يتمحور كتاب “حقوق بين الخطوط (الحدود اللبنانية الجنوبية تحولات تاريخية وإشكاليات حدودية،)” الصادر حديثًا للعميد الركن أنطون مراد، حول المراحل التي مرت بها الحدود اللبنانية الجنوبية وصولا حتى الخط الأزرق مرورا بمرحلة بوليه- نيو كومب في العام 1923 واتفاقية الهدنة في العام 1949، مع تحديد الإنجازات التي تحققت والإشكاليات التي رافقت كل مرحلة. في ما يلي مقدمة الكتاب بقلم المؤلف.
الحدود هي خطٌ يفصل بين دولَتين أو أكثر وهي عنصر أساسي يجب تحديده عند تأسيس أية دولة ذات سيادة. قد تكون الحدود عامل استقرار إذا كانت الدول المتجاورة صديقة وتحترم بعضها البعض كما هو حاصل الآن بين دول الاتّحاد الأوروبي. وقد تكون عامل حروب وعدم استقرار إذا كانت الدول المتجاورة في حال عداء، كما هو حاصل بين العدو الإسرائيلي والدول العربية المجاورة، ومنها لبنان.
فإسرائيل دولة توسّعية وُجِدت بالقوّة العسكرية على الأراضي الفلسطينية، ومنذ تأسيسها لم تعرف الحدود اللبنانية الجنوبية الهدوء. فالفكر الصهيوني لم يعترف أساسًا بحدود الدولة، وينقسم إلى أربعة أقسام تتراوح مطالباتها التوسّعية بين حدٍّ أدنى وحدٍّ أقصى، ولكنها جميعها تنادي بالتوسّع الذي يطال الحدود اللبنانية أقلّه حتى خط صيدا-جبل الشيخ ().
في الماضي، لم يكن هناك مفهوم ثابت للحدود في القانون الدولي، ولم تكن تدخل ضمن سيادة الدول. وأوّل حديثٍ عن الحدود اللبنانية كان مع إعلان نظام المتصرفية بموجب بروتوكول 1861 الذي عدّل في العام 1864. بعدها أتى إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920 حيث تمّ تحديد وترسيم حدوده الجنوبية بواسطة لجنة بوليه-نيوكومب التي رسمت حدود الانتداب بين فرنسا بصفتها منتدبة على لبنان وسوريا، وبريطانيا بصفتها منتدبة على فلسطين والأردن والعراق فكان الترسيم الأوّل للحدود.
على أثر قيام الكيان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية في العام 1948، خاضت الجيوش العربية معارك طاحنة انتهت بتوقيع اتّفاقيات هدنة بين إسرائيل والدول العربية المنخرطة في القتال ومنها لبنان، حيث وقّع اتّفاق هدنة مع إسرائيل نصّت المادة الخامسة منه على ما يلي: “يتبع خط الهدنة الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين”()، وعلى أساسها تمّ ترسيم خط الهدنة بواسطة لجنةٍ مشتركة بإشراف الأمم المتّحدة فكان الترسيم الثاني للحدود.
أخيرًا، بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في العام 2000، وضعت الأمم المتّحدة خط الانسحاب الذي عُرف حينها بتسمية “الخط الأزرق” وتمّ على أساسه التثبّت من الانسحاب الإسرائيلي من دون أن تتمّ أية عملية تعليمٍ لهذا الخط. وبعد أن وقع عدوان تموز 2006 وصدر القرار الدولي رقم 1701، بدأت اليونيفيل عملية تعليم الخط الأزرق بالاشتراك مع الجانبين اللبناني والإسرائيلي.
في العام 2000، كان لي شرف المشاركة في عضوية لجنة التثبّت من الانسحاب الإسرائيلي فكنت أشعر بالفخر عندما كنت أتحقّق من النقاط الحدودية وأقاتل لاسترجاع كلّ سنتيمتر وأمنع العدو الإسرائيلي من تحقيق أطماعه على حساب بلادي. كنت أشعر بالفخر عندما كنت أشاهد طيران العدو الإسرائيلي يحلّق جنوب الخط الأزرق ولا يتجرّأ على اجتيازه كما كان يفعل قبل التحرير. كنت أشعر بالفخر، وفي نفس الوقت، بالحزن على وضعنا الداخلي ومشاكلنا اليومية التي لم نستطع حتى الآن الترفّع عنها والتمتّع بالشعور الوطني الجامع.
عندما تبلّغت أنني سأكون عضوًا في لجنة التثبّت من الانسحاب الإسرائيلي كنت في الجنوب أهتمّ بسحب المدافع التي خلّفها العدو الإسرائيلي في الشريط المحتلّ كون المدفعية هي اختصاصي. فوجئت حينها، لأنني لم أعمل سابقًا في مجال الحدود، فتساءلت كيف سأواجه فريق الأمم المتّحدة الذي يضمّ خبراء في الخرائط والقانون وله تجارب عديدة في هذا المجال. فوجئت ولكني لم أستسلم فبذلت جهودًا كبيرة للإمساك بهذا الملفّ بالتعاون مع رئيس وأعضاء اللجنة وتمكّنا مجتمعين من إنجاز المهمّة بشكلٍ ممتاز رغم بقاء بعض الإشكاليات التي بمعظمها ليست من مسؤولية اللجنة.
اِنتهت عملية التثبّت من الانسحاب الإسرائيلي فكُلّفت بمهمّة مراقبة الخط الأزرق لمدةٍ تزيد عن السنة، انتقلت بعدها لمتابعة دورة أركان في كلّية فؤاد شهاب للقيادة والأركان فاخترت بحثي عن الحدود الجنوبية. اِنتدبت بعدها لمتابعة دورة أركان في كلّية الأركان العليا في روما فقدّمت بحثًا باللغة الإيطالية حول الموضوع نفسه، فكانت هاتان الدورتان فرصتين هامتين لي اكتسبت من خلالهما خبرات علمية واسعة من خلال البحث والتعمّق في تاريخ هذه الحدود والتعرّف على تفاصيل المراحل التاريخية والميدانية التي مرّت بها.
بعد حرب تموز 2006، عُيّنتُ عضوًا في اللجنة الثلاثية التي تشارك في المحادثات العسكرية غير المباشرة مع العدو الإسرائيلي برعاية اليونيفيل في رأس الناقورة، ثم عضوًا في لجنة إعادة تعليم الخط الأزرق، وعُيّنتُ أخيرًا رئيسًا لهذه اللجنة() فشاركت في جميع الاجتماعات والمناقشات، كما في جميع الأعمال الميدانية. تركتْ كلّ نقطةٍ من نقاط الخط الأزرق في ذاكرتي حكايةً جميلةً ممزوجةً بالتعب والمخاطر، عشتها بفرحٍ وبفخرٍ حتى اليوم الأخير من خدمتي العسكرية في نيسان 2018.
اِخترت هذا الموضوع لأكتب عنه لأنه موضوع وطني بامتياز، فسيادة الأوطان تبدأ بحفظ حدودها، وكرامة كلّ مواطن مرتبطة بآخر حبة ترابٍ من وطنه، ولأنه شائك وغير واضح لدى الكثيرين، وخاصةً المعنيين بموضوع الحدود سواء بحكم وظائفهم أم بسبب دراساتهم وأبحاثهم ويتوقون لمعرفة الحقائق التي تزيل الغموض الناتج سواء عن ندرة الوثائق أو عن تضاربها.
لذلك، وكوني أجمع بين الخبرة الميدانية والخبرة العلمية المتواضعة التي اكتسبتها من خلال تعمّقي بالمراجع والمستندات المتعلّقة بموضوع الحدود، سواء خلال إعداد بحثي لنيل شهادة الأركان في لبنان وإيطاليا أم من خلال متابعتي لهذا الموضوع منذ الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000، شعرت بأن واجبي الوطني يفرض عليّ أن أسكب خبرتي العلمية والميدانية في كتابٍ قد يصبح مرجعًا يضاف إلى المراجع الموجودة ويساعد الأجيال القادمة على تفهّم موضوع الحدود والدفاع عنها، إذا برزت مهام تتطلّب ذلك. سأحاول في هذا الكتاب تقديم شرحٍ مفصّل عن المراحل التي مرّت بها الحدود اللبنانية الجنوبية مع الإضاءة على الإنجازات التي تمّ تحقيقها والإشكاليات التي رافقت كلّ مرحلة.
هذا الكتاب هو ثمرة قرابة عشرين سنة من الخبرة الميدانية والأبحاث العلمية، سكبتها على صفحاته بطريقة صادقة، علمية، متجرّدة وبعيدة عن المزايدات. لم أقصد اتّهام أحد أو الإساءة لأي شخصٍ عمل في موضوع الحدود، فالمشكلة ليست في الأشخاص، بل في آلية عمل تتّبعها الحكومات اللبنانية المتعاقبة. هدفي فقط أن يشكّل كتابي قيمة مضافة في مكتباتنا المدنية والعسكرية وأن يصبح مرجعًا يستفيد منه المعنيون بموضوع الحدود لخدمة وطننا الحبيب.
أخيرًا، أتوجّه بالشكر والتقدير إلى كلّ من ساعدني بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة في إنجاز هذا الكتاب، راجيًا من الله التوفيق ومن القراء الكرام المعذرة عن أي خطأ أو هفوة.