رولا بطرس سعد و… “طفلة الكرتونة”

 

 

الكتابةُ عَمّا يخصُّ قضايا الإنسان عُبورٌ من الوحشةِ الى مَلاحةِ السَّفر فوق جناح المُتعة، أو هي رحلةٌ شيِّقة في مدى الحياةِ السَخِيّ، وإنِ المُبكي أحياناً. وهي بعيدةٌ عن الإِغرابِ، لأنها ليسَت صناعةً تأليفيّة تنصُبُ الأشراكَ، وتزخَرُ بمدلولاتِ الأخيِلَة، فالبساطةُ لا تُبنى بالزّخارف.  لكنّها، مع ذلك، تتطلَّبُ مهاراتٍ إستثنائيّةً، لأنها عِلمٌ ذو تقنيّاتٍ خاصةٍ به، فالسَّردُ يتصوَّن بحلاوةِ الفواصل في مَغزاه، والشّكلُ لا تُنَغِّصُه هزاهزُ الشُّرود في مَنحاه. ومن حقِّ هذه الكتابةِ، بالتالي، أن تتفرَّدَ بغاياتِ الحُسن، وأن تسيرَ في غرارةِ الصِّبا، ” فلا يَحولُ عليها الحَوْلُ ” كما يقولُ “ياقوت”.

“طفلة الكرتونة” للروائيّة رولا بطرس سعد، ترفعُ رأسَها في غيرِ خوف، لأنها شاهدُ صدقٍ على سَبكٍ مُرَونَق لم يخزن لسانَه عن النُّطق في معالجَةِ قضية، ولا أقولُ مشكلة، تندرجُ في مجرى الإحاطةِ الإنسانية التي، برأيي، تُقَصِّرُ الكلماتُ في الإبانةِ عن أهميّتِها، وهي قضيّةُ التَبَنّي. لقد وردَت هذه القضيةُ الى “رولا” وحَطَبُها رَطِب، وانصرَفَت يَقدحُ نارُها. فالروائيّةُ قاربَت موضوعَ التبنّي من الزاوية السيكولوجيّة التي كانت غالبةً على السّياق، وبرزَت جرأتُها في علاماتِ الخَوضِ الرّشيقِ في حميمِ الموضوع، وبذلك، انقشعَت بُقَعٌ عن إِبصارِنا إيّاه، فأضافَت الروائيّةُ وَتراً جديداً الى سيمفونيّةِ البحثِ في قضية التبنّي.

لقد مَرَّغَت رولا بطرس سعد قلمَها في حبرِ السّلاسةِ بِرهافةٍ ودقّة، لأنّ مُقلةَ ريشتِها ما حادَ نظرُها عن أهميّةِ ما تُعالِج. فالتبنّي، وهو الشّهادةُ على اثنَينِ من الأُمور: النّضارةِ الإنسانية المُتَجلّاةِ في عملٍ خَيريٍّ دَعَت إليه عاطفةٌ نبيلة، وحُرقةِ الحرمانِ من غيابِ الإنتسابِ الى حنانِ الأمومةِ ورعايةِ الأُبوَّةِ الحقيقيَّين. 

لقد أضاءَت الروائيّةُ على إشكاليّةٍ بمنتهى الواقعيّة، ولكن بابتكارٍ ومن دون احتراس، فطَعَّمَت الظَّروفَ بمَذاقِ الإبداع، ولم تكن عدستُها آلةً جوفاءَ مسلوبةَ الإنفعال، فجاءَت روايتُها تصدقُ في فتحِ ما أُغلِقَ من سرائرِ قضيةِ التبنّي، وذلك بدرايةٍ مشهودة. أمّا الأسلوبُ الأَخّاذ، ففي الخيطِ المرصوصِ الذي يتدلّى من الكلمةِ الأولى، ولا ينقطع حتى بعد الختام. وهذا، إنْ دلَّ على قيمة، فعلى امتلاكِ “رولا” لزمامِ قلمِها، تمضي فيه بأروعَ ما يكون التَّصريحُ والتّلميحُ في معالجةِ موضوع التبنّي، ليس بالسَّردِ والتّوصيف، بل باختراقِ كوامنِ النّفسِ وجَماحِ المشاعر. 

لقد أخذَت “رولا” قُطَعاً من محنة، وأنشأتها أحداثاً مَعيوشةً، تكاملَت صياغتُها في “طفلة الكرتونة”، لتُنتِجَ ثوباً نسكيّاً، وإن بكى حتى الصَّباح، غير أنه لا يزالُ يُناهِبُ المُنى بحضورِ السّرور، فالعجائبُ تحدثُ دوماً. وما النهايةُ في الرواية، سوى أنّ “رولا” لم تغسلْ يديها من دمّ هذا الصِدّيقِ الذي اسمُه التبنّي، لكنّها مالحَته فبدا خيالُها أمرداً يأكلُ الذَّوقُ ما صُفِّيَ في مبنى “كرتونتِهِ”.

إنّ الإحساسَ الرّاقي الذي ينقلُنا من قطعةٍ الى أخرى، أو من ضفَّةٍ الى أخرى، هو آهاتٌ صُرِخَت على الورق. وهو قدرةٌ سخيّة لَبِقة تعوَّدَت الإتقانَ بلا كلفة، وهكذا مناظرُ الطبيعة، وإن غلبَت عليها الخطوطُ والأشكال، لكنّها هكذا خُلِقَت. والإحساسُ المُتقَنُ هو الذي أقبلَ، في الرواية، على درسِ الشخصيّات بسرائرِها ومشاعرِها المتباينة، وبيَّنَ القلوبَ الحسّاسةَ، خصوصاً في انقلابِها من الوجدانيّةِ والحَنان، الى الغضبِ والثورة. والمَكيدةُ “الشّاطِرةُ” التي جعلَتنا “رولا” نكابدُها، هي عدمُ عَرضِ موقفِها بجلاءٍ من انتفاضةِ “رَشا” المُتبنّاة، لتتركَ لنا حريةَ الإختيارِ بين قُطبَين ينهبُ الدَّمعُ الطريقَ إليهما.    

ليس يكبرُ على رولا بطرس سعد، في روايتِها “طفلة الكرتونة”، أن تكون روائيّةً بارعة، فالقصةُ معها دينارٌ مَنقوش. وفي اليومِ العَبوس، عندما أدركَت “رولا” ما ينطقُ في كوامنِ النّزعةِ الإنسانية من عذابٍ لا يُشفقُ عليه عِقاب، حصُّلَت الموازنةَ بالهروبِ الى الروايةِ حيثُ فتحَت كَوناً من السِّحرِ لا يقعُ لِغَيرِ الكُتّابِ المُوَفَّقين، ولا يرتادُه إلّا أصنافُ المُتَصافين. 

 

اترك رد