الأديبة دورين نصر مع المفكر اللبناني الكبير شربل داغر والحديث عن الرغبة في الكتابة والتوق إلى الحياة

حاورته : دورين نصر

 (بيروت – خاص بـ “وكالة أخبار المرأة”)

يكتب شربل داغر قصيدته وتكتبه، فتمور نفسه بمشتهيات اللغة، ينتقي منها ما لذّ وطاب على إيقاعات التشهّي واللّذة. وكان لنا معه هذا الحوار بعد صدور مجموعته الأخيرة “عشها مثل أبد لا ينقضي” عن دار المتوسط في ميلانو.

– أوّل ما فاجأني في مجموعتك الأخيرة: “عشها مثل أبد لا ينقضي” أنّ ما أضمره النّصّ، ضوء يترك الكلمات بلا ظلال مستحضرًا الأطياف المنسيّة… إنّه رسم الحالة بكلّ ما يحيط بها إذ فيها التماس للعناصر الغائبة، الغارقة في النّفي، في الصمت. فكيف تقيم لحظة الكتابة عند شربل داغر، في الوعد الغائب؟ وتملأ بغيابها الحضور؟

= جميل للغاية الكلام عن الوعد الغائب. وما هو أجمل هو هذا الكلام عن الغياب الحاضر، أو عن الحاضر الغائب.

ذلك أن القصيدة، في ظنّي، وأبعد من مجموعتي الأخيرة، سعيٌ إلى حضور، وليس إلى استحضار. فالقصيدة تبني كيانها، حتّى وإن انطلقت من لحظة معاشة، أو متخيّلة. القصيدة تتّجه صوب مصيرها الخاص حتّى إذا ارتسمت قبل كتابتها حالة، أو صورة، تتعيّنان بالضرورة في زمنٍ جرى، في زمنٍ مضى.

بعض النّقد، بعض الدّرس، ينطلق في فهم القصيدة، وبشكلٍ لاواعٍ في الغالب، من منظور الوحي والإلهام، ما يعني أن القصيدة مسبوقة، منتهية، حاصلة وفق لحظة انبثاقها، وتنتهي إلى أن تكون طبق الأصل عمّا كانته في لوح محفوظ غائب، في ظنّ شاعرها أو قصده. فيما القصيدة – كما درستُها، كما أعيشها – تتقدّم الشاعرَ مثل خطوته التي تسبقه وإن تصدر عنه. وهذا يعني في جملة ما يعنيه أن القصيدة ليست تسجيلًا، بل هي إمكان – إمكان وعدٍ في احتمالات الكلام. وهذا يعني أن القصيدة – إذ تنبني – تكون بما تحتاجه لبنائها، بمعيّة الشّاعر، وبمعيّة الكلمات في تشكّلها.

مثل هذا الوعد مرجأ ومقيم في آن: وعدُ كونِ القصيدة متاحة وتقوم في عيني القارئ. وعدُ ما يأمل به القارئ في القصيدة، إذ يتشارك – بمعنى من المعاني – في صياغتها من جديد.

 

هذه النصوص تستدعي في ذهن القارئ الفنّ التجريدي، حيث تغيب المحاكاة والموقف المعلن والمشاهد التي تستدعي الواقع… فيشعر المتلقّي بانسياب النغمات بين السطور، وكأنّ ندى الصيف قد غطّى معظم  القصائد. كيف تشرح لنا هذه العذوبة وهذه الانسيابية التي جعلت المياه تترقرق في تجاويف القصيدة؟

= الصلة بالفنون التشكيليّة مطلوبة عمدًا وتلقائيًّا في شعري، في هذه المجموعة كما في سابقاتها. هذا ينطلق من منظوري الجمالي الذي أعمل عليه، والذي أرى إليه في تجلّيات الصنيع الثقافي، أيًّا كان. في صنيع غيري، كما في صنيعي.

أمّا عن صلتي بالنزعة التجريديّة، فهي صلة أكيدة، في ظنّي، لكنّها تحتاج إلى تبيان. فالدرس ينساق في الغالب إلى تنسيب قصيدتي، أو إلى تأكيد احتياجها في بنائها إلى منظور بصري. وهو أمر صحيح، بدليل ما أصرّح به في قصيدة: “إذ أرى، أكتب”. وهو ما في إمكان القارئ التنبّه إليه في كثير من شعري، حيث لا تستقيم القصيدة في بنائها إلاّ وفق مقوّمات النظر البصري إليها: قصيدة ترسم عالمًا من شكل ولون وتجليات مرئيّة.

إلا أنّ في ملاحظتك ما يشير إلى ما هو أدقّ وأرهف في التناول، وهو النزوع صوب التجريديّة في العمل الشعري. وهو قول يحتاج إلى كلام متوسّع من دون شكّ، لكنّي أكتفي ببعض القول فيه. ما يقوم عليه المنزع التجريدي يشدّد على أنّ لمواد العمل الفني “قيمًا” قائمة في حدّ ذاتها، من دون أن تروي بالضرورة “موضوعًا”، أو أن تحاكي منظرًا أو وضعيّة حكائيّة… وهو ما تنبني عليه قصيدتي، في عدد منها، لما تشدّد بدورها على قيمة مواد القصيدة، مثل التعويل على قيمة الألفاظ (في جرسها، في بنائها التصريفي، في دلالاتها المتشابكة والمتداخلة…)… أي أنّ لجرس اللفظ، على سبيل المثال، قيمة إيقاعيّة… وأنّ لبناء الجملة ما يسمح بالتوقّف البطيء والمتمهّل عند حواف المعنى، ما يشبه التدرّجات اللونيّة الصرفة في لوحة تجريديّة…

فدرسُ التجريدية الأوّل هو أن تشكيليتها تكتفي بموادها، بقيمها الخصوصيّة، من دون “موضوع”، بما يستثير الانفعال لدى المتلقّي. وهذا بعض ما تسعى إليه قصيدتي، عندما تسعى إلى استثارة انفعال القارئ في هسيس الكلام، كما في تشكّلاتها المرئيّة.

– لأسلوبك طابع يغلب التطبّع، فما إن يطلّ القارئ على نصوصك الشعريّة حتّى يلحظ نمط كتابة لا يشبه سوى شربل داغر. ما مدى صلابة هذا الأسلوب؟ أهو نتيجة عمل طويل دؤوب ومتواصل أم أنّه يولد فطرة مع ولادة القصيدة؟

= الجواب بسيط ومعقد في الوقت عينه. بسيط، لأنني طلبت، منذ شعري الأوّل، “كتابة متعدّدة”، ما يعني التباين والتعدّد والتنوّع. الجواب بسيط، لأنّ الشّاعر لا يتوانى عن الفعل نفسه، بتركيز وشغف. لا يتوانى عمّا يمكن أن يكون مثل الحفر، أو الانزلاق، أو التغوير في لحظة. أحوال القصيدة ليست واحدة، لها إيقاع تشكّل مختلف بين تجربة وأخرى.

لكنّ الجواب معقّد أيضًا، إذ لا أتقدّم وأرتقي من مجموعة شعريّة إلى غيرها، وإنّما أتجوّل وأنتقل في مناحي كتابتي الشعريّة. ذلك أنّني اقتنعت منذ عهد بعيد بأنّ القصيدة شكل بنائي، وليست رصفًا متتابعًا، واستسهاليًّا للجملة الشعريّة.

ولو طلبت تشبيه قصيدتي، لقلت بأنّها تشبه الأسلوب التجريدي لدى أحد الفنّانين: تراه متماديًا في مسعاه، ما يجعله صاحب أسلوب  إذا جاز القول، وتراه مختلفًا من معرض الى آخر.

وما يجمعني، بين التمادي والتباين، يقوم على الجري وراء اللغة، وراء الجملة، حيث يتأتّى معناها في تشكّلها، في انغلاقها الأخير. الجملة ليست مسبوقة، ولا طيعة البناء، إذ هي عجينة بيدي، وتتشّكل بين أصابعي من دون هيئة مسبقة. إلاّ أنّ هناك قصائد تتشكّل وفق جملة ابتدائيّة، وفق مقترح أتبّعه لكي أجلوه أو أنقضه أو أنسفه…

تراني أشدّد في جوابي على بنائيّة القصيدة، أي على تشكّلها المفتوح… فيما أعوم، في جميع الأحوال، في ماء اللغة، في حياتها، مدفوعًا بتشهيها بمباغتة الحباة فيها.

 

– تعتبر من أبرز الشّعراء الذين جعلوا من القصيدة موضوعًا للقصيدة، ما أهميّة هذه الفكرة في مسار تجربتك الشعريّة؟

= هذا ما ظهر في مجموعتي الشعرية الاولى، “فتات البياض”، وهذا ما تأكّد في مجموعاتي المختلفة. لو بحثت عن جواب ينطلق من سيرتي، لقلت بأنّ الفكر واللغة شغلاني، على انفراد وفي تعالقهما.

شغلني الفكر، إذ وجدت أن ما نقوم به في الكتابة له أفق، وله ينبوع، متجاذبان مع الفكر. فالقصيدة، أو اللوحة، ليست صنيعًا تقنيًّا، وتتقيّد بقواعد مسبقة، وإنما هي عندي اشتغال حرّ، في الانفعال كما في التأمّل. اشتغال له أن يطوع الأدوات، ويتنقّل بخفّة بين الأنواع والأنماط من دون حرج: بين الشّعر والفلسفة، بين اللغة والمعاينة، بين اشتقاق الكلام وتمرين اللسان في تذوق الحياة…

ذلك أنني اخترت، منذ بداياتي، الكتابة في نوع شعري، لا حدود لحريّته، ولا لتجواله الطائش والمثابر في آن.

القصيدة إذ تكتب عن القصيدة، تكون تفكّر في ما تعمل عليه، في نوع من التجلّي الفلسفيّ. وهي، كذلك، مثل الجالسة أمام مرآتها، تحادث نفسها، وتراجعها، وتبتعد بذلك عمّا لا أحبّه في الشّعر، وهو وضعيّة الشّاعر المغنّي فوق منصّة…

– نتبيّن من خلال معاينتنا لنصوصك الشعريّة، أنّ حاسّة الذوق تتّخذ حيّزًا بارزًا في معنَييها: التعييني والتضميني، فما أهميّة استخدام كلّ من المعنَيين في قصائدك؟

= كتبت مرة لو كان لي أن أختار لفظًا واحدًا من العربيّة، لاخترت فعل: ذاق…

أدهشني هذا اللفظ، بإمكاناته الاشتقاقية، وبحمولاته الغنيّة التي عمل عليها كُتّاب وكتّاب في مدى تاريخ اللغة العربيّة.

ففي هذا اللفظ، نجد فعل التذوّق، بين حسّي وتلفّظي: بين التناول بالشفتين، وبين النطق عبرهما. هذا يقيم صلة تكوينية بين الطَّعم وبين الحُكم وبين التعبير عن ذلك. وهو ما تتوكّل به القصيدة عندي.

دلالات التذوّق تتلاقى في قصيدتي، منفصلة وملتبسة في آن. فلا يعرف القارئ ما إذا كنت أتذوّق الحبيبة أم اللغة نفسها. هذا ما يجعل القصيدة تسري في مسلك بنائيّ واحد، لكن لها إطلالات مختلفة على المعنى. هكذا يمكن قراءة القصيدة الواحدة وفق سبيلين دلاليين مختلفين…

هذا ما يغريني، إذ يجعل القصيدة اثنتين في آن.

– لو بحثنا عن كلمة – مفتاح توحّد تجربتك الشعريّة، لوجدنا أنّ لفظ “الشهوة” هو الأبرز حضورًا. ما يدفعنا إلى التساؤل: أهي شهوة شربل داغر إلى الكتابة، أم إلى الحب، أم إلى الحياة؟ أم شهوة إلى تغيير إيقاعات الزمن من خلال القصيدة؟

= سؤال جريء، ومدهش، وشجاع، إذ لم يُطرح أبدًا مثل هذا السؤال عليّ، فيما أرى أنّ الشهوة موضوع لقصيدتي في مجموعاتي المختلفة. كما أرى أن الشهوة تشكّل نازعًا، دافعًا لكتابة القصيدة، بل لمفاتحتها، أو مباغتتها، أو لمواقعتها.

القصيدة متمنّعة دومًا على الشّاعر، وله أن يقوى، أو لا يقوى، على مبادرتها، على مجالستها، على معايشة المتعة معها.

إلا أن هناك تشهيًا مختلفًا في القصيدة، أو وراءها، وهو دفعُ الموت، وإبعادُه. فالقصيدة اجتراح حياة، ووليدة رغبة بالتالي.

هذا ما يجعل الشّاعر يصغي إلى الكلمات مثل وشوشة، فيما تأتيه من دون أن تنزل عليه، بل يكونان معًا في رقص الحياة في اللغة.

 

– نلاحظ أنّ القضايا الوطنيّة،السياسيّة أو الاجتماعيّة ما تزال ملامحها خفيفة في قصائدك، فهل يعني ذلك نوعًا من التهرّب من الأدب الملتزم؟ وما رأيك بهذا النوع من الكتابات؟

= انشغل شعري الأوّل بالسياسة، في تناغم مع التزاماتي حينها بشواغل اليسار الجديد. لكنّني ما لبثت أن انقطعت معها بعد اندلاع الحرب في لبنان وهجرتي الى فرنسا، التي راجعت فيها مواقفي السابقة من السياسة كما من الأيديولوجية. غير ان انقطاعي عن الالتزام الحزبي لم يعنِ، بعد فترة النقد والنقد الذاتي، الانقطاع عن السياسة.

هكذا ظهرت غير قصيدة في مجموعاتي تناولت السياسة بشكل سلبي، ولا سيّما مع الأفعال الإرهابيّة. هذا ما التقى في ما يمكن تسميته: نقد الشهيد والشهادة، كسبيل في مقاربة السياسة.

وقد يكون انشغالي المتعاظم في شعري بالحياة، بنشدانها، بالتمتّع بها، أبلغَ نقدٍ يمكن لي قوله في زمن الخراب والضّعة الذي نعيش فيه.

– هل تعتبر أنّ الالتزام بمضمون معيّن يحدّ من انطلاقة قصيدة النثر ويقيّد حريّة بنائها؟

= أعتقد ان القصيدة بالنثر خلخلت الشعر والقصيدة العربيين بقدر ما بلبلتهما. فظهورها يقترب من الابتداع، من الاختلاق. أقول هذا على الرغم من التنامي الملحوظ للنثر قبل خمسينيات القرن العشرين، ولفاعليته في الكتابة وبين النخب. كما ترافق هذا التنامي أيضًا مع تجديدات عروضيّة في القصيدة العربيّة.

انتعاش النثر هذا لا يخفي مع ذلك اندفاعات لم تكن محسوبة، أو متوقّعة. وهي اندفاعات التفاعل والتلاقي مع تجارب غربيّة في تجديد القصيدة، وفي النظريّة الشعريّة.

لهذا أتى انطلاق هذه القصيدة مفاجئًا ومربكًا في الوقت عينه، من دون أن يعني ذلك عدم الإقبال المتعاظم صوبها.

إلا أن هذا الإقبال حمل معه أعراض هذه النشأة. حملَ التجريب مثل الاستسهال. حملَ نثريّةً قريبة من كتابة الخواطر، وبلغات مهلهلة النسج، ذات رومنسية مائعة، أو هامشية بالغة النرجسيّة.

هذا ما جعلني أعود إلى درس هذه القصيدة، وإلى التفكّر في حريتها المكتسبة كما في معايير بنائها. فالحرية التي أتاحتها هذه القصيدة لم يُستفد منها، بل جرى كتابة قصيدة وفق أنماط مستساغة ومقبولة، وباتت أقرب الى القصيدة التي خرجت عليها. هذا ما أسميته: القصيدة بالنثر وفق المنظور العروضي.

أقول هذا مدركًا صعوبة هذه القصيدة، بين حريتها المفتوحة، من جهة، وبين معايير بناء يحتاجها أيّ شكل فني، ومنه القصيدة، من جهة ثانية.

– هل لكلّ نصّ شعري كتبته مسودّة، أو تفضّل إطلاق العنان لعفويّة الكتابة؟ وهل ترتبط هيئة القصيدة بهذه العفويّة أو بمضمونها؟

= للقصيدة أحوال وأحوال، ولا يمكن اختصارها بعلاقة بين مسودّة وحاصل. هي أعقد من ذلك، وأبعد من ذلك. تمضي أيام وأسابيع من دون أن أكتب قصيدة واحدة، فيما أكتب مجموعة بكاملها خلال شهرين من دون انقطاع.

ومن أحوالها أيضًا، أن قصائد أكتبها بسرعة تفاجئني، إذ تنزل بخفّة شديدة، ولا تحتاج إلى معالجات عديدة. وهناك من القصائد ما أقف أمام بابها، طارقًا ومحاولاً من دون جدوى…

ذلك أنّ القصيدة تبدو لي مثل التماعة برق، إن نجحتُ فعلاً في تتبّعها، في مواكبتها. وهي تباغتني أحيانًا في ممرّ جملة، في فتحات ألفاظ…

القصيدة تكون في غيابها، على أنّها تسعى إلى الحضور الشديد.

– نلاحظ أنّ التباين الظاهر في حجم القصائد هو تباين شكلي ليس إلّا، فالقصيدة القصيرة في حجمها، هي بشكل ما قصيدة طويلة بزمنها ومستفيضة في إيحاءاتها، كيف تفسّر هذا التنوّع في الأداء الشكلي للنصّ الشعري؟ وما الذي يحتّم اختيار الشكل؟

= ما تقولينه، أوافق عليه تمامًا. ذلك أنّ اتّساع القصيدة قد لا يختلف عن ضيقها. لي قصيدة بعنوان “كليّة التربية”، تقوم على سطر واحد  فيما تحيل إلى سنواتي الخمس في كليتي الجامعيّة عشيّة الحرب…

في ما يتّصل بشعري، تعنيني للغاية القصيدة ذات اللحظة، التي انشغل بها انشغالاً شديدًا. وهو ما يتعيّن في قصائد غير طويلة، وغير مقسّمة في مقاطع. أمّا القصائد الطويلة في شعري – وهي كثيرة – فتطول تبعًا لناظمها البنائي، وهو الناظم السردي. ففي هذا النوع، يستطيب الشعرُ السردَ ما يعني التنقّل والترابط والتوسع بالتالي.

 

– يتبيّن لنا أنّ موضوعات قصائد مجموعتك الشعريّة: “أنا هو آخر بصحبة ويتمان وبودلير ورامبو ونيتشه” متعدّدة ومختلفة، مع أنّها تشكّل في سياقها العام وحدة كليّة تعبّر عن تحوّلات الذات، حيث لا ميوعة عاطفيّة، ولا حدود في الجوهر بين الذات والعالم، وبين الأنا والآخر. كيف تفسّر هذا التحوّل، هذا التنوّع ضمن الوحدة؟

= قام كتابي على التعايش مع الغير، مع شعراء بعينهم في نوع من التحاور القريب والخلافي أحيانًا مع هذا أو ذاك. هذه تجربة طلبتُها في نوع من التجريب المتعمد. فعلاقاتي مع الشّعراء الأربعة متباينة منذ منطلقها، وقبل الكتابة. فكيف تتجلى إذ أصرف لكلّ واحد منهم كتابًا، وأقبل على صحبتهم، بين المشي معًا في درب واحد، وببن مخاطبتهم عن بعد، وبين الجدل معهم؟

فهناك خيوط في سيرتي تقاطعت مع خيوط سيرة رامبو، فيما جمعني ببودلير الجلوس في المقهى أو التنزّه في عتمة شوارع المدينة أو في الحدائق العامة؟ وماذا عن علاقة الشعر بالفلسفة، وهي تشغلني مثلما شغلت نيتشه؟ وماذا عن علاقة الكلمة بالصورة، التي افتتحها ويتمان، فيما أعمل عليها في بعض شعري كما في بعض بحوثي وكتبي في فلسفة الفن؟

لهذا قد نسير في الدرب عينه، مثل اثنين قررا القيام بنزهة معًا. أو نكون مثل اثنين يلتقيان صدفة في مقعدين متجاورين طوال رحلة جوية… أيّ صحبة تجمع بينهما؟ أحوال وأحوال تجري بينهما، ما يتعدّى حكما القراءة – من ناحيتي – في كتب الأربعة، وفي حياتهم.

لا أعرف إن كان يشير هذا إلى تنوّع في الوحدة. هذه الفكرة قبلناها، وقبلتها. نعيدها، وهي تريحنا بمعنى من المعاني.

لا أعرف إن كنت واحدًا حقًّا، أم أن لي ألسنة عديدة. لا بمعنى التعدّد الكتابي، أو التأليفي، ولكن لك هنا الذات الكاتبة.

هل تملك هذه الذات أنا واحدة، هويّة واحدة، فتنتقل وتتنوّع، أمّا أن لها هويّات تتصارع وتتباين فيما تتجلى؟

– هل المتكلّم في قصائدك هو أنتَ الذي لستَ؟ (كيف تصف إذاً لعبة الشّاعر/المتكلّم)؟

= جميل للغاية هذا السؤال، وهو ما أقوم بالتمييز بينهما في بحوثي الشعريّة. وها أنت تلقين بالسؤال عليّ، ما يضعني أمام تحدٍّ مغر.

أنا لا أطيق التطابق الذي نجريه على الشّاعر، بين كيانه وبين قوله  كأنّهما كيان واحد، متماثل، فيما الشّاعر وظيفة، لو شئت التجريد، والإنسان الذي في الشاعر كائن يتلاعب بقوله حكمًا في الحياة الاجتماعيّة، فكيف إن كان شاعرًا!

هذا الأمر لازمٌ عند المسرحي، عند الروائي، إذ إن لهما أن “يختلقا” شخصيّات ومسارات ومصائر، في ما يتعدّاهما بالضرورة. من تكون هذه الشخصيات بالنسبة إليهما؟

هذا ما هو أصعب وأخفى في تجربة الشّاعر، إذ إن المسرحي كما الروائي يتحدّثان عن “آخرين” حكما، بينما يختلط ويلتبس القول بين الشّاعر والإنسان الذي فيه.

فمن الذي يتكلم في القول الشعري؟ أيّهما؟ أو: أيّ آخر، أو آخرون يتكلّمون في القول الشعري؟ الأسئلة لازمة ما دام القول – أيّ قول – ليس اعترافًا، أو بوحًا، وإنّما قد يكون من قبيل التمني (أي تتلبّس حالة ليست لك)، أو التشهّي، أو التصاغر (أن تكون “أدنى” ممّا تعتقد أنّك عليه)، أو العبث، أو المداعبة مع الذات قبل الآخر…

– تبقى الصورة الباطنيّة للمعاني هي المهيمنة في معظم نصوصك الشعريّة. عن ماذا تبحث وأنت تكتب، هل هو سؤال ما قبل الهويّة ومأزق مآلها، أو هي الأنا المتشظّية التي تشاطر الشّاعر لعبة الكتابة؟

= أعتقد أنّ ما تتحدّثين عنه مصيب، لكنّني أتناوله في كيفيّة مغايرة. فالصورة أساس في غالب شعري، إذ هي تبني القصيدة في هذه الحال، أو تبنيها فيما تنظر القصيدة بعينيها إلى خارجها. أي هي تعمل على جذب القارئ بجوانب مرئيّة متمثّلة في صور يتمّ التعرّف إليها، أو في صور متخيّلة…إلاّ أنّ ما يحدث في بناء الصورة أحيانًا، هو أنّها تشير إلى بنائين صوريين متلابسين…

أعتقد أنّني أنظر أحيانًا إلى القصيدة، ذات البناء، الصوري، في اتجاهين، أو في وجهتين مختلفتين. أي في كيفيّة معلنة وماثلة، وأخرى مضمرة وعميقة.

ما أقوله هنا يلاقي ما سبق أن قلته أعلاه عن بناء المعنى… أي أنّ هذا قصدٌ بنائيّ، في المقام الأول، فيما يمكن البحث عن الأنا والهويّة، وعن أحوالها، في مقاصد القول، المعلنة أو الخافية.

– إنّ التواصل مع هذا العالم صار بحاجة إلى كيمياء جديدة مختلفة، وهو يتطلّب قدراً كبيراً من الانتباه إلى العالم الخارجي ورصد أحواله ليغدو الإدراك مختلفاً. لعلّه البحث عن المعروف/المجهول الذي يتجلّى أحياناً في ثنائيّة الغائب/المخاطب وفي توظيف الضمير بتشكّلاته المختلفة. كيف تفسّر لعبة الضمائر في قصائدك؟

= راقني أنّك تتحدّثين عن “لعبة الضمائر” في شعري، إذ هي كذلك. واللعبة لا تعني المجانية إلاّ في أحوال قليلة، مثل القصد السوريالي، على سبيل المثال.

أمّا اللعبة فأقيم بها تسمية ما يقوم به الإنسان، في جدّه ولهوه، في تصرّفه وكلامه، وفي أنواع وأنواع من الكتابة.

لتقريب الصورة، أعود إلى طفولتنا، حيث نلعب فيما نظن أننا جادّون في ما نقوم به. الشاعر قريب من الطفل حكما، إذ يبني وهو يلهو، على أن في لهوه ما يقصده، ما يوجّهه الى غيره.

اللهو، اللعبة، المتعة، عناصر أو دوافع أكيدة في بناء القصيدة، وفي مراميها أحيانًا. وهو ما يغيب في درسنا للشّعر، أي تتحكّم بنظرها النقديّ مدارس وقواعد من الالتزام، التي جعلت من القصيدة رسالة موجّهة، ومن الشّاعر خطيبًا أو موجّهًا.

لا أجدني أقصد المعنى، وإنّما أقلبه، وأداوره عمّا يمكن له أن يقول. فالقصيدة، في حسابي، إمكان مختلف لقول العالم…

هذا ما توفّره، في بناء قصيدتي، لعبة الضمائر، إذ تتكّل عليها، في تنقّلات قد تُربك القارئ أحيانًا. فالأنا ليست أنا صادحة، بل هي رهن اللعب، في قولها. هذا ما يمكن الوقوع عليه في كثير من قصائدي، إذ تنبني على محاورة، بين اثنين: قد يكونان اثنين لغة، لكنّهما واحد كيانًا، أو هما احتمالان في القول، ليس إلاّ. وهو ما يبلغ درجة أعلى في نصوص قامت على حوارات متّصلة بين متكلمِين…

إلاّ أنّ هناك غيرها من القصائد ما يلتبس فيه القول، بين أنا القول وأنا التفكّر في القول، بين أنا مبدّدة وبين أنا غيرها إذ تجتمع بها…

وهو ما يظهر بقوّة أجلى، في لعبة التخفّي والظهور، في تقديم الذات وفي إخفائها أيضًا…

ذلك أنّ الأنا قد تحاور نفسها، فيما تدرك وجود غيرها الذي يستعيد كلامها، أو يتنبه لوقوعه عليه… وهذا يعني أنّ القصيدة مسرح، ولعبة، ولها أصوات، وتفضي الى جلبة خارجيّة.

اترك رد