على مدى عقدين من عمر هذا الزمن، ارتبطت وجورج شامي في علاقة أدبيّة فكريّة، طويلة الباع عريضة التشعبات، والامتداد فيها لا نهاية له، تتولّد في ذاتها كلّما تناقشنا وتكلمنا في أمور فكريّة، ادبية، سياسية،اجتماية، فلسفية، فنية، والشرح يطول كما أطوال السكك الحديد.
من هذه التجربة حصدت كتابين “جورج شامي والمسّ الجمالي”، و”قرابين مشتعلة” بالإضافة إلى مقالات ومراجعات وندوات ومناقشات لا تكفينا الصفحات في تعدادها والكلام عليها والحديث عن صفاتها وتفاصيلها. وباختصار، علاقة أدبية تخللتها مناقشات وتبادل أفكار وأحاديث بلغت ذروتها من التناغم وأدت غرضها من التفاعل الإيجابي، وكنت قد ذكرت مرارًا في مقالات سابقة أنني تتلمذت على جورج شامي في علوم ومعارف لا سابق لها ولا حدود سوى ما يمكن للعقل الآدمي من تصوّره وتحديده.
ومن أهم ما كانت تشمله أحاديثنا مسألة ماهية وغائية الأدب والكتابة في كل أبعادها، وصار التعمق لزامًا علينا فما عادت الأحاديث وليدة الصدفة، بل دخلت في أكاديميات الأدب والقصة والرواية والصحافة والشعر وكل كلام جميل يستقطب تحديدات ومصطلحات كما كل العلوم الحيّة وكل ما يرتقي إلى علم وفلسفة وقوننة ومعرفة وأساليب تعبير وأبحاث عن طبيعة الإنسان وسبب اندفاعه نحو حرفة الأدب والتعلق بها!..
في هذا الخضمّ صار لدينا أشبه ما يكون من أفكار مشتركة، وتطلعات بلورناها معًا، وكانت أسس هذه الأفكار تصبّ في حوضين: الحداثة والواقعيّة.
وإلى جانب هذا الفضاء الأدبي الممتع والمتنامي يومًا بعد يوم وجورج شامي ماضٍ في عمليّة توليد الكتب في تجدد دائم وعمل مستمرّ دؤوب؛ صار لزامًا علينا (نحن من يقرأ ومن يكتب معلقًا) أن نحدّد المواقف والتطلعات والانتظارات من هذا الأدب، خاصة في ما يتعلق بتحديد مسألة الحداثة الأدبية التي حاول كثيرون جهدهم أن يدرّسوها ويرصدوا مفاعيلها في مؤلفات جورج شامي.
وفي هذا الخضمّ كانت المحاولات تتوالى، ويأتيك من يكتب في أدب جورج شامي مقالات لا تتعدى الكلام المنمّق والمحسّنات البديعة الموصوفة والتي استهلكت من كثرة ما استعملت، والبحث خارج الزمن وخارج النقد وخارج العقل، منذ أن قام جهابذة النقاد بنقد العقل النقدي، ولا أذكر هنا الفلسفة؛ بل أبقي على مدار التأويل الذي ابتكره أمثال “تودوروف” و”هيمسليف” و”بارت” وغيرهم وامتنع عن المبالغات خشية أن أسلك مسلك هؤلاء الذين يذكرون حشدًا من الأسماء بغرض التباهي والاستعلاء…
كل همّي ودأبي أن أعمد إلى تصويب ما يكتب من مقالات، تنال من أدب هذا الرجل، وتصويب ما يكتب وتحديد ماهية ونوع ما يكتب من مقالات نقديّة ودراسات، وطرح السؤال الأبدي الدّهري: لماذ يكتبون بهذه الطريقة، وما الغرض من استعمال هكذا مصطلحات بالية، ولماذا سلوك هذه الاتجاهات الصعبة العصيّة على الفهم والإفهام؟ هل صارت الكتابة طلسميّة إلى هذه الدرجة، أم أن ثمة طاغية نصّب “ذاته العلوية” سلطانًا ومرجعًا يهيمن على الكتابة وعلى طرائق الكتابة؟!.. وأنا لا أعلم أن فقه الكتابة ومحراب الأدب، كتبًا منزلة من سدرات علوّية، فيها من النبوّة المحجوبة الشيء الكثير ممّا يستعصي على العوام فهمه وإدراكه!!..
هكذا إذن كتب أرسطو قديمًا كتاب “فن الشعر” وحجر عليه لألفي سنة حتى يأتي مستنيرون لقراءة نصوصه في عصور التقدّم والاتصالات والعولمة… وهكذا كتب “صن تسو” “فن الحرب” و”بوكاسيو” “الديكاميرون”!!..
الأمر الذي لا خلاف عليه هو وجود مسائل قائمة بحكم الضرورة، مسائل من صلب كتابات جورج شامي تحتاج إلى ردود وتحليل، حتى لا تبقى في خانة ما يطلق عليه النقاد مصطلح الإشكالية، ولو أجمع على هذه المسائل أصحاب الشأن لأصبح من السهولة تناول القضايا الأدبيّة لدى كل كاتب وفرز الصالح منها عن الساقط من دون أي عناء يذكر!..
لكن ما حصل مع جورج شامي، أن من تناول أدبه بمقالات لا يسعنا القول إنها نقدية، بحيث بقيت تعريفيّة ولم ترتقِ إلى مصاف النقد الصريح والحقيقي؛ أساء إلى أدبه إلا في ما ندر، وبقي النقد مقصّرًا بعيدًا كل البعد عن مضامين هذا الأدب، وأسمح لنفسي بالقول إنه تناول الروايات والقصص القصيرة خصوصًا من زاوية كلاسيكية سَمِجة، هذا ولم نذكر سائر الأعمال الأخرى في النقد والصحافة والتحليل والرحلات والسياسة وسائر المواضيع بشكل عام.
هذا الكلام أنا مسؤول عنه شخصيًا لأن خطورة هذه المقالات “التجميليّة” إذا لم نعطها نعتًا آخر، أدّت عكس غرضها؛ إذ قتلت المعنى وحجرت على نصوص جورج شامي، وكادت أن تطلق عليها رصاصة الرحمة؛ والرجل في السنوات العشر الأخيرة ترهّب في صومعة الأدب ووقف مصليًا في محراب الكلمة، وأخذ يعمل ليلا نهارًا، ليكتب أعمالا جديدة، حداثيّة بامتياز؛ قلبًا وقالبًا، وتاليًا في ختام هكذا أعمال وضع عصارة خبراته في الكتابة، محوّلا فن السرد إلى ملاحم من نور وعشق وشعر وأفكار وتأملات، أخذت تتقاطع في ما بينها، فتراوحت كتاباته بين القصة القصيرة والرواية الطويلة، والرواية الشعرية وغيرها من الدراسات والمقالات.
عمل جورج شامي على أن يضع في كتاباته الجديدة الأبعاد والمعاني والصور والأحداث والخيال والواقع في قوالب حداثية بامتياز، مع الإبقاء على الأفكار الأولى البكر مستقاة من لباب الملاحم والمثيولوجيات والدين والإيمان والأخبار الإنسانية المتوارثة وتراث الإنسانية الجليّ الذي لا يزهو إلا في عين من يدرك معناه ويفهم مراميه.
لقد استطاع جورج شامي في كتاباته الأخيرة، وما صدر منها وما لم يصدر بعد إلى تجسيد تقنيات الواقعية، من خلال إدخال حقائق الوجود كمبنى أصيل وأساسي في النص، فالحب مثلا في نصّه الطويل “المحارة الباكية” هو حقيقة دافعة مثل حقائق النصوص الدينية، التي مهما عملنا على تخطيها، لا تلبث وأن تعود وتفرض ذاتها على وجودنا، حقائق لا مفرّ من حضورها في وعي الإنسان، ولا مفرّ من مواجهتها مهما حاولنا طمسها أو العدول عن خوض مجرياتها ومفاعيلها.
أدرك جورج شامي وباليقين أنّه بعيدًا عن هذه المشاعر، لما كان هناك أدب ولا فكر ولا كتابة، خصوصًا أنه خاض هذه المشاعر في كتاباته السابقة، ولكن ما العمل حين ينبجس، هذا الشعور القدسيّ كما ينبجس الضمير الأخلاقي مع الأنوار الساطعة من قمقم مسحور في تلاوين زجاجية خرافية، فيها تتحوّل بشاعة الوجود إلى جمال باهر، واضح بقدر وضوح الواقعية، ففي حين أقفل سارتر الأبوب على إمكانيّة الحل في وجوديّته القاتلة حين قال “إن الجحيم هو الآخرون” وزاد عليه ألبير كامو: “أن الموت هو قبر مقفل”؛ وتاليًا ماهية الحياة هي الموت دون الأمل في الرجوع من هذا المصير المظلم والمحبط؛ قام جورج شامي وألهب واقعية الأرض الجامدة المستكينة وفكّها من عقالها وحوّلها إلى أنهار شتويّة مدوّية استحالت إلى كرنفال مشعّ وحفلٍ صاخب يضجّ بآلاف الآلات الموسيقيّة كما يحلو للناقد الروسي “باختين” أن يصف الواقعية الحديثة!..
إنّ الذي يريد أن يفهم أقانيم الحبّ لدى جورج شامي ومفاعيل الساعات والدقائق والثواني العشقيّة؛ ليعد إلى نصوصه وليقرأ مثلا من الصفحة 41 من رواية “عصير الزنزلخت”[1] ما يلي: “ذاك أن ملذات ربيع الحب، وحتى الضحكات التي نطلقها في شبابنا،لا بد ان تهرب منّا وتحيا في ذاكرتنا، لكي تدفع بنا إلى اليأس، أو تبث لنا العزاء في عطر تبعث به إلينا وفقًا لأهواء تأملاتنا السرّية، وهذا ما حصل مع الأستاذ!”
“وكثيرًا ما كنت أتساءل، كيف أستطيع أن أصف ارتعاشات النفس المضطربة، وأنا عاجز عن أن أصف أسرار الجمال المرئي، وكيف استطيع أن أصوّر الألوان المتقلّبة من العواطف والمشاعر والأشياء التافهة التي لا تقدّر بثمن، والمعاني التي تعجز اللغة عن أدائها وتلك النظرات التي تفوق المزامير سحرًا، والأفكار التي ترتسم على جبين حبيبتي الرخامي، فتلتهب عيناها وترتجف أهدابها وتتموّج تقاطيعها وتحركها ابتسامة لا تقاوم!”
أي واقعية هي هذه، تأتيك بالملذات والضحكات، والعطور والأهواء، الأكثر سرّية، هي رحلة إلى مرتع الأسرار والزفرات الحميمة، في معبد الجمال والحب، وذكرى اللقاء الأبدي بين الذكر والأنثى في أفلاك لا نهائية من التسبيح الكوني، مشاعر تصل إلى مستوى التسبيح كما المزامير، كما الصلاة، كما الابتهال، وجه الحبيبة في لحظة التجلي، كما الانبعاث من بين أسر الموت، والانعتاق الأبدي الذي يعانق حرّية الانطلاق نحو الوجود اللامرئي والفردوس؛ في صفاء التجلي وباختصار أن نكون في الحب كما الله، تعجز كل لغات العالم عن وصفه!!..
أجل هكذا تجلى جورج شامي من وحي من ألوهة متفجرة في كل الاتجاهات، معابد حب منزرعة في كل الأفئدة النابضة بإكسير الحياة، الذي لا يوقفه شيء، لا بل تبقى فعلا جذوة الحبّ متقدة إلى النفس الأخير وهي تتحفز للظهور وإعلان مكنوناتها. ها هو دوستويفسكي يقول: “هنا، في هذا القلب، تراكمت أشياء كثيرة سيدهش منها العالم حين سينكشف كل شيء في يوم الحساب؟؟
مع جورج شامي تقوم القيامة ويأتي الحساب في كل لحظة شاردة من دفاتر العشق، او ليست مطوّلة “المحارة الباكية” شاهدة على حدّة هذا الحساب ومفاعيله؛ والطاقة الكبرى التي تعيد حركة الوجود إلى نقطة البداية؛ إلى نقطة التوليد الكبرى، وبزوغ عصر جديد من الحب والعشق والمشاعر الملتهبة أقوى حدّة من أي شيء آخر عرفناه من قبل.
وهنا يعود إلى الأذهان ذلك السؤال الذي ينكتب بأحرف من نار: أين نقاد جورج شامي، أين هم؟! أنا لا أراهم ولا أعرف جدوى لمحمول كتاباتهم، وما إذا كان المكتوب قد بلغ مراده إن في عملية النضج أم في النقد مهما كان نوعه سلبًا أم إيجابًا! كما أعجب أشدّ العجب من الذي يتقدّم إلى ساحة الوغى، معه الأسلحة والتجهيزات، قاصدًا النزال والمقارعة، فتتمخض معركته عن مزاح، أو تسفر عن رحلة في فضاء افتراضي له من أدب النقد الشكل ولكن ليس له المبتغى والهدف المنشود.
لا أجد لدى واحد من هؤلاء كلامًا يقدر على إقناعي أو يبثّ في إفهامي، ما يشبه الحديث الورع والتقي، يستطيع أن يرهن إيماني، من ذلك الإيمان النظيف العفيف الذي يعيش في حنايا القلوب، فالأدب كلمة “وفي البدء كان الكلمة”، الكلمة التي تعلي الإنسان، وتعدّه لاقتبال الخلاص، وإنقاذه من براثن الخطيئة، حتى لا يرتمي في اللحود التي لا قرار لها في غفلة عن كل شيء، خصوصًا عن القدرة الكامنة فيه على إرواء العطش للجمال ومنابع العاطفة والإحساس.
أجل هؤلاء الكتبة، وكأني بهم يرددون مقولة فردريك شيلر: “نعيش الحقيقة في خضمّ الخديعة”؛ وأنا إذ استميحهم عذرًا، لا أجد نفسي سوى في ذلك الموقف الذي يدفعني إلى اعتبار ما تفضلوا به من كتابات وافرات، وما ندت عنها قرائحهم النيّرة المستنيرة، أنّها ليست سوى كتابات الخديعة، وأوهام الطبيعة التي لا دور لها سوى تشويه الحقيقة وإرباك الناس واستدراجهم بعيدًا، بعيدًا عن أدب شامي وجوهره!..
وعليه ليكن معلومًا أن الكتابة الحداثية، والتي تتناول الأدب من زاوية نقدية، لها ملائكتها وطقوسيّتها أي أنها تتطلب سهرًا وتعبًا وعلمًا ومعرفة وإدراكًا للكيفية التي ولّدت النص في لحظة معينة بعيدة كل البعد عن الترف الذي يمارسه كتّاب كثر صارت الكتابة لديهم سلوى وتمضية للوقت، غير مدركين أن للرواية جملة أبعاد وأمورًا كثيرة تتقاطع أفقيًا وعاموديًا لأجل إحداث النص كما هو لا كما يريده الآخرون؛ في تبعيتهم الممضة لكاتب أو لنمط كتابة أصبح رثًا باليًا عاجزًا عن تشييد صرح فكري للمستقبل.
وأعود وأكرر طرح السؤال: نقّاد جورج شامي أين هم، وكم أحزن عندما أجد في الحركة الأدبية العالمية نشاطًا، على الأقل في بلدان مثل فرنسا وإنكلترا والولايات المتحدة، حيث يقوم النقد بواجبه تجاه الكاتب مهما كانت نوعية كتاباته على الأقل في مجال التعريف عنه وتحديد مساره ليعرف الناس أنّ “هذا هو الرجل” كما قال بيلاطس البنطي ذات يوم عندما قدّم السيد المسيح للجماهير الغاضبة جعله يقف مجلودًا مضروبًا مضرجًا بدمائه وإكليل الشوك منغرسًا في رأسه وعلى أهبة أن يصلب.
في رواية “عصير الزنزلخت” التي أتناولها كمقاربة في هذه المقالة، ثمة احتمال جدّي، أن يخال القارئ أن جورج شامي وعن عمد ومع تصورات سابقة تطال شخصيات الرواية لأنهم بشر من لحم ودم، أراد أن يضع هذا القارئ في مأزق القبول أن ثمة استحالة، فرضها الواقع وحقيقة الحياة، وجود علاقات بين البشر وبصفة خاصة إشكالية العلاقة بين الرجل والمرأة، عندها تتعدد التفسيرات ويصبح من الملزم أن يتدخل الناقد محللا، عابرًا للنص الأدبي، مستفيدًا من أجواء ذلك الزمن ويعود إلينا بصورة قريبة إلى حدّ بعيد عن الواقع والواقعية.
أيها النقاد، يسألكم الجيل الجديد وهو يريد أن يعرف، هل الناس على شكل واحد لا يتبدلون، أم تبدلهم الرواية، فيصبحون على “صورتنا ومثالنا”، أو بتعبير آخر هل تبدّلهم لعبة العقل المتلقي في عالم الكتابة ويصبح أشخاص الرواية أبطالا من وهم أم يواصلون الحياة بدل أن يطويهم الموت والنسيان.
يقول إميل سيوران: “كلنا نعيش في قرارة جحيم وكل لحظة فيه معجزة”. وعليه يجب أن ندرك أنّه في زمن رواية “عصير الزنزلخت” كان الوجود بحدّ ذاته معجزة، كما الصلاة، كما الإيمان، كما الكفاح من أجل البقاء، كل ذلك معجزة تتراكم فوق معجزة أخرى، قمينة بأن تتجاسر الكتابة وتكشف القيمة الإنسانية فيها؛ هذه الموجودات الكامنة في دواخلنا من دون علمنا وإدراكنا لوجودها، هكذا أراد جورج شامي أن يحلل أشخاص روايته.
أبطال الرواية؛ هم الكاتب والآخرون، يضعهم الروائي في متوازيات اجتماعية، وحقائق يشرية، ليبدوا في نظرنا مثل الملائكة الساقطين، ذاقوا طعم الملكوت بيد أنهم دخلوا في دوّامة فاختلط عليهم الزمان والمكان ووجودهم تحوّل إلى دواخل ومكنونات تتوارى وتظهر في كون قائم بحدّ ذاته.
هكذا آثر جورج شامي تذوّق عصير الزنزلخت، وكأنه يريد أن يفتدي أرواحًا آثمة، من خلال كفّارة أو توبة روحيّة في ظلال عذابات جسديّة، بغية محاولة معرفة كيفية علاج كل هذه الانهزامات للقيمة الإنسانية التي عليها، تبنى ثقافة الوجود والمعرفة، ألم يأكل الإنسان من شجرة معرفة الخير والشر، ولو كلفه ذلك بلبلة الوجود واستجلاب غضب الله؟..
ولكن ماذا ترون يا سادة في كل أدب شامي غير المدائح والتقريظ، والكلام المقعّر، تعالوا إلى كلمة سواء تجعل من استواء القطبين خارطة طريق لنفهم واقعية هذا الكاتب ولنسلّم أنّه من أتباع الوجودية، ألا يحق لنا أن نضع الوعي السارتري في الميزان، بعيدًا عن المهاترات والتحليل الضعيف؟ من منكم يجرؤ بعد أن يتقدّم ليقدّم التحديدات والمسائل الخاصة في هكذا أدب إلى كتابة الحقيقة!..
يا سادتي النقاد لندع خلافات الأمم جانبًا ونعكف على دراسة ولو رواية واحدة بصورة جدية علمية لأن في ذلك منجاة لنا من الأباطيل والأضاليل، والاستمرار في جدل فارغ وكلمات جوفاء لا تشبع من جوع.
كان جورج شامي في بداية تصويره للنساء في رواياته يرفعهن إلى مصاف الآلهات وربّات العبادة، لكن هذا الكائن الساحر يبقى في دائرة الرواية، أملا منشودًا وساحرًا من أنوار لا تخبو وها هو يقول في الصفحة 60 من عصير الزنزلخت: “وكثيرًا ما كانت تتراءى لي حبيبتي، كلما آويت إلى مخدعي الفقير، وهي في بيتها، وكأنني أشاركها ولو بشكل غامض في حياتها المسكونة بالتواضع! تارة كانت تتراءى لي ضوءًا يتدفق، ثم يأخذ وضعًا مثيرًا، فأنصرف إلى التأمل في محاسنها وكنوزها، وطورًا كان يحملني إليها حلم عذب فأستيقظ من نومي منتخبًا!”
وعليه نقول من منّا لا يريد أن يكون بطلا في رواية أو حتى يكون ذلك المحرّض للفكرة لتكون منتخبة في نصٍ أدبي أم الملهم المفضل لقصيدة يتلوها شاعر كافر في حضرة الألوهة. لقد طارد جورج شامي النساء ليلعبن أدوارهن بتفنن وغواية في عرين عاصفته الروائية، يترصدن بما لهن من طاقات لا محدودة وبدون مقدمات، الفرصة لتصبح صورتهن صورة دائمة للغواية في ذهن الرجال وذاكراتهم.
وحين تتجلى المرأة تحت قلم الكاتب، يصير وجودها المادي جوهرًا قدسيًا يغادر النص إلى رحاب الوجود الفعلي.
لا ليست الواقعية خديعة الانفعال أو عاطفة جارفة تلفظها الأذهان المتوقدة، لا ولا هي عملية “خلق على البارد” في ظل تحليل منطقي جامد وعقلاني يبلغ حدّ الهوس لإدراك تفاصيل اللعبة مهما كانت معقدة، إنها شيء بين شيئين، إنها خبرة وموهبة وقدرة وتفوّق في الرؤية والنفاذ إلى أعماق الشخصيات الإنسانية. يقول الروائي المصري محمد هاشم عبد السلام عن “بول بولز” الكاتب والمؤلف الموسيقي الأميركي ما يلي:
“يستخدم الروائي “بول بولز” الوصف المكثف والبسيط والمباشر للأحداث والشخصيات، وهو وصف حيادي تمامًا من دون أن يورط مشاعره كقاص، أدنى توريط في ما يرويه، ومن دون أدنى تعاطف من جانبه مع الشخصيات أو مصائرها أو إصدار أيّة أحكام”.
أما بالنسبة لجورج شامي فوصفه مكثّف وبسيط ومباشر، لكنه غير حيادي البتة، مشاعره هي التي تحيا في الرواية وتحييها، هو المتعاطف الأوّل والأخير مع الشخصيات، هو الذي يمسك بمصائرها ليس كديّان ولا كحاكم أو قاضٍ أو جلاد بل كمحبّ أحبّ كثيرًا، أحبّ رواياته أحبّ ناسها حتى بذل نفسه من أجلها حتى البذل الكلي غير المنقوص.
بربكم يا نقاد جورج شامي أنظروا!! أو لا تكفيكم التسعون، والتسعة رقم مقدّس ورقمٌ يشير إلى الكلمة الكاملة في حساب كل الأديان وكل العلوم المتفوقة!!..
كانون الثاني يناير 2020
***
[1] عصير الزنزلخت، رواية لجورج شامي رياض الريّس للكتب والنشر الطبعة الأولى آذار 2008