فؤاد سليمان… يَحبِسُ قلمَه ولا يحبسُ نفسَه

بالرّغمِ من كَثافَةِ الإبداعِ في نِتاجِ فؤاد سليمان، غيرَ أنّه لم يَحجُبْ عنّا العالم، ولم يفصلْ بينَنا وبينَ أَطرافِه وأسرارِه. وعلى إيقاعِ إغناءِ الأدب، يرتدي سليمان زِيَّ الهَوَسِ بالجَمال، يَحتَضِنُ الحِدَّةَ في الابتكار، وهو مِقياسُ الانسجامِ بينَ المَوهِبَةِ وتَجَلِّياتِها، أو هو التَّفَلُّتُ من المَأنوسِ للتَّحليقِ في بُروقِ السِّحرِ وتَطويعِ المُدْهِش.

تَمّوز، أو هكذا أَحَبَّ أن يُكَنّى، يَشكو من عيبِه الوَحيدِ أنّه عارِمُ الحرارة. لكنّها معه حرارةُ الانفعالِ بالحياةِ التي هي لَحَظاتُ الحِوارِ بينَ الطُّهرِ والخطيئة، بين مُواجَهَةِ الحَجَرِ والنَّهر، بينَ الموتِ فوقَ الأرضِ أو الموتِ تحتَها. تمّوز، أو الحَنينُ الى الّلذة، شَكلٌ مُتَمَرِّدٌ مَزَّقَ بعضَ الواقعِ ليدخلَ الى ما خَفِيَ منه، فَافْتَتَحَ حَرَماً مُزِجَ فيه الأَليفُ

بالغَريب، والواضِحُ بالضَّبابيّ، والمُضيءُ بالحُلُم. وبِقَدرِ ما كان العالَمُ الظّاهِرُ هَمّاً “تمّوزياً” ، بِقَدرِ ما كان تَجاوُزُه مَهَمَّةً يَتَمَتَّعُ فؤاد سليمان في سلوكِها لينسى قَحْطَ الأرض. 

“دربُ القَمَر” واحِدةٌ من همومِه، وهي مَهْدُ البراءةِ الأولى، حيثُ تُمَلَّسُ تَجاعيدُ الزّمن، ويُقْهَرُ ضَجيجُ العالم، أو هي جَوابٌ تَيّاهٌ على عَتْمِ المَدينةِ وصَمْتِ الفَرَحِ فيها. هي كَونٌ لا قَلَقَ فيه، يُؤْمِنُ إنسانُه أَنْ لا عَظَمَةَ إلاّ في نفسِه، وقَد يُرْهَقُ جِسمُه أمّا روحُه فَكَأَنَّ لها روحاً ثانية. لقد مارسَ سليمان مع بلادِ الجَبَل عِبادةً تَوراتيّةً فَهانَ على قلبِه الزَّمان، وكان للضَّيعةِ معه وَظيفةٌ قُدسيّةٌ ليسَ أَقَلَّها إزاحَةُ الضّيقِ عن النَّقس، لِذا أضافَ الى التّوراةِ سِفرَ الضَّيعة. فيها يَنفي الخَيْرُ الشَرّ، ولا تَسايِرُ التَّوبةُ رَجَسَ الخطيئة. وهي قوّةُ السيطرةِ على الزَّمن، زمنِ الضَّوءِ الذي لا يعرفُ الليل، أو طاقةِ الحياةِ والفِعل، ففي إدراكِ مَبدأِ الأشياءِ تجعلُ الضَّيعةُ القبيحَ جميلاً والسَّقيمَ صحيحاً. وفي إعادةِ اكتشافِ الضَّيعة، حيثُ تَبْطُلُ مَقولةُ أنّ أَخْبَثَ الشَّجرِ هو ذاك الذي يُثْمِرُ النّاس، يُعلِنُ سليمان أنّه بحاجةٍ الى إكسيرِ حياةٍ جديدٍ يُحيي رَميمَ الضَّيعةِ القابِعَ في أَبديّةِ الانتظار. فالضَّيعةُ المَرصودةُ على لَعنةِ الاغتراب، مَيْتٌ وإن لم يُقْبَر. ويسألُ “تمّوز” ، بِنَبرَةِ مَن يَعلَمُ الحقيقةَ، عمَّن يُعيدُ لنا ذلكَ الكونَ المُقَدَّسَ الذي يَصِلُنا بالله، والذي يستَمهِلُ السُّقوطَ المُتَتابَعَ لِنَوعيّةِ الوجودِ أمامَ كَمِّيَّتِه، والذي وَحدَه يحوِّلُ كُتلةَ الزّمانِ الى قيمة.

 إنّ الخَيبَةَ التي حاولَ سليمان أن يُمَوِّهَها باستِبدالِ الذّاكرةِ بالحُلُم، انسَحَبَت في “أغاني تمّوز” على علاقتِه بالمرأة. وهي علاقةٌ تمنّى الشّاعرُ أن تكونَ وَقتاً سِحرِياً لا يعرفُ الوَقت، وحيثُ  تَكرارُ لِقاءاتِه مع نفسِه هو من أهَمِّ الكُشوفات. وبالرُّغمِ من إحساسِه العميقِ بِسِيادةِ الرّوحِ في العلاقةِ بينَ النَّشوةِ والفَرح، أَلَحَّتِ العَتمةُ على أن تُشكِّلَ هي مُحيطَ تلكَ العلاقة، فما عادَ  الفرحُ طليقاً، ولم يُسايِرْ آفاقَ القصائدِ التي اتَّجهَ قُطْبُها صوبَ الألمِ والتَّشاؤمِ والشَّكوى، وهي حكايةُ المَسكونينَ بهاجِسِ المِثاليّة. وشعرُه، في هذا، ليس سوى أُغنياتٍ تَحتفلُ بالعَذاب، وقد اختارَ لها من الطُّقوسِ حزنَ الذّبائح، يَندبُ فيها بَعْثَ الفرحِ فهو عندَه خُرافَة، وفيها يَختارُ أن يُوَطِّنَ نفسَه في النّار.

خطيئةُ فؤاد سليمان المُقَدَّسةُ أنّه جافى أخلاقَ الخطيئة، ووقفَ منها على حِدَة، ربَّما لِمَوقفٍ فيه امتياز، أو فيه استِكمالُ أُنموذجٍ للحداثة، يُعلِن أَخلاقاً جديدةً تَسخَرُ من نِهائيّةِ القِيَم. وهي أخلاقُ الفِعلِ الحرّ، حيثُ يُواجِهُ النّاسَ بِأَخلاقِه هو، بِخَطيئتِه هو، بِمَذهبِه هو. لم يكن فؤاد سليمان دبلوماسيّاً مع مجتمعٍ هَرِم، بل ضَيَّقَ عليه الى حَدِّ الثورة، فالرّجلُ بِلا تُخوم، ربّما يحبِسُ قَلَمَه لكنّه لا يحبسُ نفسَه. وثورتُه ليست ظاهرةً عابِرةً تنظرُ بِأَعيُنٍ تاريخيّة، أو تَكراراً لِفِكرٍ جامِدٍ وأوصافٍ جاهِزَة، بل هي إضافةٌ تَدفَعُ للتَّحَرُّكِ لا للتَّلَقُّن. فؤاد سليمان هو نفسُه مُناخٌ ُثَوريٌّ أخلاقيٌ قريبٌ من الصّوفيّة، أُفُقُه الأَليفُ والغَريبُ في آن، يُضيفُ الى المسافاتِ مسافاتٍ جديدة. وقصائدُه شعرٌ لا مَصنوعاتٍ شعريّةً تُراعي الأنظمةَ الثّابِتةَ، والأَشكالَ التي هي علامةُ المَحدوديّةِ المُناقِضَةِ لطبيعةِ الانبِثاقِ العَفويِّ للإبداع. 

فؤاد سليمان ليس صَنّاعاً ولم يكنْ هاجسُه التَّزيين، لذلك سَبَقَ القواعدَ فلم يُسكِنْ شعرَه في أيِّ قالِب، أو يَنسُجْه على شكلِ أيِّ نَموذج، ولم تكنْ قصائدُه سَطحاً بغيرِ عمق. لقد خَضَّ الجَمالَ وأَخَذَه بيده وحَوَّلَه على هَواه، فانتسبَ الى وِحدةِ المُجابَهة، حيثُ الانتصارُ لِجَمرةٍ بلا انطفاء، وحيثُ يَستَوي الفَرْقُ بينَ الشّعرِ والضَّجيج .

 

اترك رد