لن نجدَ التّراثَ إلاّ واقِعاً في حبائلِ واحدٍ من مَسلكَين، هما النّباهةُ أو الخُمول. فإمّا أن تكونَ قوّةُ الشّغَفِ بالماضي مفتاحاً للذاكرة، تُنعِشُ صَداه، وإمّا أن يجريَ بينَ أيدي التراثِ من فَيضِ الإهمالِ ما يجعلُه ذا حظٍّ مَنكود، فيُغفَلَ أمرُه ويضيعَ مسقطُ رأسِه.
معَ سلام الراسي وقفَ التراثُ وِقفةَ التّغالي بنفسِه لأنه وجدَ مَن يناصرُه، فلم يَعدْ كاسِداً أو محروماً أو مجروحَ القلب. وما عصى على الحياة، لكنّه استظلَّ بفناءِ وَرّاقٍ حِرّيفٍ جمعَ له ما صانَه، ولم يسترْ كثيراً من مخازيه. فسلام كان مشغولاً برزقةِ التراثِ ” لئلاّ تَضيع “، وقد دَرجَتْ بينَهما وشيجةُ من علمٍ وعِشرةٍ وعاطفةِ وفاء، فلم تُفتَحْ خزائنُه إلاّ على اسمِه، ولم تُقدِّمْ قلبَها إلاّ طعمةً لفضولِه. والرجلُ الحفّاظُ الظّاهرُ الحِرص، بما أُعطِيَ من رقّةِ حسٍّ ودقّةِ فَهمٍ وقوّةِ إدراك، حقّقَ ظنَّ التراثِ به من الرِّضا وصحَّ له منه وداد، إذْ لم يكن بينَهما مَدَبٌّ للكَذب.
لقد أخذَ الراسي وقودَه من حياةِ الناسِ قبلَ أن يَنفقَ سوقُ ماضيها، فلم تكنْ كتبُه قليلةَ المحصول، لأنّها حملَت طائفةً منَ الأخبارِ الطريفةِ ونماذجَ من حكاياتِ الأَسمارِ وخواطرِ الوَجدانِ وعِبَرِ الأَمثلة. وقد مشى بنا الراسي في أوديةِ الأحداثِ مُصوِّراً آراءَ ” الناسِ بالناس ” وخواطرَهم في فهمِ الحياة، مُظهِراً ما في لمحاتِ خيالِهم من تَشعُّبِ أنفاس، وما في ثنايا كلامِهم من حكمةٍ ما من أحدٍ بينَهم إلاّ وله فيها حُصَّة. والحكمةُ بشِركةِ النفس، هي الأذهبُ في مَسالكِ العقل، وهي عَضَدٌ يُعاذُ به، تُسرعُ أعراضُها الى عروقِ الذاكرةِ فلا يعودُ للنسيانِ فيها ظلّ. من هنا، كانَ واقعُ الناس، حتى في أساطيرِه، لُقمانيّاً لا يتكلّمُ إلاّ بالحكمة.
لم يكنْ حكيُ الراسي ” جكيَ قرايا ” لتقطيعِ الوقت، فهو ليسَ مجرّدَ حَكّاءٍ أو راوية، إنّه قادرٌ على الإفصاحِ عمّا يشاءُ منَ المعاني النفسيّةِ والوجدانيةِ أَتَمَّ إِفصاح. فالشخصياتُ التي أنطَقَها والتي لمّا يزلْ يذكرُها مَنْ تبقّى منْ ذوي الشَّيب، هي الأصلُ الذي رُسوخُنا فيه، وهي التي وصلَتِ الحياةَ بالحياةِ وخلطَتْ بنا طيبَها وحلاوتَها. لقد تقاسمَت هذه الشخصياتُ اقتناءَ الحوادثِ فحفظَتِ الصحّةَ على الزّمنِ من دونِ تَصادُم. ولم يكن بينَها وبينَ الواقعِ سدٌّ أو نُفور، بلِ استعدادٌ لِتَمَثُّلِ مراتبِ الأحوالِ المتفاوتةِ بما فيها من رفقٍ وقسوة، وعُسرٍ ويُسر، وخبثٍ وحياء. إنّ الواقعَ الذي طَرّزَ بالأحداثِ حواشيَه، كانت بينه وبين قلمِ الراسي أواصرُ ثقةٍ ولقّمَهُ أنْفسَ ذخائرِه، فبادلَه الحبرُ أمانةً بتصييرِ نفسِه شاهِداً لئلا يصبحَ الواقعُ شهيداً.
اللغةُ – اللهجةُ التي توسَّلها الراسي لنقلِ حياةِ العامة، كانت أَندى على الفؤادِ منَ النثرِ الفنيِّ الذي تغلُبُ عليه الصَّنعة. فكان لا بدَّ من أن تتخلّصَ من حبكاتِ البديعِ ولو أنّه الأدلُّ على العناية، والأَحبُّ على التذوّقِ في بلاغتِه. لكنّ الصّبغةَ العاميةَ التي أكبَّ عليها المؤلِّفُ لتلوّنَ تعابيرَه، والتي لم تَرُقْ للبعضِ الذي وجدَها محدودةً يَصعُبُ الإفتنانُ في تلوينِها، قد أضفَت على الحَكايا جواً من الواقعيةِ الشعبية، حتى لَنحسَبَ أنها قُطِفَت من شفاهِنا. إنّ النَّسَبَ بين الراسي وعِتادِ الكتابةِ هَداه الى اختيارِ الدّواة، فتعافى كلامُه منَ التكلّفِ الممجوج، وبدلاً من ترصيعِه بالصورة ِرُصِّعَ بالعِبرةِ وهي الأبقى في ذاكرةِ الجماعات.
إنّ علاقةَ الراسي بالتراثِ لم تكن وظيفةً تأريخية، فقد ذكرَ الراسي أنّه يحنُّ الى التراثِ للتعزّزِ به وطنيّاً، فالماضي ليسَ طبَّ المُحنَّطين، إنه الإنتفاعُ من المشاهداتِ والمأثوراتِ بكثرة ِغَزوِها، ولا سيّما أنّ ” في الزوايا خبايا ” كثيرة. والتراثُ اللبنانيُ شخصيةُ شعبٍ في لوحاتٍ تشكيلية، أو هو سجلٌّ مُواكِبٌ لعمارةِ الزمان، قعدَ الراسي أمامَه للإملاء، وتلقّى مقاليدَ مملكتِه العاجقةِ بمتاحفِ العاداتِ والسلوكيّاتِ والمناشطِ الإنسانية من ماضي الأمّةِ القريبِ والبعيد. والتراثُ مع الراسي مجلسُ أُنس، جُلساؤُهُ أَلْسِنَةُ العامةِ من الناسِ ومخزونُهم، ومن هنا أصالتُه، فهو المِلكُ الوحيدُ الذي لا شراكةَ فيه ولا وِصاية.
إنّ جعبةَ سلام الراسي، شيخِ الأدبِ الشعبي، تؤكّدُ على أنّ التراثَ لم يندثرْ ليُلَمْلَمَ ” من كلّ وادي عصا”، لكنه أصلُ حضارتِنا ومادتُها العُضويةُ وجذورُها العميقة، وبالتالي بُرهانُها على أنْ لا تبعيّةَ عندَها. من هنا، كان نتاجُ الراسي، عن حقّ، فصلاً من رسالةِ التراثِ الى المؤمنينَ بلبنان.