خِبرَةٌ، وعِبَرٌ، وحَصِيلَة عُمْر!

 

عَرَّفَ اللُّغَوِيُّونَ البَلاغَةَ بِـ «البَلاغَةُ هِيَ الدَّلالَةُ عَلَى كَثِيْرٍ بِقَلِيْل، وَحُسْنُ الإِشَارَةِ وَالإِقْتِضَاب».

تَذَكَّرتُ هذا القَولَ وأَنا أَقرَأُ لِقاءً صِحافِيًّا أَجرَتهُ دارِين حُومانِي، لِجَرِيدَةِ اللِّواءِ، بِتارِيخ 21 حَزِيران 2019، مع كَبِيرٍ في إِيوانِ «صاحِبَةِ الجَلالَةِ» هو جُورج طرابُلسِي.

كان صاحِبُنا بَلِيغًا في الرَّدِّ على أَسئِلَةٍ كان لها أَن تَكُونَ مادَّةً دَسمَةً لِلإِطالَةِ المُمِلَّةِ لو أُتِيحَ لها واحِدٌ مِمَّن يَقُولُونَ كَثِيرًا في مَضمُونٍ قَلِيلٍ، والنَّتِيجَةُ إِرهاقُ المُتَتَبِّعِ حَدَّ نَفْضِ اليَدِ مِنَ المُتابَعَةِ، واستِنفادُ الحِبْرِ في غَيرِ طائِل.

جورج طرابُلسِي يَحمِلُ هَمَّ الكَلِمَةِ، ويَحتَفِي بِالجَيِّدِ عِندَ مَن يُجِيدُ لَكَأَنَّهُ مِن نِتاجِهِ هو، وهذا هو الكِبْرُ بِأَبهَى صُوَرِهِ، وأَجمَلِ تَجَلِّياتِه.

صِحافِيٌّ، صَدِيقُنا، عَزَّت به الصِّحافَةُ في مَسِيرَتِهِ الطَّوِيلَةِ على دُرُوبِها الشَّائِكَةِ، فَما وُجِّهَ إِلَيهِ سَهْمُ مَلامَةٍ أَو إِدانَةٍ، يَومًا، ولا هَبَطَ إِلى سَفْسافِها وَوَرَقِها الأَصفَرِ سَعيًا وَراءَ أَصفَرٍ رَنَّانِ، أَو شُهرَةٍ زائِفَةٍ، أَو تَوَسُّلًا لِزُلْفَى بَينَ ذَوِي شَأْن. وقد شَهِدَت له «الصَّفحَةُ الثَّقافِيَّةُ» في جَرِيدَةِ الأَنوارِ – يَومَ كانت أَنوارُها تُجَلِّلُ صَفحَةَ الوَطَنِ – بِأَيادِيهِ البِيضِ، ودَأَبِهِ المُبارَكِ المُتَرَفِّعِ عن الاستِنسابِيَّةِ، والمُنَزَّهِ عن رَفْعِ مَن لا تَلِيقُ بِه الرِّفعَةُ، والسَّاعِي، أَبَدًا، إِلى شَدِّ أَزْرِ مَن شَمَلَتهُ نِعمَةُ المَوهِبَةِ الحَقّ.

واليَومَ، بَعدَ أَن أَقفَلَت حَلبَتُهُ السَّابِقَةُ، لم يَنكَفِئْ بل تَفَرَّغَ لِمُدَوَّنَتِهِ الغَرَّاءِ «أَلاف – لام aleph-lam»، يُشَرِّعُها رَحْبَةً مِضيافًا أَمامَ الأَقلامِ النَّاهِدَةِ والمُحَنَّكَةِ، ويُغَذِّيها بِتَحقِيقاتِهِ واستِطلاعاتِهِ وثَقافَتِهِ العَرِيضَةِ ومَخزُونِهِ الثَّرّ.

في رَأْيِ صاحِبِنا «الصِّحافِيُّ كَالشَّاعِرِ، إِذا لَم يُولَدْ صِحافِيًّا فَلا يُمكِنُ أَن يَكُونَ». وهذا صَوابٌ مِن مُعاصِرٍ لِنِصفِ قَرْنٍ مِن الصِّحافَةِ، خَبَرَ فيها مَن تَنَكَّبُوا قَوسَها فَعادُوا بِالغَثِّ المَرذُولِ فَما هُم مِن بَجدَتِها، ومَن اقَتَحَمُوا مَجاهِلَها فَعادُوا بِكُنُوزِ الجُزُرِ المَنسِيَّةِ، ورَفَعُوا لِواءَها إِلى أَعلَى عِلِّيِّين. لَقد استَفادَ مِن خِبرَةِ هَؤُلاءِ، وأَخَذَ العِبَرَ مِن مَسِيرَةِ أُولئِكَ، فَجاءَ رَأيُهُ السَّابِقُ حَصِيلَةَ عُمْرٍ مُثقَلٍ بِالتَّجارِبِ، وباصِرَةٍ حادَّةٍ، وحَدْسٍ ذَكِيّ. ولَكَم أَجادَ في تَعبِيرِهِ المُكَثَّفِ «زادَتنِي العَتَمَةُ إِيمانًا بِقُدسِيَّةِ النُّور»، وهذا سَمْتُ الكِبارِ يَفِيدُونَ مِن النُّعْمَى كما يَفِيدُونَ وَعْثاءِ المَسِير.

وهو يُوَجِّهُ النُّصْحَ الصَّادِقَ لِخِرِّيجِي الإِعلامِ، رُوَّادِ المُستَقبَلِ، مُستَخلِصًا مِن تَجرِبَتِهِ الذَّاتِيَّةِ الَّتي كانت ثُمالَتُها مُرَّةً، فِيها طَعْمُ الخِذْلانِ، وعَلقَمُ الخَيبَة. ويُحَذِّرُهُم مِنَ الوُعُودِ الخَلَّابَةِ، وبَهْرَجِ الأَلقابِ المُزَيَّفَةِ، وأَسالِيبِ المُرائِين.

وحِينَ سُئِلَ عن «رُؤْيَتِهِ لِلمَشهَدِ الشِّعرِيِّ في لُبنانَ»، أَجابَ بِبَلاغَةِ الحَكِيمِ الَّذي عَجَمَت عُودَهُ الأَيَّامُ وتَقَلُّباتُها: «أَرَى تُخْمَةً في الـ “شُّعراءِ” ومَجاعَةً في الـ “شِّعْر”…».

فَإِذا جَوابُهُ صُورَةٌ فائِقَةُ التَّعبِيرِ، بِالنَّزرِ مِنَ الكَلامِ، والقَدَرِ الوافِي مِن الدِّقَّةِ والنَّباهَة. لقد أَصابَ الكَثِيرَ مِن دُونِ أَن يُصِيبَ جِهَةً بِعَينِها، فهو الكَيِّسُ اللَّمَّاحُ ذُو المَلمَسِ الوَرْد.

وهو إِذ أَورَدَ الحِكايَةَ الطَّرِيفَةَ عن الفَنَّانِ والعَصافِيرِ، كان مُمتِعًا مُفِيدًا، ولكنَّهُ أَصابَ صَمِيمَ نَفسِهِ إِذ قال: «لذلكَ، فَإِنَّنِي لَستُ نادِمًا على ضَياعِ مَقالاتِي، لِأَنَّها لو كانت ناجِحَةً لَما بَقِيَ الوَضْعُ في لُبنانَ على ما هو عليه، وأَقَلُّهُ، لَما ازدادَ سُوءًا…».

لا، يا صَدِيقَنا، إِنَّنا نُخالِفُكَ الرَّأيَ، فَلَستَ مَن صَلَبَ «السَّيِّدَ»، ولَستَ مَن قَذَفَ بِالسَّفِينَةِ صُخُورَ الشَّاطِئ. إِنْ أَنتَ إِلَّا لَبِنَةٌ صُلْبَةٌ في هَيكَلٍ هائِلٍ، فَما تَستَطِيعُهُ إِن أَحاطَت بِها لَبِناتٌ رَملِيَّةٌ هَشَّة؟!

فَلا تَظلِمَنَّ نَفسَكَ، فقد استَثمَرْتَ «وَزَناتِكَ» بِالشَّكلِ الأَمثَلِ، ونادَيتَ حَتَّى بُحَّت حَنجَرَتُكَ، وَوَقَفتَ على المَفارِقِ، صائِحًا بِالسَّابِلَةِ مع «نَشِيدُ الأَنشاد»: «أَبعِدُوا عَنَّا الثَّعالِبَ، صِغَارَ الثَّعالِبِ، لِأَنَّها تُفسِدُ الكُرُومَ، وَإِنَّ كُرُومَنَا قَد نَضَجَت أَعنَابُها».

ولكنْ… كُثُرٌ مِمَّنْ نادَيتَ هم مِن نادِي بَناتِ آوَى، ومِن ذَوِي الأَقنِعَةِ، والابتِساماتِ المَسمُومَة.

وَ… «لا حَياةَ لِمَن تُنادِي».

أَدامَكَ اللهُ، صَدِيقَنا، مُبَشِّرًا بِالحَقِّ، ونَصِيرًا لِلمُبدِعِين!

اترك رد