صلاح ستيتيه شاعر ومفكر يتقن السفر في صراع الحضارات… صوت العقل هو الطريق الوحيد للخلاص

 

 

أجرى الروائي جورج شامي هذا الحوار مع الشاعر والمفكر صلاح ستيتيه في باريس ونشر في مجلة “الوطن العربي” بتاريخ 12/9/ 2003، واختير لينشر في سلسلة “الذاكرة اللبنانية” رقم 12 في منشورات الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا- AUST- دائرة المنشورات الجامعية عام 2012 في بيروت مع ما يقارب 45 حوارًا بعضها نشر في “الوطن العربي” وبعض آخر نشر في “المشاهد السياسي” في لندن تحت عنوان “إذا نطقوا… علامات فارقة” حوارات مع لفيف من المثقفين شغلت 480 صفحة. اليوم نعيد نشره في غياب “الكبير” صلاح ستيتيه.

جورج شامي

 

قالوا فيه إنه الشاعر الصعب، وفي ذلك النعت مديح، كما قال رواد طربيه، لأن من لم يتمرّس بالشعر لفرط توهجه تمرّس بالنثر.

وصلاح ستيتيه دخل الأدب الفرنسي، شعرًا ونثرًا، من بوابته الكبرى فاغتنى وأغنى، وأصبح كما قيل فيه، أحد الشعراء الفرنسيين الخمسة الرئيسيين، وعلى هذا نال الجائزة الكبرى للفرنكفونية.

عاشق للغة الفرنسية، متمكن من صرفها ونحوها وبناها وتراكيبها. متوغل في أعماقها، متلذذ في عجنها وقولبتها ونقشها وصوغها لوحات فسيفساء من حضارات الشرق والغرب. إنه ذو موهبة مركّبة، لبناني عربي مسلم، متوسطي شرقي فرنسي، وفي ذلك كله الإنسان.

سفير هو للبنان، ولكنه لم يكتفِ بمناصبه ومهماته الدبلوماسية المتلاحقة، بل صمّم على أن يكون صوتًا حضاريًا وإنسانيًا لبلده. صوتًا يتصف بتواضع العلماء والمثقفين.

“إذا ما استطعنا أن نسكن في ومضة، فنحن في قلب الأبدية”، قال ذلك رينيه شار ويردده بلا كلل صلاح ستيتيه، فهو مقتنع بأن الشاعر لن يلتقط، في أحسن حالاته، سوى  ومضات تتسع في دياجير الغموض والإبهام، تتسع قبل أن تعود الظلمة-مزدوجة هذه المرة ظلمة ما قبل وظلمة الانبهار من برق يخطف البصر- لتلفّ الكون من جديد.

نحو هذا الجديد يخطو صلاح ستيتيه الذي يعيش هاجس الحوار وهمّ المستقبل لبنانيًا وعربيًا، والانفتاح على الآخر.

***

 

منذ أشهر قليلة كنت في دمشق… ومنذ أيام قليلة كنت في أصيلة. فأين لبنان وبقية العواصم العربية في مسارك الثقافي، وما هو دورك في هذه اللقاءات والندوات؟

كنت في دمشق مع أربعة كتّاب فرنسيين شاركنا في ندوة، في جامعة دمشق حول صورة الشرق في المخيّلة الغربية وصورة الغرب في المخيلة الشرقية… وتخللتها وجهات نظر مرتبطة بالأدب. أما أنا شخصيًا، فانطلاقًا مما جرى في 11 سبتمبر/ أيلول في نيويورك ألقيت محاضرة سياسية عما يمكن أن نسمّيه اليوم، الصورة المعطلة للفريقين في مخيلة الآخر، معطلة وكاذبة، وفيما يتعلق بالإنسان العربي هناك نوع من تصاعد العنصرية الغربية المؤسفة والخطرة لأنه كما علّمنا جان بول سارتر، في زمانه، الإنسان سجين صورته، ومن شأن تلك الصورة، أن تصبح في النهاية هي المؤثرة الأساسية، فإذا كانت العودة متعطلة يصبح الإنسان معطلا، وهذا الإنسان المعطّل يحمل نقمة، وهذه النقمة لا بد من أن تكون خطرًا على نفسه أولا، إنما على الآخر أيضًا، فصراع الحضارات الذي تكلّم عنه المفكر الأميركي هانتينغتون أصبح اليوم شبه قائم، والحوادث الجارية في العراق وفلسطين تغذي إلى حد بعيد ذلك التصادم. وأنا أظن أننا ذخلنا، ويا للأسف، في نوع من الصراع الحضاري بين قوّة عمياء، وهي طبعًا القوة الأميركية المهيمنة على العالم والحليفة الإنكليزية لتلك القوة، وعالم آخر مستضعف، ولأنه مستضعف أصبح إلى حد ما أطرش لا يسمع إلا صدى المعارك والقنابل، وهو بالطبع، صدى دامٍ ورهيب.

ولكنني، من وجهة نظري، ومهما كانت الظروف، أرى أن علينا أن نسمع أيضًا صوت العقل، لأن العقل هو الطريق الوحيد للدخول في حوار سياسي ثقافي واقتصادي وإنساني يسمح لنا بأن نخلّص أنفسنا من هذه الورطة التاريخية الكبرى التي وقعنا فيها بسبب الضغوط التي مارسها علينا الطرف الأجنبي منذ أيام الاستعمار وما بعده، ولكن هناك ضغوطاً أيضاً من أنظمة، إما رجعية أو بدائية، ليست في نظري، على مستوى المسؤولية التاريخية المطلوبة منها، وكأني بجميع تلك الأنظمة تركب الموجة ولا تسيّرها بانتظار أن يأتي الفرج.

 

تكلمت عن عمى الطرف الآخر وعن طرش الطرف الذي نمثله، فماذا عن صمت تلك الأنظمة؟  

صمت تلك الأنظمة، هو صمت رهيب من الخليج إلى المحيط، وأنا أرى أن هناك فجوة هائلة بين الواقع العربي-وهو واقع مرضي- وبين الطبيب العربي، رغم ندرة الأطباء العرب، ويبدو أنهم كلهم قد نسوا الطب، فالأمراض العربية نعرفها جميعًا وهي: الفقر، والتراجع الثقافي والحضاري، وتفشي الأميّة في الكثير من الأقطار العربية، والهجمة الرأسمالية.. وكأنه قد بات في الكثير من الأوقات.. التعبير عن الدين ملتزم بتلك العبارة “لا إله إلا الله.. والدولار رسول الله”، وقد نسينا الثقة بالذات لنفتح المجال للخوف من ذاتنا ومن ذات الآخر، قد نسينا التضامن الذي، من شأنه وحده، أن يعيدنا إلى الطريق المستقيم وإلى النجاة الجماعية لكي نلتزم بمصالحنا الضيّقة إن كانت مرتبطة بأرضية ما أو بفئة ما.

العالم العربي أصبح اليوم، وأنا أزين كلامي، عالمًا خجولا من نفسه ينظر إلى الآخر، وبصورة خاصة إلى الغرب وبحسد، وليس هناك من ضمير جماعي، بل مصالح خاصة وطنيًا وفئويًا تستعمل جميع الوسائل للوصول إلى غاياتها الأنانية.

هذا ما قلته في محاضرتي في دمشق، وقلته بالطبع في قالب لبق، لأني، وفي مثل سني أريد أن أكون صريحًا مع ذاتي ومع الآخر ولكنني لا أريد أن أجرح من لا يستأهل ذلك ومن هو جريح بالأساس ولم ينجح بتضميد جرحه. وهذا ما قلته أيضًا في أصيلة حيث عقدت ندوة بدعوة من محمد بن عيسى وهو أمين عام مؤسسة موسم أصيلة، وزير خارجية المغرب، وقد دعيت من قبله مع خمسة وعشرين أديبًا ومفكرًا آخرين للاحتفال بمرور ربع قرن على تأسيس موسم أصيلة الثقافي والفني. وجدير بالذكر أنني كنت وأدونيس من المدعوين في السنة الأولى من هذا الموسم، أي سنة 1977.

وكنت في هذه المناسبة، مع أدونيس، الشاهد على بداية ظاهرة ثقافية لا شك في أنها من أهم الظاهرات الثقافية والحضارية في العالم العربي، بل في كامل العالم المتوسطي. وفي أصيلة تكلمت بصورة خاصة عن وضع الآخر بالنسبة لنا، وذكّرت بقصة مأخوذة من “ألف ليلة وليلة” اتخذت منها بداية لمحاضرتي، تقول القصة: “قبض في بغداد يومًا على سارق رغيف من المخبز واقتيد إلى القاضي للحكم عليه، فلما مثل أمامه سأله: لماذا سرقت هذا الرغيف؟ فأجاب الرجل: يا سيدي أنا من أهالي فسطاط (القاهرة القديمة) وكل ليلة كنت أحلم بأن ثروة تنتظرني في بغداد. فبعت ما استطعت بيعه مما كنت أملك، وأخذت ما جمعت من مال وقصدت بغداد فوصلتها بعد صعوبات جمة.. ولكن الثروة لم تكن تنتظرني في بغداد كما كنت أحلم، وتبخر المال الذي كان في حوزتي ولم أعد أملك شروى نقير. وكان الجوع  قد استبدّ بي حين مررت بالقرب من الخباز، فلم أتمالك نفسي، فأخذت رغيفًا وأكلته. فضحك القاضي لدى سماعه القصة، وقال له: أنت فعلا رجل مغفل، أنا مثلا، كل ليلة أرى في منامي أن الثروة تنتظرني في القاهرة، وأن عندي بيتًا فيه حديقة داخلية ووسط الحديقة نخلة وتحت هذه النخلة كنز، ومع هذا لم أترك منصبي ولم أركض وراء وهم، ولم أسافر إلى الفسطاط ولم أتجشّم مصاعب الطريق، طبعًا لأنني رجل عاقل وأنت فعلا مجنون، خذوه وأعيدوه إلى بلاده”. بينما كان القاضي يتكلم، والرجل يستمع، وجد في الوصف الذي ذكره القاضي عن البيت الذي يحلم به في القاهرة، وصفًا مشابهًا لمنزله الذي غادره، فما كان منه يوم عاد إلى الفسطاط إلا أن قصد بيته فدخله واتجه نحو النخلة التي في الحديقة واقتلعها ووجد تحتها الكنز.

الغاية من هذه القصة أن الرحلة الطويلة لا بد من أن تمرّ عبر الآخر. الإنسان لا يستطيع أن يكتفي بذاته.. عليه أن يقوم برحلة ويواجه صعوبات ويتجشّم مخاطر، عبر الحلم وعبر الواقع، ويحلم ويلعب دورًا اساسيًا في لقاء الآخر. وعند ذاك، أي بعد مواجهته للآخر يعود إلى ضميره وإلى ذاته وإلى بيته، يعود إلى ذلك. فقد يكون البيت بالذات يحتوي الكنز، تلك العلة هي التي من شأنها أن تحوّل الإنسان إلى مغامر والبيت المتواضع إلى البيت الكنز، واستشهدت بأشياء أخرى موجودة في الحضارة العربية والحضارة الإسلامية، ولكنها تعبّر عن هذه المواجهة التي تكون تواصلا وتعميقًا لحياة الإنسان.

ومن الشهادات التي تكلمت عنها أيضًا شهادة للشاعر والمفكر الصوفي الكبير النفري الذي يقول في إحدى شطحاته: افهمني ثم اقتلني. وهذا يعني، أنك عندما تسعى إلى فهم زيد من الناس وفعلا تصل إلى فهمه فتعدم رغبتك بقتله إن كان لك رغبة في ذلك.

علينا جميعًا في هذا العالم المليء بالأخطاء وبالاتهامات وبالتهديدات، أقول علينا أن نعود إلى مثل هذه الفلسفة العالية، أي أن ننفتح بكل إمكاناتنا الفكرية على عالم الآخر فيما هو غريب عنا، وخصوصًا لكي نتفهمه وعند ذاك تمحى رغبتنا في النظر إليه كعدو، وهذا الدرس أوجهه لنا شخصيًا، كما أوجهه أيضًا إلى كل هؤلاء العميان الذين سبق وتكلمت عنهم.

 

ألا تجد أن خلط الأدوار في عالمنا العربي هو السبب الأساسي لهذا التراجع، وهذا الضياع بين الصم والعمي والبكم كما وصفتهم، وما هي آفاق الحلول؟

في نظري لا يجوز اليوم-أبدًا- إن أردنا التطور والدخول في الألفية الثالثة- أن ندمج بين الدين والدنيا. الدين لله والدنيا للإنسان. فمزج الدين والدنيا أدى إلى كارثة في الدول التي أخذت بهذا التوجه، منها مثلا أفغانستان، وبعض الدول التي اتخذت من السيرة الدينية عناصر لسياستها الداخلية، في فترة ما، إيران، واليوم علينا جميعًا في العالم العربي، مسلمين ومسيحيين، وفي العالم الإسلامي بكامله أن نطالب رجال الدين بأن يعودوا إلى مهمتهم الأساسية وألا يتدخلوا في شؤون لا تعنيهم أصلا وليسوا خبراء فيها. ماذا يفهم رجل دين في الاقتصاد، ماذا يفهم بالتكنولوجيا، في التخطيط البعيد للأجيال؟ ماذا يفهم في الدبلوماسية التي أصبحت هي أيضًا علمًا فيما نعتت في الماضي بأنها فن. أضف إلى ذلك أن على الجنود أيضًا أن يعودوا إلى مهمتهم الأساسية، وهي بالطبع ليست السيطرة على الشؤون السياسية المعقدة والتي تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم.

هناك في عالمنا كثير من الأنظمة العسكرية، مع العلم بأن العالم بكامله أو بالأحرى بتوجهه الأساسي يذهب إلى الديمقراطية، والديمقراطية ليست هي حكم رجل الدين ولا رجل السيف، الديمقراطية هي حكم الأكثرية المنتخبة من قبل الشعب على أسس واضحة بين أفراد الشعب ورجال السياسة المنتخبين ضمن عقد يلزم الشعب ومنتخبيه، وما دام العالم العربي لم يحكم ديمقراطيًا فسيبقى هذا العالم مهمشًا، وستبقى الشعوب العربية مقهورة لأن إرادتها مغتصبة.

مستقبل الحضارة العالمية في الحوار: الحوار بين الشعب والحاكم، الحوار بين الثقافات واللغات، الحوار بين القارات، الحوار بين الإمكانات الاقتصادية لكل بلد داخل تكامل من شأنه أن يوزع الإمكانات والطاقات والثروات على مجتمع لا بد أن يصبح يومًا عالميًا، وهذا ما تسعى إليه أميركا اللاتينية، وهذا ما وصلت إليه إلى حد ما دول أميركا الشمالية في تكاملها، وهذا ما كان مفروضًا أن تصل إليه الجامعة العربية وهي أقدم مؤسسة إقليمية وجدت بعد الحرب العالمية الثانية. فالعالم كله اليوم، يهب في اتجاه، ونحن الدول العربية المحمّلة برسالة ثقافية من أهم الرسائل الثقافية الإنسانية، نأخذ اتجاهًا آخر، وإذا استمرّ هذا الشأن خسرنا معركة التاريخ الحاضرة، وإذا خسرناها ضاعت منا هذه الرسالة الأساسية التي أتكلم عنها.

 

بوصفك شاركت في مهرجانات وندوات ثقافية عديدة، هل تعتبر أن هذه المهرجانات والندوات قدمت للعالم العربي خزينًا ثقافيًا وخدمت غاياتها، أم أنها كانت على صورة الواقع المخجل والعقيم؟

أنا اعتبر أن المهرجانات والندوات الثقافية ليست إلا تتمة جميلة ومشرقة على العالم كحركة ثقافية عميقة، وإلا لكانت فقط زينة خارجية لا تعبّر إلا عن مظهر ثقافي، وهذا المظهر يضمحل ويفنى بنهاية الظاهرة، نعم المهرجانات والندوات شيء نافع وجميل شرط أن تكون منطلقة من الأعماق ومن الأسس وألا تكون فقط عملية مؤقتة ومظهرًا سطحيًا لثقافة مضمحلة أو معدومة.

هناك مهرجانات عديدة في العالم العربي وتحتوي مظاهر ثقافية متعددة: المسرح، الموسيقى، الفنون الشعبية، الرقص، الشعر. أهلا بكل هذه المهرجانات شرط ألا تكون غطاء لوعاء فارغ، المهرجانات في أكثر المناسبات أصبحت ظاهرة اجتماعية أكثر مما هي ظاهرة ثقافية مؤثرة.

 

لبنان في وجدانك، دائمًا وأبدًا، هل زرته هذا العام، هل تفكر في العودة نهائيًا إليه، وما هو رأيك في آفاقه المستقبلية؟

كنت في لبنان بدعوة من الرئيس الفرنسي جاك شيراك أثناء انعقاد القمة الفرانكفونية، ولأسباب مرتبطة بالأمن لم يسمح لنا نحن المدعوين الرسميين بأن نتجوّل إلا في إطار معين. وكان هناك تنظيم للقمة بفضل وزير الثقافة آنذاك غسان سلامة، ولا شك في أن كل ذلك ولّد لدي ردة فعل إيجابية لما رأيته في لبنان يومذاك من تنظيم وتهذيب اجتماعي وانفتاح.

منذ حوالى شهرين ذهبت إلى لبنان، شبه متخفٍّ، ولم أتصل بأحد من المسؤولين ولا من غير المسؤولين- والله أعلم من هو المسؤول ومن هو غير المسؤول- فبهرني الإعمار، هناك فعلا عملية إعمار متواصلة أعادت إلى لبنان شيئًا من رونقه ومن أسسه المادية والاجتماعية، ولكنني بغت من شيء. كان لبنان، في الماضي، مثلا أعلى بالنسبة للدول العربية بكاملها “المشرقية طبعًا” وكان يمثل الانفتاح على المتوسط وعلى الغرب وعلى الحضارات الأخرى. كان لبنان نافذة لجميع العرب، لا لكي يأتوا فقط إليه ويتلذذوا ويتمتعوا بمناخنا وبجمال طبيعتنا، إلى ما هنالك، إنما هذه النافذة المكوّنة من لبنان جبلا وساحلا، كانت تفتح على آفاق مرغوبة لبنانيًا وعربيًا، وكأن لبنان عتبة لهذا العالم الواسع الذي علينا أن نتعامل معه إن أردنا أن نكون مهيئين للتطور الحضاري.

هذه المرة رأيت أن لبنان لا ينظر إلى النافذة المنفتحة على المتوسط، بل ينظر من نافذة منفتحة فقط على ما يسمى بالإنكليزية العالم الذي وراءه بمعنى آخر، كأن طموح لبنان قد أصبح العودة إلى جذوره العربية لا بالمعنى الحضاري، بل بالمعنى الاجتماعي، فكل مظاهر المجتمع العربي القديم قد ترسخت في لبنان اليوم، أعني الرغبة في الجلوس إلى المائدة الشهية أكثر من الرغبة في الدخول إلى المكتبة أو إلى المتحف أي إلى الكماليات الفكرية والروحية.

لو أخذنا التلفزيون اللبناني نرى أنه ليس هناك من جدل ثقافي، ليس هناك سوى فتيات ومنافسات وألعاب وأغانٍ… لم أرَ كاتبًا ولا شاعرًا ولا مفكرًا يظهر على الشاشة الصغيرة. نعم هناك رجال السياسة الآتون بأفكارهم، وهي في الإجمال أفكار ملتزمة بأشياء محلية وبمصالح آنية، وهذا يجعلنا نقول: حتى السياسة في لبنان أصبحت قسمًا من الفولكلور الوطني، هذا شيء لافت ومؤسف.

أنا ممن يحبون الموائد اللذيذة والشهية، والموسيقى الجميلة ويتسلون بالنقاش السياسي، وما أدراك باللبناني عندما يناقش ويتناقش، وإن كان هذا النقاش سطحيًا، إنما هناك في عالمنا وفي الشرق الأوسط مشاكل كبيرة وحوائج ماسة والتزامات حيوية، لم أرها مجسمة على أي مستوى كان في هذا المجتمع الخفيف اللطيف الذي إن اهتم بشيء فهمّه الأساسي هو المال، وجمع النقود وإن أحبّ شيئًا فهي الملذات والمظاهر، وإن التزم بشيء فلا بد أن يكون هذا الشيء  مرتبطًا بمصلحة ماله. علينا -ونحن من محبي المادة- أن نخشى الإفلاس العام لا المادي فقط، إنما المعنوي وربما الديني.

أعود وأقول، أنا لبناني عربي وأحترم للغاية لبنانيتي وعروبتي إنما أريدهما “هذه اللبنانية وهذه العروبة” على مستوى أسمى بكثير مما جعلنا منهما.

القضية أصبحت مصيرية، ومصيرية بشكل ملحّ، فإما أن نعود فنضبط أمورنا ونجمع قوانا لكي نستطيع الضغط على التاريخ، بل الدخول في سراديبه المتشعبة، وإلا لانفرطنا مثل تلك المسبحة التي نستعملها للتسلية ولتضييع الوقت.

أنا، مع احترامي للجميع، أخشى بل أخاف، بل اترقب فساد الجسم العربي بكامله وخروجنا جماعيًا من التاريخ إن لم تكن هناك انتفاضة تشمل جميع الدول العربية وجميع الشعوب، لكي تكون الانتفاضة المنطلق لنهضة كاملة متكاملة وسبيلا جديدًا للحصول على حياة كريمة كاملة وسامية، غير هذه الحياة الحقيرة التي نعيشها جماعيًا على الكثير من القهر.

الإنسان إرادة، والتاريخ هو مجال لتلك الإرادة، وعلينا ألا نخسر الإرادة وألا نستقيل من التاريخ.

 

لنعد إلى صلاح ستيتيه الشاعر والكاتب والمؤلف، وصاحب الكلمات المضيئة بالفكر والعبارات المشعة، ما هي اهتماماتك على هذا الصعيد في السنوات الأخيرة؟

اهتمّ في الوقت الحاضر، بشؤون مرتبطة بالفكر وبالحضارة وبالدين، لأن الدين أيضًا صفة من صفات الحضارة ، وأنظر إليه كديناميكية حضارية لا بديل لها، الإنسان مكوّن في نظري من فكر متحرر ويجب أن يكون متحررًا. ومن شيء من الحدث الروحاني يجب أن يطعّم حدثه الروحاني بالفكر الحرّ وألا يحرم فكره الحر المتحرر من الإملاء الروحاني، فكان عملي في السنوات الأخيرة على الصعيد الفكري والفلسفي، ومن هنا جاء كتابي “دفاتر المتأمل” الذي صدر عن دار “ألبان ميشال” ومن هنا صدر أيضًا كتاب اسمه “الرب الأوحد” أي إله واحد لأديان ثلاثة، وهذا المؤلف كتبه ثلاثة مفكرين أحدهم يهودي اسمه “صموئيل شلومو” الذي تكلم عن اليهودية، والثاني مفكر مسيحي كندي اسمه “إيف برون” وقد تكلم عن المسيحية، وأنا تكلمت عن الإسلام وبصورة خاصة عن حقوق الإنسان في الإسلام، وكم هي مغموطة اليوم من قبل الأنظمة العربية جمعاء، وقد سبق وصدر لي كتاب اسمه “النشوة الروحية” ومظاهر أخرى للإسلام عن دار “ألبان ميشال”، وقبل ذلك صدر لي كتاب عن حياة الرسول محمد –صلى الله عليه وسلّم- كتبته من منطلق مراجع دقيقة وغير معهودة، وقد لاقى هذا الكتاب انتشارًا واسعًا بفعل الظروف الراهنة ولأن القارئ الفرنسي اليوم متعطش لتفهم كل ما هو مرتبط بالدين وبالفكر الإسلامي.

وصدر لي مؤخرًا عن “المطبعة الوطنية” مجموعة شعرية ضمت القديم والحديث بعنوان: “خطوبة النداوة”، ومن الغريب أنه بعد شهر صدر لأدونيس عن هذه الدار بالذات وهي دار عريقة جدًا وتعود إلى القرن السادس عشر، أي أنها أقدم دار نشر في العالم، كتاب بعنوان “ألتمس النور” وكأن صداقتنا- أدونيس وأنا- أدّت خدمة إلى هذا اللقاء غير المنتظر. وسيصدر لي مع فنان كبير جدًا هو الإسباني “أنطوني تابياس” قصيدة طويلة مع رسوم له بعنوان: “غاية الأدغال” وهي قصيدة وجودية شاملة ستنشرها دار “فاتا مورغانا”. وتحاورني حاليًا بطلب من الناشر “ألبان ميشال” اختصاصية كبيرة في فلسفة هيغل اسمها “جواندولين جارزيك” وغاية هذا الحوار المطوّل الذي سيصبح كتابًا إبداء آرائي في أشياء: المنظور واللامنظور، في السياسة والروح، في الإنسان وسرّ الإنسان، في التخاصم والتواصل الحضاري..إلى ما هنالك.. وسيصدر الكتاب على ما أظن في ربيع العام المقبل، وفي ظني سيكون لهذا الكتاب طابع شهادي لأن السن تقدمت والوقت يومًا بعد يوم ينحسر ويزم.

وقد أسهمت مع مجموعة من الكتّاب في إعداد مؤلف عن الصحراء عن دار “روبير لافون”، سيكون مرجعًا عن أبعاد الصحراء جغرافيًا وتاريخيًا ومعنويًا، ويقع في أكثر من ألف ومائتي صفحة.

 

اترك رد