةَ القائِمِينَ على القانُونِ والعَدالَةِ تَشكُو الوَهَنَ، والضَّعْفَ أَمامَ ذَوِي السُّلطان.
في الخُلاصَةِ، «لَيالِي القاوُوش» لَيالِي شاعِرٍ مُرهَفٍ في قَفَصٍ، إِنْ تَكُنْ كُلُّها وَبالًا وظُلْمًا، فَإِنَّ لَها وَجْهًا مُضِيئًا هو هذه القِصَّةُ الأَدَبِيَّةُ الَّتي كانت ثَمَرَةَ هذا الجَوْرِ المُبِين. وَلَرُبَّ وَردَةٍ نَمَت وأَرِجَت على دِمْنَةٍ، وكَم مِن «يَهُوَذا» أَنجَبَ رَسُولًا يَنشُرُ الخَيْرَ والمَحَبَّةَ والصَّلاح!
***
أَلَا خُلِّدْتَ يا شاعِرًا تُزجِي الجَمالَ بِأَبياتٍ مُرَصَّعَةٍ فِيها حَرارَةُ القَلبِ، وخَدَرُ الكَأسِ والوَتَرِ، وأَنتَ تَقُول:
«يا مَن يُسائِلُ عَنَّا بَينَ أَربُعِنا حَيَّتكَ بِالشَّوقِ أَكوابِي وأَعوادِي
هُنا بَقِيَّةُ أَصداءٍ مُعَتَّقَةٍ، وخَفْقُ أَجنِحَةٍ مَعْ رَجْعِ أَكبادِ
هُنا الجَمالُ، رَعاهُ اللهُ، ينشدُنا ما بَينَ أَطلالِنا في أَرضِ مِيعادِي
…
كانَ الزَّمانُ رَبِيعًا فاتِنًا، فَمَتَى يُطِلُّ مَعْ فَجْرِ آمالِي وأَعيادِي»
(المَجمُوعَةُ الثَّانِيَةُ، ص 113)
***
خِتامًا نَقُول:
عَبدَالله…
هَل رَحَلتَ حَقًّا، وما أَورَثتَنا لا يُبلِيهِ الدَّهْر؟!
هل غِبْتَ، ولا عَوْدٌ، وعَبِيرُكَ لَمَّا يَزَلْ في كُلِّ رُكْنٍ حَلَلتَهُ، وعلى كُلِّ دَرْبٍ سَلَكت؟!
هل انطَفَأَ سِراجُ ذِكْرِكَ، والمَشاعِلُ في نَثْرِكَ وقَصائِدِكَ وَهَّاجَةٌ أَبَدًا، مُضِيئَةٌ، في مَغانِيكَ، كُلَّ حَلَكٍ دامِس؟!
لا، ثُمَّ لا… فَالعُوْدُ يَتَشَظَّى ويَبقَى الضَّوْعُ يُنعِشُ المَدَى، ولَقَد أَصابَ مَن قالَ: «يَمضِي الكَلامُ وَيَبقَى السَّمْعُ نَشْوانا»!
قُمْ، أَخِي، واحْمِلْ نِتاجَكَ، وجَنَى العُمْرِ مِن حُقُولِكَ الخِصابِ، واشْهَرْهُ وَضِيئًا في وَجهِ الزَّمَنِ إِرْثًا على الزَّمَنِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَزْوادِ الآتِي الَّتي لا يُفسِدُها تَوالِي الأَحوالِ، ولا تَبَدُّلُ المَقالِ، فهي مِن صَمِيمِ وِجْدانِ الإِنسانِ، ومِن جِبِلَّتِهِ الأَصلِيَّة.
لَقَد كُنتَ صادِقَ الحَدْسِ عِندَما أَنشَدتَ:
«سَتَدفُنُنِي أَيدِي المَنُونِ بِتُربَتِي ويَبعَثُنِي شِعْرِي، فَأَحيا اللَّيالِيا»
(المَجمُوعَةُ الثَّانِيَةُ، ص 215)
وكانَت قِيامَةٌ… وارتَفَعَت أَنامِلُ لَيِّنَةٌ نَواعِمُ تَضُمُّ الوَدِيعَةَ وتَعرِضُها لِلشَّمسِ ذُخْرًا تَضِنُّ به القُلُوبُ، ولُقْياتٍ نَوادِرَ تَزهُو بِها المَجامِع.
هي أَنامِلُ ابنَتِكَ الوَفِيَّةِ مِيراي، الشَّاعِرَةِ المُرهَفَةِ، الَّتي صانَت ذِكراكَ نابِضَةً في حَبَّةِ الجَنانِ، واستَلَّت مِن قَبضَةِ النِّسيانِ ما سَطَّرْتَ أَيُّها العِملاقُ المُجَلِّي، وهَتَفَتْ: «أَرشُقُكَ اليَومَ بِعِطْرِ اللَّوْزِ والزَّيتُونِ فَيَتَبَدَّدُ الكَفَن…»، فَعانَقَتْ هُتافَها مآقٍ، ورَدَّدَتهُ حَناجِر…
وحَقَّ هُتافُكَ:
«لِيُقالَ: عاشَ وكانَ مَجمُوعَ الصِّفاتِ الغالِيات» (المَجمُوعَةُ الثَّانِيَةُ، ص 324)
أَلا سَلِمْتِ يا ابْنَةَ هذا الغالِي، غالِيَةً على قُلُوبِ مَنْ تَسحَرُهُمُ الكَلِمَةُ الفاتِنَةُ، ورَنَّةُ القَرِيضِ، وصُوَرُهُ الخَوالِد.
وَقَرِّي عَينًا، فَأَضرابُكِ تَلِيقُ بِهِمِ البُنُوَّةُ، ويَستَأْهِلُونَ أَنْ يَرفَعُوا جِباهَهُم في مَحافِلِ المَلَأ!
ويا صَدِيقِي
يَقُولُون: «إِذا هَبَّتْ رِياحُكَ فَاغتَنِمها». ولَعَمْرِي لَقَد هَبَّتْ عَلَيكَ رِياحُ المَوهِبَةِ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، فَتَدَبَّرْتَها بِالعَمَلِ الدَّؤُوبِ، وسَهَرِ اللَّيالِي، وسَفَحتَ الرَّاحَةَ على مَذْبَحِ العَطاءِ، فَاغتَنَمتَها وغَنِمَتْ لِغُنْمِكَ أَجيالٌ سَتَتَوالَى.
وإِذا رِيحُكَ تَنفَحُ الشِّعْرَ فَتُحيِي ما صَوَّحَ مِنهُ، وتُجَدِّدُ في قَدِيمِهِ مِن غَيرِ أَنْ تَرذُلَ عَظَمَتَهُ المَكنُونَةَ، فَحَقَّ ثَوابُكَ عِندَ قادِرِي القَوافِي العِتاقِ، وأَحَلُّوكَ المَقامَ الجَلَلَ…
أَلَا سَقْيًا لِأَيَّامٍ مَلَأْتَها أَلحانًا عِذابًا، نَحمِلُها في حَوافِظِنا فَنَطرَبُ ونَستَذْكِرُكَ إِلْفًا لِلَّيلِ السَّاجِي تَغمُرُكَ سَكِينَتُهُ ونَداهُ، فَتَستَنزِلُ إِلهامَهُ وهِباتِهِ، وَالمُحَصَّلَةُ:
«وَنُرسِلُ الشِّعرَ آياتٍ مُغَرِّدَةً يَفتَرُّ عن وَقْعِها المَحبُوبِ تَردِيدُ»
(المَجمُوعَةُ الأُولَى، ص 43)
ومِن آياتِكَ، ما حَفَرناهُ في بالِنا رَفِيقَ هَناءٍ، أَبياتُكَ الَّتِي قُلتَها فَأَصَبتَ الصَّمِيمَ، وما كُنتَ مُغالِيًا إِذْ هو الحَقُّ، بَل كُنتَ مُصَوِّرًا أَمِينًا في رِيشَتِهِ رُوحُ الأَلوانِ، وأَطيافُ السِّحْر. أَنشَدتَ:
«يَسكَرُ الشِّعرُ والرُّواةُ وتَحدُو بِنَشِيدِي مَواكِبُ الأَعلامِ
واللَّيالِي الظِّماءُ تَسأَلُ عَنِّي عن كُؤُوسِي النَّشوَى وعن أَيَّامِي
والخُمُورُ المُعَتَّقاتُ اليَتامَى يَتَّمَت في وَجِيبِها أَنغامِي»
(المَجمُوعَةُ الأُولَى، ص260)
قالَ الشَّيخُ الأَكبَرُ مُحْيِي الدِّين بِنْ عَرَبِي: «قِيمَةُ العُمرِ ما يُكتَسَبُ فِيه».
وها كَسْبُكَ يَملَأُ الكَوائِرَ شَهْدًا مُصَفًّى، لا يَنضُبُ مَهما كَثُرَ الوارِدُونَ على لَذاذاتِهِ. فَلِلَّهِ دَرُّكَ، ذَكَّرتَنِي بِصُورَةِ «الخُبْزِ والسَّمَكِ» مِنْ يَدَي سَيِّدِ البَرايا. فَيا طِيْبَ الذِّكْرِ، ولْتَشْمُلَنا بَرَكاتُهُ الدَّوافِق!
أَلَا نَمْ قَرِيرَ العَينِ، فَالرَّدَى أَرداكَ، ولكِنَّهُ تَوقَّفَ ذاعِنًا أَمامَ تُراثِكَ الحَيِّ، وكَما كُنتَ، في حُضُورِكَ، سَتَبقَى، في غِيابِكَ، مَورِدًا سَلسَبِيلًا يَنهَلُ مِنهُ كُلُّ مُتَعَطِّشٍ إِلى بَهار!
ـــــــــــــــــــ
* مَأخُوذٌ مِن بَيتِ المُتَنَبِّي:
«لِيَزِدْ بَنُو الحَسَنِ الشِّرافُ تَواضُعًا هَيهاتِ تُكْتَمُ في الظَّلامِ مَشاعِلُ»