نبيل عودة
الإبحار الى حافة الزمن، هي قصة او الأصح رواية قصيرة (نوفيلا) للأديب المهجري المقيم في استراليا د. جميل الدويهي.
قرأت له العديد من اعماله الشعرية والنثرية وبعضها باللهجة العامية اللبنانية الآسرة، وفاجأني بانه يكتب الشعر بأساليب مختلفة ومتنوعة من العامي الى الفصيح، وبكافة مدارس الشعر واساليبه، وارى انه بحق يشكل مدرسة شعرية لا يستهان بها بطاقاته الإبداعية وفكره الفلسفي المتنور. حتى نثره فيه روح الشعر. ها هو يطل علينا برواية “الإبحار الى حافة الزمن” التي كشفت امامي روائيا متمكنا من فنه وهذه اول رواية أقرأها له.
افتتاحية الرواية تأخذ القارئ بدون مقدمات الى اهم ما في العمل الروائي من فن السرد، بإثارة الدهشة لدى القارئ، بدون مقدمات مملة، وبلغة قصصية جذابة بتركيبتها، وهو بذلك يثبت انه خبير ومتمكن من هذا الفن، ويعرف كيف يطوع جماليات اللغة ليأسر القارئ أيضا بلغة السرد، ثم ياسره بأحداث الرواية. وهي احداث متسارعة لا تعطي للقارئ فرصة للتثاؤب، وتدفعه لإتمام قراءة النص الروائي بلا توقف.
د. جميل الدويهي لا يعطي للقارئ فرصة لينقطع عن التواصل مع شخصيات روايته واحداثها التي تتواصل بنسق سريع تاركا القراء يلهثون وراء تطور الأحداث.
كما ذكرت يدخلنا لتفاصيل مثيرة حول جريمة قتل وتحقيقات بوليسية مع متشرد اسمه ريتشارد ليقول لنا في مكان متقدم أكثر انه بالأصل من عائلة لبنانية هاجرت الى استراليا، احبته صاحبة بار، ولكنها ارتكبت جريمة قتل ضد شخص حاول اغتصابها فسجنت.
كان هذا تمهيدا لنتعرف على بطل الرواية ريتشارد، عشيق صاحبة البار، وصديقه المتشرد أيضا ستيف.
عمليا يقودنا الكاتب هنا الى احداث روائية جديدة، بعد تعرف ريتشارد على سائح امريكي اسمه روبرت طلب منه مرافقته مقابل اجرة.
ان خلفية البداية هي لتصوير شخصية البطل الرئيسي ريتشارد لنبدأ في الدخول الى عالم قصصي جديد. روبرت يبحث عن ثروة ذهبية اخفاها السكان الأصليون لأستراليا وعرض على ريتشارد مرافقته مقابل اجرة وهنا يبدأ النص بالانفتاح على عالم أوسع من عالم المتشرد، رواية جديدة او الأصح احداث جديدة بعد ان تعرفنا على الشخصيات التي تشكل محورها، ويثور السؤال الذي اشغلني: هل كان السرد القصصي الأول ضروري لكي ندخل في احداث النص القصصي الجديد؟ لأنه تقريبا لا علاقة بالأحداث الا لتصوير شخصية بطل الرواية ريتشارد وشخصية السائح الأمريكي روبرت. طبعا ينضم أيضا صديق ريتشارد ستيف، عمليا رواية جديدة رغم انها لم تنفصل كليا عن بدايتها.
هنا اريد ان اذكر امرا هاما، ان اللعبة السردية القصصية لم تضعف بل ازدادت قوة وتألقا، قربت القارئ لشخصية ريتشارد، ويكاد القارئ يشعر انه يتواصل مع الأحداث الأولى، قضية قتل صاحبة البار لشخص حاول اغتصابها وعلاقتها الخاصة بريتشارد.
الى جانب ريتشارد ينضم أيضا صديقه ستيف وهكذا يبدأ مشوار كشف احداث تاريخية عن المنطقة التي يتوجهون اليها، وهنا نحن اما سرد لم يترك أيضا شرح تطور الأحداث التاريخية لتلك المنطقة من قارة استراليا، الجولة السياحية والتاريخية تعطي خلفية للحدث الأهم الذي سيتبين لاحقا، موضوع الكنز الذهبي الذي يبحث عنه السائح الأمريكي. رغم ان المضمون القصصي ظل مسيطرا على مجمل احداث الرواية بل وبأسلوب مشوق جدا من حيث السرد ولغة السرد القصصية، وانا اصر ان للفن القصصي لغته الخاصة المميزة والتي تختلف عن أي صياغة لغوية أخرى، وقد اطلقت عليها بمقالاتي تسمية “اللغة الدرامية”. وهنا نجد اللغة الدرامية متألقة في السرد القصصي لرواية د. الدويهي.
نجح الكاتب د. جميل الدويهي ان يواصل اثارة دهشة القراء للسرد التاريخي عما مر بالمنطقة حيث تدور احداث القصة، والجرائم التي ارتكبت ضد السكان الأصليين (الابورجينيين) والعرض السياحي للمواقع التي تدور فيها الأحداث الروائية، وارتباطها بأحداث القصة. خاصة حين يكشف الأمريكي انه يحمل خريطة لكنز ذهبي، دفنه ابورجيني في احدى الغابات. فيما بعد يبحران مع قارب فتاة اسمها ماريان للوصول الى الغابة حيث دفن الذهب. بدون التفاصيل الممتعة لعملية البحث التي لم تسفر عن نتيجة لكن الأمريكي يصر انه سيصل للكنز، وحين كان مع ستيف لوحده يحدث ان هوى الأمريكي الى حفرة، فأصيب إصابة قاتلة برأسه وفارق الحياة. ريتشارد يشك بأن صديقة ستيف هو من دفع الأمريكي للحفرة، اذ يتبين انه اخذ حقيبته وخارطة الكنز والمسدس الذي كان يحمله الأمريكي مخفيا بحقيبته.
العلاقة بين ماريان وريتشارد تتحول الى قصة حب، لكن ستيف تحول الى شخص عنيف ويريد ماريان بالقوة لنفسه، في الوقت الذي بدأت قصة حب تربط بين ماريان وريتشارد. هنا تبدأ عملية الصراع بين ريتشارد وماريان من جهة وستيف من الجهة الأخرى، ماريان وريتشارد يهربان من ستيف الى أعماق الغابة وهما لا يعرفان كيف يخرجان منها، لكن ستيف يهتدي لمكانهما ويطلق النار على ريتشارد الذي حاول منعه من اخذ ماريان فيصاب بجرح خفيف، بعد ان ساق ستيف ماريان معه بالقوة، يتبين ان رصاصة ستيف لم تقتل ريتشارد، بل سببت له جرحا سطحيا، ينطلق ريتشارد للبحث عن ماريان وستيف، فيجدهما بحالة صراع عنيف وينجح بقتل ستيف وإنقاذ حبيبته ماريان.
طبعا ريتشارد وماريان وجدا كنزهما بعلاقة الحب بينهما ولم يواصلا البحث عن الكنز.
هذه هي اهم احداث الرواية. كما قلت هو نص آسر بتفاصيله ولغته التصويرية المتطورة وقدرة الكاتب على اثارة الدهشة المتواصلة لدى القارئ بأحداث الرواية وبجمالية اللغة ودراميتها.
كنت أتوقع ان اقرأ رواية أقرب للشرق العربي، للبنان خاصة، ولكني تفاجأت من زخم النص واختراقه ساحة جغرافية تحتاج الى معرفة جغرافية دقيقة خاصة في قارة هائلة المساحة مثل استراليا وغابات استراليا ومناطقها الرائعة.
بالتلخيص يمكن القول ان د. جميل الدويهي قدم لنا نصا مليئا بالأحداث التي لا تتوقف من افتتاحية النص وحتى الكلمات الأخيرة، الى جانب تعريف بأحداث التاريخ والجغرافيا وبلغة عربية جميلة في مبناها، وآسرة في جمالها السردي، والأهم ان القارئ يغرق بالأحداث القصصية ويندمج مع شخصيات الرواية. هنا نجد سر الكتابة القصصية بعدم ابعاد القارئ عن احداث النص، بل ابقائه كل الوقت اسيرا لتطور الأحداث.
يبدو لي ان العنوان “الإبحار الى حافة الزمن” هو حالة فلسفية أكثر مما هي حقيقة. البحث عن الذهب ينتهي بعلاقة حب وهو جوهر الحياة في ابحار الانسان الى حافة زمنه على هذه الأرض. لذا حب ريتشارد وماريان هو الذهب الذي سيبحران به الى آخر الزمن.