«أَدِينُ بِدِينِ الحُبِّ أَنَّى تَوَجَّهَت رَكَائِبُهُ فَالحُبُّ دِينِي وَإِيمَانِي»
(شَيْخُ المُتَصَوِّفِيْنَ الإِمَامُ مُحْيِي الدِّيْنِ بْنِ العَرَبِي)
– مَن هي هذه الفَتاةُ يا عَمّ إِيلِيَّا؟
سَأَلَ جُورج بَعدَ خُرُوجِها مِن المَحَلِّ، وبَعدَ أَن شَيَّعَها بِنَظَرِه الفاحِصِ حَتَّى اختَفَت في حَنِيَّةِ الشَّارِع.
– هي مِن الجَنُوبِ، وتُقِيمُ في هذه البِنايَةِ المُتَواضِعَةِ ذاتِ الشَّبابِيكِ الزُّرْقِ، الَّتي تَراها هُناك. تُوُفِّيَ والِدُها، العامِلُ في شَرِكَةِ الكَهرَباءِ، مِن سَنَتَينِ تَقرِيبًا، إِذ صَعَقَهُ التَّيَّارُ وقَذَفَهُ مِن أَعلَى العَمُودِ أَثناءَ أَعمالِ الصِّيانَة. قد تَكُونُ رَأَيتَهُ يَومًا إِذ كانَ يَمُرُّ بِي، كُلَّما سَنَحَت له الفُرصَةُ، فَنَتَحادَثُ، ونَلعَبُ طاوِلَةَ الزَّهْرِ. مِسكِينٌ أَبُو حُسَين، كان إِنسانًا طَيِّبًا، تَرَكَ وراءَهُ زَوجَتَهُ وابنَهُ حُسَين وابنَتَهُ ماجِدَة الَّتي سَأَلتَنِي عَنها.
تَرَكَ جُورج المَحَلَّ، عائِدًا إِلى مَنزِلِهِ الَّذي يَبعُدُ مَسافَةَ رُبْعِ ساعَةٍ، حَيثُ يَعِيشُ وَحِيدًا مع والِدَتِه. أَبُوهُ كان مُوَظَّفًا بَسِيطًا في وِزارَةِ التَّربِيَةِ، تُوُفِّيَ مُنذُ سَنَتَينِ تارِكًا لَهُما ثَروَةً زَهِيدَةً، ومَعاشًا تَقاعُدِيَّا ضَئِيلًا.
أَلعَمُّ إِيلِيَّا، قَرِيبٌ لِجُورج لِناحِيَةِ الأُمِّ، رَجُلٌ شارَفَ على السَّبعِينَ، لَطِيفُ المَعْشَرِ، طَرِيفُ الأَحادِيثِ شَيِّقُها، يَتَآلَفُ ويَتَماشَى مع كُلِّ الأَجيالِ، فَكانَ يَطِيبُ لِجُورج أَن يَمُرَّ بِهِ مِن وَقتٍ لِآخَرَ وخاصَّةً في أَيَّامِ الجُمُعَةِ إِذ يَكُونُ مُتَحَرِّرًا مِن تَحضِيراتِهِ المَدرَسِيَّةِ لِيَومِ الغَدِ الَّذي هو يَومُ عُطلَةٍ في مَدرَسَتِه.
تَناوَلَ طَعامَهُ، وَلَجَ غُرفَتَهُ لِيَستَرِيحَ، وصُورَةُ الفَتاةِ لَمَّا تَزَلْ ماثِلَةً في تَفكِيرِه. فِيها عُذُوبَةٌ وجَمالٌ هادِئٌ، وخَفَرٌ لا تَتَعَمَّلُ لَهُ، وسِحْرٌ وجاذِبِيَّةٌ يَصعُبُ تَحدِيدُ مَأتاهُما. ولكنْ ما لِي أَشغَلُ رَأسِي بِها. وأَمسَكَ كِتابًا وراحَ يَقرَأ.
***
جورج طَوِيلَة يُعَلِّمُ اللُّغَةَ الفَرَنسِيَّةَ مُنذُ سَنَتَينِ، في مَدرَسَةِ «مار الياس»، على نِصْفِ ساعَةِ مَشْيٍ على الأَقدامِ مِن مَنزِلِه.
غِبَّ تَخَرُّجِهِ مِن الجامِعَةِ بِدَرَجَةِ جَيِّدٍ في المَوادِّ كافَّةً، قَصَدَ هذه المَدرَسَةَ لِقُربِها مِن سَكَنِهِ في مِنطَقَةِ المُصَيطِبَةِ مِن بَيرُوتَ حَيثُ وُلِدَ جَدُّهُ لِأَبِيهِ، القادِمِ مُنذُ قَرنٍ تَقرِيبًا مِن قَريَةٍ صَغِيرَةٍ في المَتْنِ الشِّمالِيّ. وواتاهُ القَدَرُ على رَغبَتِهِ إِذ كانت المَدرَسَةُ بِحاجَةٍ إِلى أُستاذٍ لِلُّغَةِ الفَرَنسِيَّة.
مُدْمِنٌ على القِراءَةِ سَواءٌ في الفَرَنسِيَّةِ، اختِصاصِهِ، وفي العَرَبِيَّةِ الَّتي يَقتَنِي الكَثِيرَ مِن الكُتُبِ لِأُدَبائِها العَرَبِ المَعرُوفِين.
يَذكُرُ مَسِيرَتَهُ الجامِعِيَّةَ والمَشاكِلَ الكَثِيرَةَ الَّتي تَعَرَّضَ لها. كما كان مُبَرِّزًا في دُرُوسِهِ، كان مُتَطَرِّفًا في عَصَبِيَّتِهِ لِوَطَنِهِ، ما جَعَلَهُ في مُواجَهَةٍ دائِمَةٍ مع فَرِيقٍ مِنَ الطُّلَّاِب مِن ذَوِي المُيُولِ اليَسارِيَّةِ والنَّاصِرِيَّة الَّذين لا يَكُفُّونَ عن المُناداةِ بِطُرُوحاتٍ سِياسِيَّةٍ تَتَعارَضُ وقَناعاتِهِ، ويُجاهِرُونَ بِرَغبَتِهِم في تَغيِيرِ النِّظامِ القائِم. كان جَرِيئًا حَتَّى التَّهَوُّرِ، وزادَ مِن هَيبَتِهِ، واجتِنابِ أَخصامِهِ التَّحَرُّشَ بِهِ، قُوَّتُهُ الجَسَدِيَّةُ، وهَيكَلُهُ الرِّياضِيُّ المَجدُولُ، وشَجاعَتُهُ المُمَيَّزَة.
تَستَهوِيهِ السِّياسَةُ جِدًّا، يُتابِعُ مَجْرَياتِها بِاهتِمامٍ لافِتٍ، يَعِيشُ شُجُونَها وهُمُومَها، ويَجْهَرُ بِرَأيِهِ في كُلِّ مَجلِسٍ غَيرَ آبِهٍ بِعاقِبَةٍ قَد تَلِي. على أَنَّهُ بالِغُ التَّهذِيبِ، يَحتَرِمُ الآخَرَ ويُحاوِرُهُ في مُعْتَقَدِهِ بِهُدُوءٍ وتَفَهُّمٍ، ويَنحُو نَحْوَ النِّقاشِ العِلمِيِّ المَوضُوعِيِّ، حَتَّى يَبدُرَ ما يُثِيرُ عَصَبِيَّتَهُ فَيَفقِدُ زِمامَ الحِكمَةِ والتَّعَقُّل. أَمَّا إِذا اقتَرَفَ خَطَأً فَإِنَّهُ يَتَراجَعُ ويَعتَذِرُ بِكِبْرٍ وفُرُوسِيَّة.
يَتَذَكَّرُ، الآنَ، حادِثَةً حَصَلَت في النِّصفِ الثَّانِي مِن أَيَّارَ 1973، عامِهِ الدِّراسِيِّ الجامِعِيِّ الأَخِير.
كان لُبنانُ يَعِيشُ حالَةَ تَخَبُّطٍ وضَياعٍ، وبَدَأَت رَوائِحُ الفَسادِ تَنتَشِرُ إِثْرَ فَشَلِ صَفْقَةٍ لِشِراءِ صَوارِيخِ كرُوتال لِلجَيشِ، واتِّهاماتٍ بِضُلُوعِ مَسؤُولِينَ كِبارٍ في تَوَخِّي عُمُولاتٍ، وفَسادٍ في الأَداء.
وفاقَمَ سَوادَ الصُّورَةِ قِيامُ إِسرائِيلَ بِعَمَلِيَّةِ «كُومّندُوس» في بَيرُوتَ، شارِعِ فردان، أَودَت بِحَياةِ ثَلاثَةٍ مِن القادَةِ الفَلَسطِينِيِّينَ، أَعقَبَها استِقالَةُ رَئِيسِ الوُزَراءِ صائِب سَلام الَّذي شاءَ إِقالَةَ قائِدِ الجَيشِ ولم يُفلِحْ بِذلك، فَتَأَزُّمٌ سِياسِيٌّ مُقلِقٌ، وشَحْنٌ في النُّفُوسِ جَرَّاءَ أَعمالٍ عَسكَرِيَّةٍ مُتَكَرِّرَةٍ بَينَ الجَيشِ والمُنَظَّماتِ الفَلَسطِينِيَّةِ في بَيرُوت.
كَما زادَ في الطِّينِ بِلَّةً تَهافُتُ النَّاسِ والأَحزابِ على التَّسَلُّحِ، وازدِيادِ الاعتِداءَاتِ الإِسرائِيلِيَّةِ على الجَنُوبِ اللُّبنانِيّ. فَتَقَلَّصَت سُلطَةُ الدَّولَةِ، وباتَ الجَمِيعُ يَتَوَجَّسُونَ شَرًّا بِالآتِي.
انعَكَسَت هذه الأَجواءُ تَشَنُّجًا في أَوساطِ الطُّلَّاب، فَاعتَدَت مَجمُوعَةٌ مِنهُم على صَدِيقٍ لِجُورج، ضَعِيفِ البِنيَةِ وادِعٍ، إِثْرَ مُعارَضَتِهِ لَهُم وهُم يُوَجِّهُونَ الشَّتائِمَ لِلجَيشِ اللُّبنانِيِّ، والاتِّهاماتِ لَهُ بِالتَّقاعُسِ والانحِيازِ إِلى الفَرِيقِ المُعادِي لِلمُقاوَمَةِ الفَلَسطِينِيَّة. وتَلَقَّى ضَربَةً على رَأسِهِ أَدمَتهُ فَنُقِلَ إِلى مُستَشفًى قَرِيب. وتَناهَى الخَبَرُ إِلى عِلْمِ جُورج فَأَتَى المَجمُوعَةَ وكان نِقاشٌ مُستَعِرٌ أَدَّى إِلى فَوضَى وتَضارُبٍ فَجُرِحَ جُورج وثَلاثَةٌ مِن الآخَرِينَ، وَوَصَلَت قُوَّةٌ مِن الدَّرَكِ فَقَبَضَت على الجَمِيع.
***
دَأَبَ جورج على المُرُورِ بِمَحَلِّ قَرِيبِهِ على وَتِيرَةٍ مُتَزايِدَةٍ، فَالتَقَى ماجِدَة، يَومًا، فَتَبادَلا الابتِسامَ والتَّحِيَّةَ، وبَعضَ الكَلِماتِ في كُلِّ شَيءٍ، وسَأَلَها كَيفَ تَقضِي أَوقاتَها، فَقالَت مُبتَسِمَةً: أَيَّ أَوقات؟ «منِ الفَجْر لِلنَّجْر»، أَو كَما يَقُولُون: «منِ الفَرْشِه لِلوَرْشِه». وأَخبَرَتهُ أَنَّها تَعمَلُ في مُؤَسَّسَةٍ لِلخِياطَةِ في مَكانٍ قَرِيب. وفي السَّهَراتِ تُحِبُّ قِراءَةَ الكُتُبِ والرِّواياتِ الَّتي تَتَيَسَّرُ لَها، في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، ولَها مُحاوَلاتٌ مُتَواضِعَةٌ في كِتابَةِ الخَواطِر. فَوَعَدَها أَن يَترُكَ لَها كُتُبًا عند قَرِيبِهِ، وكُلَّما انتَهَت مِنها سَيُزَوِّدُها بِأُخرَى، فَلَدَيهِ مَكتَبَةٌ عامِرَةٌ بِالكُتُبِ الفَرَنسِيَّةِ والعَرَبِيَّةِ، وهو مُدْمِنُ قِراءَةٍ، وله كِتاباتٌ مُتَواضِعَةٌ أَيضًا، وضَحِكا سَوِيَّة.
وإِذ غادَرَت، عاجَلَهُ قَرِيبُهُ غامِزًا: «شُو، وَقَع الصَّبِي»؟
– لا أُخفِيكَ القَولَ، يا عَمّ، لَقَد أَوقَعَتنِي في شَيءٍ لَستُ أَدرِي ما هو.
– يا قَرِيبِي العَزِيزَ، يَقُولُ المَثَل: «باب البِيجِيك مِنُّو رِيح سِدُّو واسترِيح». أَنتَ تَعرِفُ اختِلافَ الأَديانِ والأَعرافِ والبِيئاتِ، إِلى أَينَ يُمكِنُ أَن يَجُرَّ، فَتَرَوَّى في أَمرِكَ لِئَلَّا تَقَعَ في داهِيَةٍ، لا سَمَحَ الله. إِسمَع مِنِّي: «إِبْعُدْ عَن الشَّرّْ وغَنِّيلُو!»
قَفَلَ جُورج عائِدًا إِلى مَنزِلِهِ، تَتَصارَعُ في رَأسِهِ أَفكارٌ وهَواجِس. قد يَكُونُ قَرِيبُهُ على حَقٍّ في تَحذِيرِهِ، ولكنْ لِماذا؟ وهل هذا مِن عَدالَةِ السَّماء؟
***
وتَمُرُّ الأَيَّامُ، ويَزدادُ الاستِلطافُ بَينَ الاثنَينِ، وتَستَعِرُ الأَشواقُ بَينَهُما أَكثَرَ فَأَكثَرَ، وشَعَرَ بِأَنَّ انسِجامًا رُوحِيًّا يَجمَعُهُما. وتَزايَدَت زِياراتُهُ لِقَرِيبِهِ، وبَدَأَ مُكُوثُهُما في المَحَلِّ يَطُولُ، بِالرُّغمِ مِن نَصائِحِ العَمِّ وتَحذِيراتِهِ الَّتي لا تَخفُت.
ولم يَطُل به الانتِظارُ فَسَلَّمَها رسِالةً التَقَفَتها مِنهُ بِحَذَرٍ، أَخفَتها في مِحفَظَتِها، وانصَرَفَت.
سَأَلَتها أُمُّها إِن كانت تُرِيدَ أَن تَتَناوَلَ طَعامَها فَأَجابَت: لَيسَ الآنَ، إِنِّي تَعِبَةٌ، ودَخَلَت غُرفَتَها وغَرِقَت في القِراءَة.
«أَلآنِسَة المُهَذَّبَة ماجِدَة.
أُكَلِّمُكِ بِرِسالَةٍ لِأَنَّنِي أُرِيدُ أَن أَكُونَ صَرِيحًا بِكُلِّ شَيءٍ أَقُولُهُ كَما أُرِيدُكِ أَن لا تَكُونِي مُحرَجَةً، وأَنتِ تَعرِفِينَ وَضعَنا وحَساسِيَّةَ الأَديانِ، وأُرِيدُكِ أَن تَتَفَكَّرِي مَلِيًّا في ما سَأَقُولُهُ، وأَن لا يَسبِقَ جَوابُكِ تَأَمُّلَكِ العَمِيقَ الوافِي.
ماجِدَة
مِنَ اللَّحظَةِ الأُولَى الَّتي رَأَيتُكِ فِيها، وأَنتِ تَحتَلِّينَ مَكانًا بارِزًا في قَلبِي. سَأَلتُ قَرِيبَنا مُداوَرَةً عَنكِ وعن أَهلِكِ فَأَعلَمَنِي بِوَضعِكِ العائِلِيِّ، وبِصَداقَتِهِ مع أَبِيكِ رَحِمَهُ الله. وكَم كُنتُ أَتَحايَلُ عَلَيهِ مُستَجلِبًا الحَدِيثَ عن أَبِيكِ كَي يَتَكَرَّرَ اسمُكِ على مَسمَعِي، فَيَلُفُّنِي خَدَرٌ لَذِيذ. لَقد أَدرَكتُ جَيِّدًا ماذا وكَم تَعنِينَ لِي.
إِحساسِي يُنبِئُنِي بِأَنَّكِ تُبادِلِينَنِي الشُّعُورَ بِمِثلِهِ، وآمَلُ أَن يَكُونَ ظَنِّي صائِبًا، على عِلمِي بِصُعُوبَةِ تَصَرُّفِكِ، فَخُرُوجُكِ على بِيئَتِكِ وتَقالِيدِها وأَعرافِها ليس يَسِيرًا إِذا لَم أَقُلْ خَطِرًا. فَكَم تُفَرِّقُ الأَديانُ، وما وُجِدَت لِتُفَرِّق.
أَتَمَنَّى عليكِ أَن تُعلِمِينِي بِحَقِيقَةِ شُعُورِكِ نَحوِي، في رِسالَةٍ تَضَعِينَها مع العَمِّ إِيلِيَّا، فَإِن كان فيه تَجاوُبٌ نَتَكَلَّمُ لاحِقًا لِنَرَى كيف يُمكِنُنا تَخَطِّي العَوائِقِ، وكيف سَنُخَطِّطُ لِلآتِي. فَأَنا جادٌّ، وما أَنتِ بِالفَتاةِ المُستَهتِرَةِ تَمُرُّ في حَياتِي عَرَضًا فَأَرغَبُ بِبِناءِ علَاقَةِ تَسرِيَةٍ مَعَها، فَأَحلامِي تَبنِي بِالوُرُودِ مُستَقبَلَنا المُشتَرَك.
آمَلُ أَن تَكُونِي لِي ونُكمِلُ العُمرَ مَعًا.
أَنتِ تَعرِفِينَ أَنَّنِي أُستاذُ الأَدَبِ الفَرَنسِيِّ في مَدرَسَةِ «مار الياس»، لِذا اسمَحِيلِي، وأَنا أَنتَظِرُ جَوابَكِ، أَن أَبُثَّكِ هذا البَيتَ لِلشَّاعِرِ لويس أَراغُون (Louis Aragon)، والَّذِي يُعَبِّرُ بِصِدقٍ عن حالَتِي مَعَكِ:
«J’entends vibrer ta voix parmi touts les bruits du monde!»
ومَهما يَكُن رَدُّكِ، سَتَبقَينَ في بالِي حُلْمًا لَذِيذًا وصَلاة.
إِلى اللِّقاء!»
قَرَأَتِ الرِّسالَةَ مِرارًا، وبِقَدْرِ فَرحَتِها بِها كان قَلَقُها مِنها. ولَم تَنتَظِرْ طَوِيلًا فَكَتَبَت:
«أُستاذ جُورج
كَلَّمتَنِي بِرِسالَةٍ وخَيرًا فَعَلت. وأَنا قَرَأتُها مِرارًا، وأُسِرُّ إِلَيكَ بِأَنَّكَ، مُنذُ اللَّحظَةِ الأُولَى لِلِقائِنا، أَثَرتَ انتِباهِي بِصَرامَتِكَ وخَفَرِك. وإِنَّكَ، في المَرَّاتِ الَّتي التَقَينا بِها مُصادَفَةً لَدَى قَرِيبِكَ، لَم تَكُن تَحدِجُنِي بَنَظَرٍ نَهِمٍ يَنطَوِي على جُوعٍ مَقِيتٍ ونِيَّةٍ مَشبُوهَةٍ كما اعتَدتُ أَن أَرَى مِنَ الشُّبَّانِ الَّذينَ أُصادِفُهُم في الحَياةِ، عَرَضًا، أَو خِلالَ عَمَلِي في الخِياطَة.
بَعدَ لِقاءَاتِنا المَعدُودَةِ المَحدُودَةِ بِتَّ تَشغَلُ تَفكِيرِي، وتَملَأُ تَأَمُّلاتِي وأَحلامِي…
رِسالَتُكَ أَترَعَتنِي فَرَحًا وزَهْوًا، وأَخَذَنِي شَوقٌ جارِفٌ إِلى رُؤْيَتِكَ، فَأَنتَ أَضحَيتَ فَجرًا يُضِيءُ حَياتِي، يُلَوِّنُها بِأَلوانِ قَوْسِ سَحابٍ، ويُضفِي عَلَيها مَعنًى جَدِيدًا حَنُونًا.
ولكِنَّنِي، بَعدَ تَبَصُّرٍ واعٍ، وتَمَعُّنٍ عَمِيقٍ في ما أَسَرَّيتَ إِلَيَّ تَمَلَّكَنِي اضطِرابٌ شَدِيدٌ، وغَمَرَنِي حُزنٌ قد لا أَقوَى على تَحَمُّلِه. فَالفَرحَةُ الَّتي أَعِيشُها أُفُقُها داكِنٌ، ومَآلُها العَدَمُ، في ظِلِّ الفَوارِقِ الصَّعبَةِ الَّتي سَتُفَرِّقُنا، لِذا فَلَن أَنساقَ مع عَواطِفِي، بَل سَأَجعَلُ عَقلِي يَقُودُنِي، حِرْصًا مِنِّي عَلَيكَ لِأَنَّكَ غَدَوتَ قِطعَةً مِن رُوحِي.
رَبِّي…
ما تُراكَ قائِلًا بِصَراحَتِي هذه؟!
إِنَّ ما تَحلُمُ بِهِ، حَلُمتُ بِمِثلِهِ، ولكِنَّهُ جَلَّلَ بِالهَمِّ قَلبِي لِأَنَّهُ صَعبُ المَنالِ، وقد يَكُونُ مُستَحِيلًا، والطَّرِيقُ إِلَيهِ مَسدُود. لَقَد أَشَرتَ أَنتَ إِلى صُعُوبَةِ الحُدُودِ الدِّينِيَّةِ الَّتي تَفصِلُنِي عَنكَ، وهي، في الحَقِيقَةِ، أَخطَرُ مِمَّا رَسَمتَ أَنتَ، لِأَنَّكَ لا تَدرِي ما أَدرِيهِ عن مَدَى التَّزَمُّتِ في أُمُورٍ كهذه في بِيئَتِي. مُستَحِيلٌ عَلَيَّ أَن أَتَجاوَزَ ما عاشَ عَلَيهِ أَهلِي ومُحِيطِي، فَاعذُرنِي، وسَيَكُونُ مِنَ الأَجدَى لِكِلَينا أَن نَتَناسَى المَشاعِرَ الَّتي قد تُودِي بِنا إِلى مَهالِكَ لا أُريِدهُا أَبَدًا.
أَنا أَكُنُّ لَكَ في نَفسِي كُلَّ تَقدِيرٍ واحتِرامٍ وَ… حُبٍّ، وأَتَمَنَّى لَكَ مُستَقبَلًا سَلِيمًا وجَمِيلًا، وسَأُصَلِّي لَكَ في خَلَواتِي مَهما تَباعَدَت بِنا الدُّرُوب!
تَفَهَّمْنِي أَرجُوك».
***
لَم تَحُلِ المَخاوِفُ المُتَبادَلَةُ دُونَ تَواصُلِ الحَبِيبَينِ، فَالرَّغبَةُ لَدَيهِما طَغَت على الخَشيَةِ، فَحَرَصا على تَواعُدِهِما المُضْمَرِ، يَتَبادَلانِ الأَحادِيثَ المُستَلَةَّ بِخَشيَةٍ مِنَ السَّوانِحِ المُتاحَةِ، والرَّسائِلِ العامِرَةِ بِالحُبِّ والأَشواقِ، بِانتِظارِ أَن يَحُلَّ الزَّمَنُ عُقدَتَهُما المُستَعصِيَةَ بِطَرِيقَةٍ ما.
مَرَّةً، خِلالَ وُجُودِ جُورج في مَحَلِّ قَرِيبِهِ، دَخَلَ شابٌّ جَسِيمٌ، فَسَلَّمَ على العَمِّ إِيلِيَّا، وتَبادَلا كَلامًا سَرِيعًا، فَسَأَلَهُ: أَينَ العَمَلُ اليَومَ يا حُسَين؟
عِندَها حَدَّقَ جُورج، بِفُضُولٍ، إِلى الشَّابِّ، الَّذي أَجاب:
لَقَد انتَقَلتُ، مُنذُ بِضعَةِ أَيَّامٍ، لِلعَمَلِ في مَعمَلٍ لِـ «الحِدادَةِ الإِفرَنجِيَّة» في مَحَلَّةِ «فُرْن حَطَب». والحَمدُ لِلَّهِ «ساتِرْ أَلَّله».
عِندَ خُرُوجِهِ، قالَ العَمُّ: هذا «ابْنُ عَمِّكَ»، أَخُو ماجِدَة. وضَحِكَ، غامِزًا بِعَينَيه.
***
تَوالَتِ الأَيَّامُ، وتَتالَتِ اللِّقاءَاتُ والمُصارَحاتُ، وباتَت حَياةُ كُلٍّ مِنهُما صَفحَةً مَفتُوحَةً أَمامَ نَظَرِ الآخَرِ، وازدادَ التَّفكِيرُ في مَخْرَجٍ سَلِيمٍ يُوصِلُهُما إِلى قِبْلَتِهِما المَنشُودَةِ، مِن دُونِ أَن يَصِلا إِلى نَتِيجَةٍ، فَسَلَّما أَمرَهُما لِلقَدَرِ، عَسَى أَن يَظهَرَ حَلٌّ لَم يَكُنْ مُنتَظَرًا، ويَنفَرِجَ الأُفُقُ أَمامَهُما.
ومَرَّةً، إِذ عَيِيا عن استِنباطِ حَلٍّ لِمَأزِقِهِما، وراحَ يُعَلِّلُها بِالأَمَلِ في فَرَجٍ لا بُدَّ مِنهُ، رَدَّدَ في مَسمَعِها قَولَ الشَّيخِ إِبراهِيم اليازِجِي:
«وَمَن يَعِشْ يَرَ والأَيَّامُ مُقبِلَةٌ
يَلُوحُ لِلمَرءِ في أَحداثِها العَجَبُ»
فَقالَت: «عِيْشَ يا…»(2)، فَقال: أَكمِلِي المَثَلَ ولا تُشَوِّهِي قِيمَتَهُ ولو أَصابَ مِنِّي مَقتَلًا، وضَحِكا سَوِيَّةً…
لم تُطلِعْهُ على المُعاكَساتِ الَّتي تَتَعَرَّضُ لها مِن سَمِيرٍ. كذلك فعلت مع أخيها حسين، كَي لا تُعَرِّضَهُما لِلمَشاكِل.
سَمِيرُ شابٌّ مِن ذَوِي السُّمعَةِ السَّيِّئَة. مَعرُوفٌ مِن أَهلِ المَحَلَّةِ جَمِيعًا، يَتَناقَلُونَ «مَآثِرَهُ» بِقَرَفٍ واشمِئْزاز. عَمِلَ في مَتجَرٍ فَطُرِدَ، والتَحَقَ بِمَكتَبٍ لِسَيَّاراتِ التَّاكسِي سائِقًا، ولم يَطُل به المَقامُ هناك لِما تَناهَى عنه مِن تَحَرُّشاتٍ، وأَخبارٍ تُضِرُّ بِسُمعَةِ المَكتَبِ، كما لم يَستَقِرَّ في مَحَلِّ «حِدادَة سَيَّارات». وهو، الآنَ، يَعِيشُ عالَةً على أَبِيهِ المُنَجِّدِ الَّذي يَتَبَرَّأُ مِن أَعمالِهِ، ولكِنَّهُ يَرضَخُ له لِما في طِباعِهِ مِن غِلْظَةٍ وعُنْف.
مرة التقاها عائدة من عملها فاقترب منها قائلا: «يا رُوْح، نِحْنا مِنْحُبِّكْ، لَيْش زابِلْتِينا»؟
فَتَمَلَّصَت مِنهُ، راجِيَةً إِيَّاهُ أَن يُحجِمَ عن مُلاحَقَتِها. فَضَحِكَ قائِلًا: «رُوْح يا قَمَر، الله مع دوالِيبَك».
***
أَطَلَّ الثَّالِثَ عَشَرَ مِن نَيسانَ 1975 على لُبنانَ، نَذِيرَ حَربٍ أَهلِيَّةٍ سُمِّيَت، في بَواكِيرِها، «حَرب السَّنَتَين». إِشتَعلَتِ الجَبَهاتُ، وقُسِّمَت بَيرُوتُ إِلى قِسمَينِ، الشَّرقِيَّةِ والغَربِيَّةِ، وفَصَلَت بَينَهُما الحَواجِزُ المُسَلَّحَةُ، وتَشَكَّلَت مِيلِيشِياتٌ هنا وهناك، وغابَ وُجُودُ الدَّولَةِ فَأَصبَحَتِ السُّلطَةُ بِأَيدِي المُسَلَّحِينَ يَعتَدُونَ ويَسُنُّونَ القانُونَ الَّذي يُوافِقُ مَصالِحَهُم، ويَفرِضُونَ الخُوَّاتِ أَنَّى يُرِيدُون.
أَصبَحَ سَمِيرُ «آمِرًا عَسكَرِيًّا» في حَرَكَةِ «المُجاهِدُون»، وكان ذِكْرُ اسمِهِ الحَرَكِيِّ «أَبُو اللَّيل» كافِيًا لِيَتَوَجَّسَ النَّاسُ شَرًّا، ويَبتَعِدُوا عَن طَرِيقِهِ، ويَتَحاشَوْا بَطشَهُ، لِما يُذاعُ عن جُرأَتِهِ في المَعارِكِ الدَّائِرَةِ على خُطُوطِ التَّماسِّ، ولِما يُروَى عن الفَتْكِ الَّذي يُنسَبُ إِلَيه.
***
في السَّادِسِ مِن كانُونَ الأَوَّلِ مِن العامِ 1975 عُثِرَ على جُثَثِ أَربَعَةِ شُبَّانٍ يَنتَمُونَ إِلى حِزْبٍ لُبنانِيٍّ كَبِيرٍ ضالِعٍ في الحُرُوبِ الدَّائِرَةِ مَدَى الوَطَنِ، على طَرِيقٍ فَرعِيَّةٍ في مَحَلَّةِ الفَنارِ مِنَ المَتْنِ الشِّمالِيِّ، فَاهتاجَتِ النُّفُوسُ وأَدَّت رِدَّةُ الفِعْلِ إِلى مَقتَلِ المِئَاتِ في حادِثَةٍ مَأسَوِيَّةٍ اتَّخَذَت طابَعًا طائِفِيًّا، فَتَحَرَّكَتِ الغَرائِزُ، وانتَشَرَ القَتلُ «على الهُوِيَّة».
***
مَرَّ جُورج بِالمَحَلِّ فَوَجَدَهُ مُقفَلًا على غَيرِ عادَتِهِ، فَاعتَراهُ قَلَقٌ شَدِيدٌ، فَخَفَّ إِلى مَنزِلِ قَرِيبِهِ وَسَأَلَ زَوجَتَهُ عَنهُ فَقالَت: أَلَم تَجِدْهُ في الدُّكَّان؟ في هذا الوَقتِ لا يَزالُ هُناك.
– لا، كُنتُ مارًّا هُنا فَقُلتُ أَسأَلُ عَنه.
واستَأذَنَها في الذَّهابِ وهي تَدعُوهُ لِشُربِ القَهوَةِ، وهَرَع إِلى مَنزِلِهِ والأَفكارُ تُمَرجِحُهُ يَمِينًا وشِمالًا.
دَخَلَ المَنزِلَ فَإِذا العَمُّ إِيلِيَّا هُناكَ، ووالِدَتُهُ مُتَجَهِّمَةُ الوَجه. رَحَّبَ بِه مُندَهِشًا: خَيْرٌ، قَلِقتُ عَلَيك؟
– إِجلِس واسمَعنِي جَيِّدًا. مَرَّ بِي، اليَومَ بِالذَّاتِ، «جِيْب» عَسكَرِيٌّ فيه أَربَعَةُ مُسَلَّحِينَ وقالُوا: «هذا القَبَضايُ جُورج قَرِيبُكَ غَيرُ مَرغُوبٍ بِه هنا. أَفهِمهُ، وإِلَّا فَثَمَنُهُ رَصاصَة»، وانطَلَقُوا مُسرِعِين.
لازَمَ جُورج المَنزِلَ، يُتابِعُ الأَخبارَ مِن مِذياعِه. مَرَّ يَومانِ، فَأُعلِنَ وَقْفٌ لِإِطلاقِ النَّارِ على خُطُوطِ التَّماسِّ وفُتِحَ مَعبَرٌ بَينَ الشَّطرَينِ المُتَحارِبَينِ، كما كان يَجرِي مِن وَقتٍ لِآخَر، فَتَرَكَ ووالِدَتَهُ المَنزِلَ حامِلَينِ ما خَفَّ وغَلا، وعَبَرَ بِسَيَّارَتِهِ إِلى بَيرُوتَ الشَّرقِيَّةِ قاصِدًا خالَتَهُ الَّتي تَعِيشُ هناك وَحِيدَةً، فَزَوجُها تُوُفِّيَ مِن سَنَواتٍ، وابنُها الوَحِيدُ يَعمَلُ في أُوستراليا مُنذُ عَشْرِ سَنَواتٍ وأَكثَر.
كان يُهاتِفُ العَمَّ إِيلِيَّا، ويَسأَلُهُ عن أَخبارِ ماجِدَة، وكُلِّ جَدِيدٍ هناك. كان تَهجِيرُهُ، وبُعْدُهُ عن حَبِيبَتِهِ، سَبَبًا لِتَجَهُّمِهِ الدَّائِمِ، وعَصَبِيَّتِهِ المُستَجِدَّةِ، ومَيلِهِ إِلى العُنفِ في التَّصَرُّفات. ولَم يَلبَثْ طَوِيلًا حَتَّى التَحَقَ بِقُوَّاتِ الأَمرِ الواقِعِ المُسَلَّحَةِ المُهَيمِنَةِ هناك، حَيثُ تَدَرَّجَ وباتَ آمِرًا ناهِيًا باسمٍ حَرَكِيٍّ هو «صَخْر»، مَعرُوفًا مِن الجَمِيعِ، وذا سُلطَةٍ قَوِيَّة. وكان يَشتَرِكُ فِعلِيًّا في المَعارِكِ الدَّائِرَةِ على «الخَطّ الأَخضَر» الفاصِلِ بَينَ شَطْرَي بَيرُوت.
صُودِرَ لَهُ مَنزِلٌ تَرَكَهُ أَصحابُهُ خَوفًا، وعادُوا إِلى قَريَتِهِم، لِأَنَّهُم مِن دِينٍ مُختَلِفٍ عن الدِّينِ السَّائِد. فَالأَديانُ باتَت وُجهَةَ نَظَرٍ، وشِعاراتٍ يَحمِلُها المُسَيطِرُونَ على بَنادِقِهِم ويَظلِمُون.
عاشَ مُغامَراتٍ نِسائِيَّةً عَدِيدَةً لَم تُغنِهِ عن حَبِيبَتِهِ فَتِيلًا، فَظَلَّت صُورَتُها في ضَمِيرِهِ مُنَزَّهَةً عن مآثِمِهِ، مَحفُوظَةً في أَطهَرِ مَكانٍ مِن قَلبِه.
***
خَرَجَت ماجِدَة مِن مَعمَلِ الخِياطَةِ إِثْرَ نَهارٍ تَخَلَّلَهُ قَصْفٌ مَدفَعِيٌّ مُتَكَرِّرٌ زَرَعَ أَحياءَ البَيرُوتَينِ، وأَرعَبَ النَّاس. كانت مَذعُورَةً، فَالمَسافَةُ الَّتي عَلَيها أَن تَقطَعَها مَشْيًا على الأَقدامِ لَيسَت قَصِيرَةً، وهي سَتَكُونُ كَمَن يَسِيرُ في حَقلِ أَلغام. رِفاقُها جَمِيعُهُم ذَهَبُوا وها هي وَحِيدَةٌ أَمامَ المَشغَلِ، وعليها أَن تَنطَلِق.
راحَت تُصَلِّي في باطِنِها وهي تَسِيرُ مُلازِمَةً الجُدرانَ، وكُلَّما دَوَّى انفِجارٌ تَصرُخُ، ولو كان بَعِيدًا عن مَكانِها. مَرَّت دَقائِقُ حَسِبَتها دَهرًا، وإِذ بِسَيَّارَةٍ عَسكَرِيَّةٍ تَقِفُ بِمُحاذاتِها، وصَوتٌ يُخاطِبُها: إِصعَدِي يا سِتّ ماجِدَة لِأُوصِلَكِ إِلى البَيت.
تَطَلَّعَت، فَإِذا «أَبُو اللَّيل» بِثِيابِهِ العَسكَرِيَّةِ، فَشَكَرَتهُ وأَكمَلَت سَيرَها فَتَبِعَها قائِلًا: أَلَّطرِيقُ الَّتي تَسلُكِينَها مَحفُوفَةٌ بِالخَطَرِ فَالقَذائِفُ تَنهَمِرُ عَلَيها بَينَ آوِنَةٍ وأُخرَى. خَفِّفِي مِن عِنادِكِ، فَما أَنا بِمُفتَرِسٍ لِلنَّاسِ، أَم تُفَضِّلِينَ المَوتَ على مُرافَقَتِي. هَيَّا، دَقائِقُ وتَكُونِينَ في بَيتِك.
صَعِدَتِ المَركَبَةَ، وجَلَسَت إِلى جانِبِهِ، مُتَوَجِّسَةً خائِفَةً، فَراحَ يُكَلِّمُها بِلُطفٍ مُتَعَمَّلٍ، فَتَرُدُّ عَلَيهِ بِما تَيَسَّرَ، وقَلبُها يَخفُقُ فَتَسمَعُ خَفَقانَهُ، واتَّجَهَ ناحِيَةَ الأُونِيسكُو، نُزُولًا إِلى الشَّاطِئِ عِندَ ثُكْنَةِ الأَمِيرِ بَشِير. فَسَأَلَتهُ، مُرتابَةً: إِلى أَين؟ فقال: لا تَخافِي. هذه الطَّرِيقُ آمِنَةٌ، أَمَّا الأُخرَى الاعتِيادِيَّةُ فهي عُرْضَةٌ لِلقَصفِ المُتَقَطِّع.
ومِنَ الطَّرِيقِ البَحرِيَّةِ الخالِيَةِ، انحَرَفَ إِلى مُنفَرَجٍ خاوِ بين دَغَلَينِ، وتَوَقَّف.
نَظَرَ إِليها وعلى شَفَتَيهِ ابتِسامَةٌ صَفراءُ، وهي فاغِرَةٌ فاها، مُحَملِقَةٌ إِلَيهِ، فقال: أَنا أُحِبُّكِ يا ماجِدَة، وأَرغَبُ فِيكِ، فَلِماذا تَصُدِّينَنِي دائِمًا؟
– أَرجُوك. أَنا أَحتَرِمُكَ وأَتَمَنَّى لَكَ الخَيرَ، فَدَعنِي في سَبِيلِي، وَفَّقَكَ الله.
– لا تَوفِيقَ إِلَّا بِقُربِك.
وأَحاطَها بِذِراعَيهِ مُحاوِلًا تَقبِيلَها، فَنَفَرَت مِنهُ، فَزادَ مِن هُجُومِهِ عَلَيها، مُمسِكًا بِكَتِفَيها، مُقَرِّبًا فَمَهُ مِن فَمِها، فَخَمَشَتهُ في وَجهِهِ وعَينَيهِ بِأَظافِرِها، وهي تَصرُخُ وتَستَغِيث. فَاهتاجَ غَضَبًا ولَطَمَها بِعُنفٍ على رَأسِها، ثُمَّ تَناوَلَ مِن حافِظَةِ السَّيَّارَةِ مِندِيلًا وأَلصَقَهُ بِفَمِها وراحَ يَضغَطُ عَلَيهِ، وهي تُقاوِمُ بِشَراسَةٍ وتُوَلوِل، ثُمَّ أُغمِيَ عَلَيها.
استَفاقَت بَعدَ وَقتٍ لم تَدْرِ مَداهُ، وأَحَسَّت بِسائِلٍ مُتَجَمِّدٍ على فَخذَيها مِنَ الدَّاخِلِ، فَزَعَقَت مُوَلوِلَةً، وهي تَرمُقُهُ كَلَبْوَةٍ فَقَدَت شِبْلَها، فقال: أُحَذِّرُكِ مِن أَن تُخبِرِي أَحَدًا، وإِلَّا فَسَأَقتُلُكِ أَنتِ وأَخاكِ، ولَن يَدرِي إِلَّا اللهُ أَينَ سَأَرمِي جُثَّتَيكُما.
فَصاحَت بِشِدَّةٍ، والبُكاءُ يُقَطِّعُ كَلامَها، وهي تَهُزُّ بِرَأسِها: أَنتَ وَحْش. أَلَيسَ لَدَيكَ أُخْت؟! أَلَيسَ لَدَيكَ أُمّ؟! أَلا تَعرِفُ الله؟! فَلتَجُرَّكَ الشَّياطِينُ إِلى جَهَنَّمَ، يا عاهِرُ، يا ابْنَ القَحْباء.
بَقِيَ صامِتًا وهو يَقُودُ بِسُرعَةٍ جُنُونِيَّةٍ، وهي تَبكِي وتَهذِي، ثُمَّ أَنزَلَها في أَوَّلِ الشَّارِعِ الَّذي تُقِيمُ فِيهِ، مُذَكِّرًا: إِنْ تَكَلَّمتِ فَالعِقابُ، وسَتَرَينَ رَبَّكِ قَرِيبًا.
دَخَلَت بَيتَها فَخَفَّت إِلَيها أُمُّها باكِيَةً: قَلِقتُ عَلَيكِ، لِماذا تَأَخَّرتِ في الرُّجُوع. فَأَجابَت: كان هناك قَصْفٌ فَانتَظَرنا حَتَّى هَدَأ. أَنا تَعِبَةٌ، فَدَعِينِي أَستَرِحْ قَلِيلًا.
دَخَلَت غُرفَتَها واستَغرَقَت في مَوجَةِ بُكاءٍ صامِت.
لَم تُخبِرْ أُمَّها بِما جَرَى، خَشيَةَ أَن يَعرِفَ أَخُوها، فَتَكُونَ العاقِبَةُ شَرًّا مِمَّا حَدَثَ، خُصُوصًا أَنَّ حُسَين مُنْتَمٍ إِلى التَّشكِيلاتِ المُسَلَّحَةِ في «حَرَكَةِ المَظلُومِين».
***
مَرَّ شَهرٌ على الحادِثَةِ، انتَشَرَ بَعدَها خَبَرُ مَقتَلِ «أَبُو اللَّيل» في مَعرَكَةٍ طاحِنَةٍ دارَت في الأَسواقِ التِّجارِيَّة.
وإِذ بَلَغَها النَّبَأُ قالت في سِرِّها: اللهُ كَبِير. إِلى أَلفِ جَهَنَّم، لا رَدَّكَ اللهُ يا ابْنَ الزَّانِيَة.
إِنقَطَعَت دَورَتُها الشَّهرِيَّةُ، وتَغَيَّرَ نِظامُ جَسَدِها، فَاستَشارَتِ الطَّبِيبَةَ زَيْنَب حُسَين، إِبنَةَ الجَنُوبِ، والَّتي تَملِكُ عِيادَةً لِلطِبِّ النِّسائِيِّ في «تَلَّة الخَيَّاط»، فَإِذا النَّتِيجَةُ أَنَّها حامِل. فَراحَت تَبكِي، ولكِنَّها لَم تُفْصِحْ عن حَقِيقَةِ أَمرِها لَها بَل خَرَجَت واليَأسُ يَملَأُ صَدرَها، والهَواجِسُ تَأخُذُها كَما في مَهَبِّ رِيحٍ، مِن دُونِ أَن تَدرِيَ ماذا سَتَفعَل.
مَضَت أَيَّامٌ ثَلاثَةٌ وهي في جَحِيمٍ، يَكادُ يَنفَجِرُ رَأسُها مِن التَّفكِيرِ الَّذي لا يُفضِي إِلى حَلٍّ يُرضِيها.
وأَخِيرًا قَرَّ رَأيُها على أَمْر…
في عَودَتِها مِن عَمَلِها مَرَّت بِالعَمِّ إِيلِيَّا ورَغِبَت إِلَيهِ أَن يُهاتِفَ جُورج ويَطلُبَ إِلَيهِ أَن يَتَّصِلَ بِهِ في الغَدِ، في هذا الوَقتِ بِالذَّاتِ، وهي سَتَكُونُ حاضِرَةً وتُحادِثُه.
وهكذا كان، وتَكَلَّمَت مع حَبِيبِها، والعَمُّ يَتَمَشَّى في الشَّارِعِ أَمامَ مَحَلِّهِ، كَي يَترُكَ لَها حُرِّيَّةَ التَّكَلُّم.
إَتَّفَقَت معه على العُبُورِ إِلى الشَّرقِيَّةِ عِندَ أَوَّلِ إِعلانٍ لِفَتحِ المَعابِرِ، وهُناكَ تَقصِدُ مَركَزَ عَمَلِهِ، فَإِذا لَم تَجِدْهُ فَالشَّبابُ رِفاقُهُ يَتَّصِلُونَ بِهِ بِواسِطَةِ اللَّاِسلْكِيّ. ولَم تَنْسَ أَن تُوصِي العَمَّ إِيلِيَّا بِأَن يُنكِرَ مُرُورَها بِهِ مُنذُ أُسبُوعٍ وأَكثَر.
***
مَرَّ يَومانِ على اختِفاءِ ماجِدَة، والأُمُّ تَسأَلُ وتَبكِي، والعَمُّ إِيلِيَّا يَجهَلُ كُلَّ شَيءٍ، وبَدَأَ جِيرانُ «بَيت بُو حسَين» يَتَوافَدُونَ مُؤَاسِينَ ومُثَرثِرِينَ، وكُلٌّ يَطرَحُ رَأيًا، والأُمُّ والأَخُ في حَيرَةٍ مِن أَمرِهِما، فَالبِنتُ اختَفَت كَسَرابٍ مِن دُونِ أَن يَلمَحَها أَحَد. وتَوَسَّطَ حُسَين لَدَى المَسؤُولِ عَنهُ في «حَرَكَةِ المَظلُومِين» الَّذي أَعلَمَ «اللَّجنَةَ المُشتَرَكَةَ» الَّتي تَتَوَلَّى مُبادَلَةَ المَخطُوفِينَ بَينَ البَيرُوتَينِ، فَلَم يُجْدِ المَسْعَى نَفْعًا لِأَنَّ الفَتاةَ لَيسَت مِنَ المَخطُوفِينَ إِلى المِنطَقَةِ الشَّرقِيَّة.
***
كان اللِّقاءُ بَينَ الحَبِيبَينِ مُؤَثِّرًا. هو احتَضَنَها مُمَسِّدًا رَأسَها بِيَدِهِ، وهي تَنشِجُ، وتَرتَعِدُ كَـ «عُصفُورٍ بَلَّلَهُ القَطْر».
كان الوَقتُ ظُهرًا فَأَخَذَها إِلى مَطعَمٍ حَيثُ انتَحَيا جانِبًا، وراحَ يَسأَلُها عن سَبَبِ مَجِيئِها، وهي تَبكِي. وإِذ هَدَأَت مَوجَةُ النَّحِيبِ قالَت: جُورج، أُرِيدُكَ أَن تُفَتِّشَ لِي عن عَمَلٍ، مَهما يَكُن نَوعُهُ، حَتَّى لَو كان في تَنظِيفِ المَنازِل.
– لا يَهُمَّنَّكِ، سَنَجِدُهُ وسَيَكُونُ مُحتَرَمًا، ولكِنَّنِي أُصِرُّ أَن أَعرِفَ سَبَبَ مَجِيئِك.
هُنا رَوَت لَهُ كُلَّ شَيءٍ، بَينَ الدُّمُوعِ والصَّمتِ المُتَقَطِّعِ، وهو مُصْغٍ، عابِسٌ، مُقَطَّبُ الحاجِبَين.
بَعدَ سُكُوتٍ طَوِيلٍ لَفَّهُما، قال: ماجِدَة. أُرِيدُكِ زَوجَةً لِي. ولا تَظُنِّينَ أَنَّنِي أَتَسَرَّعُ بِقَرارِي، أَو أَنَّ فِيهِ إِشفاقًا عَلَيكِ، فَحُلُمِي أَن تَكُونِي لِي، وأَنتِ تَعرِفينَ هذا جَيِّدًا. وكُونِي على ثِقَةٍ بِأَنَّ حُبِّي تَضاعَفَ بِسَبَبِ ما تَعَرَّضتِ لَهُ، فَأَنت وَردَةٌ يَفِيضُ عَبِيرُها إِمَّا جَرَّحَها الشَّوك. وما سَتَلِدِينَ سَيَكُونُ سَلْوَةَ أَيَّامِنا. وبِخُصُوصِ أَهلِكِ فَلنَترُكِ الزَّمَنَ يَفعَلُ فِعلَهُ، فهو سَيَذُلِّلُ العَقَبات. أَلَم أَقُلْ لَكِ مِرارًا: «وَمَن يَعِشْ يَرَ…»، أَمْ تُرِيدِينَ تَسفِيهَ رَأْيِ الشَّيخِ المُوَقَّر. فَابتَسَمَت، فَأَمسَكَ يَدَها وقَبَّلَها قُبلَةً طَوِيلَة…
تَلَقَّفَت يَدَهُ وراحَت تُقَبِّلُها وتُمَرِّرُها بِحنانِ على خَدِّها المُبَلَّلِ، ثُمَّ قالَت: ولكِنَّنِي أُرِيدُ أَن أَعمَل. فَأَجاب: حاضِرٌ سَيِّدَتِي.
بَعدَ يَومَينِ قَضَتهُما في مَنزِلِ خالَتِهِ، رافَقَها جُورج إِلى مُستَشفَى «سَيِّدَة الإِعانات».
***
قالَت لَها الرَّاهِبَةُ الرَّئِيسَة: «الرَّيِّسْ صَخْر» لَهُ فَضْلٌ كَبِيرٌ عَلَينا، ومَهما فَعَلنا لَن نُوفِيَ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَينا.
إِعتَرَضَ جُورج قائِلًا: أَرجُوكِ، أُختِي، لَم أَفعَل سِوَى واجِبِي.
فَتَوَجَّهَتِ الرَّاهِبَةُ إِلى ماجِدَة: سَتَكُونِينَ، بَدْءًا مِن هذه السَّاعَةِ، مَسؤُولَةً عن العُمَّالِ الأَجانِبِ، تُراقِبِينَ عَمَلَهُم الَّذي باتَ رُوتِينًا بِالنِّسبَةِ إِلَيهِم. وفي الفَترَةِ الأُولَى سَيَكُونُ هُناكَ مَن يُرشِدُكِ ويُساعِدُكِ حَتَّى تَتَمَكَّنِي مِن العَمَلِ، ولَن يَكُونَ صَعْبًا.
أَوَّلُ مَعرِفَةِ جُورج بِالرَّاهِبَةِ الرَّئِيسَةِ كانت عِندَما أَجرَى لِوالِدَتِهِ، في مُستَشفاها، عَمَلِيَّةً جِراحِيَّةً لِاستِئْصالِ الزَّائِدَةِ الدُّودِيَّة. آنَها، تَوَطَّدَت صَداقَةٌ بَينَهُما حِينَ رَأَت أَنَّهُ شابٌّ مُثَقَّفٌ، مُجازٌ في اللُّغَةِ الفَرَنسِيَّة.
كان يَأتِي لِعِيادَةِ والِدَتِهِ بِثِيابِهِ العَسكَرِيَّةِ، ثُمَّ يُعَرِّجُ على الرَّاهِبَةِ بِناءً لِإِلحاحِها. وقد شَكَت إِلَيهِ فَرِيقًا مَحَلِّيًّا مُسَلَّحًا يُدعَى «لِواءُ الجَبَل» لا يَكُفُّ عن طَلَبِ الخُوَّاتِ مِنها، وفَرْضِ مَرْضَى عَلَيها مِن دُونِ أَدنَى أَجْر. فَتَوَلَّى جُورج رَدْعَ هذه الجَماعَةِ بِطُرُقِ الأَمرِ الواقِعِ السَّائِدَةِ آنَذاكَ، والَّتي يَفهَمُها جَيِّدًا أَمثالُ هَؤُلاءِ المُتَسَلِّطُونَ الَّذين يَعِيشُونَ عالَةً على المُجتَمَع. وهكذا كَفَّ أَذاهُم إِلى غَيرِ رَجْعَة.
مَضَى أُسبُوعانِ فَقَط، فَاكتَرَى جُورج بَيتًا أَوسَعَ مِنَ الشِّقَّةِ الصَّغِيرَةِ الَّتي يَسكُنُها مع والِدَتِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجا في احتِفالٍ بَسِيطٍ ضَمَّهُما مع أَصدِقائِهِ المُقَرَّبِين.
***
بَعدَ شَهرٍ على غِيابِ ماجِدَة، جاءَ مَن يُسِرُّ إِلى حُسَين بِأَنَّ أُختَهُ شُوهِدَت في بَيرُوتَ الشَّرقِيَّةِ بِصُحبَةِ المَسؤُولِ العَسكَرِيِّ «صَخْر» وهو جُورج طَوِيلة الَّذي كان يَتَرَدَّدُ على مَحَلِّ العَمِّ إِيلِيَّا صاحِبُكُم.
إِستَشاطَ الأَخُ غَضَبًا، وقَصَدَ مَحَلَّ العَمِّ إِيلِيَّا مع رَفِيقٍ له، وهُما يَلبَسانِ الثِّيابَ العَسكَرِيَّةَ ويَحمِلانِ السِّلاحَ، وقالَ لُهُ غاضِبًا: قُلْ لِقَرِيبِكَ الَّذي ضَلَّلَ أُختِي فَذَهَبَت إِلَيهِ، بِأَنَّهُما سَيَدفَعانِ الثَّمَنَ غالِيًا، والأَيَّامُ بَينَنا. وانطَلَقا مُسرِعَينِ، لا يَنتَظِرانِ جَوابًا.
بَلَغَ التَّهدِيدُ إِلى جُورج وماجِدَة، فَخَشِيَت هي العاقِبَةَ وراحَت تُوصِي زَوجَها بِالحَذَرِ الشَّدِيدِ فَأَخُوها مُتَهَوِّرٌ لا يُراعِي حُدُودًا ولا يُحَكِّمُ عَقْلًا، ويَنتَمِي إِلى فَرِيقٍ مُسَلَّح. فَطَمأَنَها بِأَنَّ كُلَّ شَيءٍ سَيَسِيرُ إِلى أحسَن.
***
أَنجَبَت ماجِدَة ابنَةً فَسَمَّياها «نِعْمَت»، فَكانَت فَرحَةُ جُورج بِها، مِن دُونِ تَعَمُّلٍ لَها، كَبِيرَة، وأَحاطَ زَوجَتَهُ بِعِنايَةٍ فائِقَةٍ، ساهِرًا على راحَتِها مع والِدَتِهِ الَّتِي احتَفَلَت بِالصَّغِيرَةِ مِن قَلبٍ صادِق.
قالَت ماجِدَة لِزَوجِها بِحنان: كُنتَ تَقولُ دائِمًا بِأَنَّ الزَّمَنَ كَفِيلٌ بِفَكِّ العُقَد. وها قد مَضَى عامٌ على مُغادَرَتِي مَنزِلَ أَهلِي. فَما رَأيُكَ أَن أَدعُوَ والِدَتِي لِتَأتِيَ فَأَقُصَّ عَلَيها ما جَرَى مِن أَلِفِهِ إِلى يائِهِ، عَلَّنا نُزِيلُ الحِقْدَ الكامِن؟
– إِفعَلِي ما ارتَأَيتِ فهو عَيْنُ الصَّوابِ، واعلَمِي أَنَّ أَهلَكِ، بِالرُّغمِ مِمَّا حَصَلَ، هُم أَهلِي. وهَل يَكُونُونَ غَيرَ ذلك وهُم أَهلُ أَحَبِّ النَّاسِ إِلى قَلبِي، واحتَضَنَها بِعَطفٍ غامِرٍ، فَانهَمَرَت دُمُوعُها وقالَت: رَبِّي! هل أَستَحِقُّ هذا الرَّجُلَ الرَّائِع؟!
فَقَرَصَ خَدَّها وقَبَّلَها، مُمازِحًا: «اسكُتِي يا هَبْلَه…»
***
إِتَّصَلَت ماجِدَة بِجارَةِ والِدَتِها الَّتي تَسكُنُ شُقَّةً فَوقَ شُقَّةِ أَهلِها، ورَجَتها أَن تَدعُوَ والِدَتَها لِتُكَلِّمَها. جاءَتِ الأُمُّ، وكان كَلامُها، مع ابنَتِها، قاسِيًا، واتَّهَمَتها بِتَلوِيثِ شَرَفِ العائِلَةِ، وأَنَّها لَو أَرادَت أَن تَزُورَها كَما تَطلُبُ الإِبنَةُ فَإِنَّ أَخاها لَن يَقبَلَ البَتَّة. حِينَها أَخبَرَتها ماجِدَة بِأَنَّ هُناكَ أَشياءَ مُهِمَّةً سَتُوَضِّحُ كُلَّ شَيءٍ، ولا تَستَطِيعُ الإِفصاحَ بِها على الهاتِف. وتَوَسَّلَت إِلَيها: إِنْ لَم تَقتَنِعِي بِما سَأَروِيهِ لَكِ فَقاطِعِينِي مَدَى الحَياة.
***
كان لِقاءٌ مُعظَمُهُ دُمُوعٌ، وأَخبَرَت ماجِدَة أُمَّها عن جَلِيَّةِ الأَمرِ، بِتَفاصِيلِهِ الدَّقِيقَةِ وقالَت لَها: إِذا أَرَدتِ أَن تَتَأَكَّدِي مِمَّا رَوَيتُ، وتَطْمَئِنَّ نَفسُكِ، فَاسأَلِي الطَّبِيبَة زَيْنَب حُسَين، عِيادَتُها في «تَلَّةِ الخَيَّاطِ» قُربَ مَبنَى التّلفيزيُون، فَمَلَفِّي الطِبِّيُّ مَوجُودٌ لَدَيها مع تارِيخِ استِشارَتِي إِيَّاها، فَتَعلَمِي أَنَّنِي كُنتُ حامِلًا لَمَّا كُنتُ في الغَربِيَّة. فَيا أُمِّي الحَبِيبَة، جُورج لَم يَستَدرِجْنِي إِلى هُنا بَل أَنا الَّتِي استَنجَدتُ بِهِ، ولَو بَقِيتُ هُناكَ لَكُنتُ انتَحَرت. فَإِنْ تُفَتِّشِي الأَرضَ فَلَن تَجِدِي رَجُلًا أَنبَلَ مِن زَوجِي، وأَنا أَعِيشُ مَعَهُ، ابنَتِي يَعتَبِرُها ابنَتَهُ مِنْ صُلْبِهِ، ويُعامِلُنِي كَمَلِكَةٍ مُتَوَّجَة. فَهَل تَتَمَنَّينَ غَيرَ هذا لابنَتِك؟!
تَوَقَّفَت عن الكَلامِ وبَدَأَت بِبُكاءٍ مُتَواصِلٍ، فَاحتَضَنَتها أُمُّها وراحَت تَبكِي مَعَها.
لازَمَتِ الوالِدَةُ ابنَتَها، تُساعِدُها في رِعايَةِ الطِّفلَةِ، مُدَّةَ أُسبُوعَينِ ثُمَّ قَفَلَت راجِعَةً إِلى مَنزِلِها.
***
رَنَّ جَرَسُ الهاتِفُ في مَنزِلِ جُورج، في العاشِرَةِ لَيلًا.
– أَلُو.
– جُورج؟
– نَعَم، مَن يَتَكَلَّم؟
– مَعَكَ حُسَين، أَخُو ماجِدَة.
– أَهلًا حُسَين.
– جُورج، حَبِيبِي. قَبلَ أَن نَتَكَلَّمَ في كُلِّ شَيءٍ، اعذُرْنِي وسامِحْنِي، فَأَنا أَسَأتُ بِكَ الظَّنَّ، وأَخطَأتُ بِحَقِّكَ، والآنَ أَعلَمُ مِقدارَ نُبْلِكَ، وأَتَوَسَّلُ إِلَيكَ أَن تَغفِرَ لِي إِساءَتِي.
– حُسَين، أَخِي. أَرجُوك. أَنتَ لَم تُسِئْ لِي، وأَنا لَو كُنتُ مَكانَكَ لَكُنتُ تَصَرَّفتُ مِثلَك.
عَسَى أَن تَهدَأَ الأَحوالُ ونَجتَمِعَ عائِلَةً واحِدَةً، واللهُ كَرِيم.
ثُمَّ تَكَلَّما حَولَ كُلِّ شَيءٍ، وخَتَمَ جُورج: أَلَا تُرِيدُ أَن تَتَكَلَّمَ مع «نِعْمَت»، فَـ «تُلْتَينْها لِلخالْ». وضَحِكا سَوِيَّةً.
ثُمَّ تَحادَثَ حُسَين مع أُختِهِ، في كُلِّ شَيءٍ، ولامَها على عَدَمِ إِطلاعِهِ على ما حَصَلَ مَعَها، لِأَنَّهُ يَتَعَطَّشُ لَو أَنَّهُ هو الَّذي قَتَلَ هذا المُجرِمَ النَّذْلَ «أَبُو اللَّيل». فَهَل تَظُنِّينَنِي دَجاجَةً لتَخافِي عَلَيَّ هكذا. فَقالَت: لا، يا أَخِي، أَنتَ «قَبَضايٌ» شُجاعٌ، ولكِنَّكَ تَعرِفُ كَم هو خَطِرٌ وغَدَّارٌ، وحَتَّى لَو كَمَنتَ لَهُ وقَتَلتَهُ فَإِنَّكَ لَن تَنجُوَ، ونَحنُ لَن نَنجُوَ أَيضًا، فَجَماعَتُهُ المُسَلَّحَةُ تُهَيمِنُ على أَحيائِنا. أَنتَ غالٍ جِدًّا على قَلبِي، وأُفَضِّلُ المَوتَ على أَن أُسَبِّبَ لَكَ مَكرُوهًا.
حِينَها قال: لَن أَسأَلَكِ عن حَياتِكِ الآنَ، فَقَد أَخبَرَتنِي أُمِّي كُلَّ شَيءٍ، وأَنا أُهَنِّئُكِ بِزَوجِكِ العَظِيم. نعم… «إِنَّ بَعضَ الظَّنِّ إِثْم»(3)!
وكانَت مُسارَّةٌ طَوِيلَةٌ وِجدانِيَّةٌ، وأَمَلٌ بِلِقاءٍ وَشِيك!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى ما فَعَلتُمْ نَادِمِينَ﴾
(القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ الحُجُرات، الآيَة 6)
(2): إِشارَةٌ إِلى المَثَلِ العامِّيِّ: «عِيْش يا كْدِيش تا يُنبُت الحَشِيشْ»
(3): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ الحُجُرات، الآيَة 12)