(لِمُناسَبَةِ رَحِيلِ الشَّاعِرِ الزَّجَلِيِّ الياس بُوكَرِيم المَفطُورِ على الشِّعْر)
(لَن يَكُونَ النِّسيانُ قَدَرَكَ وَخَلَّفتَ أَسفارًا مِن ذِكرَياتٍ دَوافِئ!)
أَبا أَنطُونَ إِذ يَصِلُ القِطارُ فَلَيسَ مِنَ اللِّحاقِ بِهِ فِرارُ
نَشاءُ تَقاعُسًا، ونُرِيقُ دَمعًا، فَلا تُجدِي الدُّمُوعُ ولا القَرارُ
نَعِيشُ، وَنَبذُرُ الأَحلامَ تِيهًا، وفي أَقصَى المَدَى أَبَدًا بَوارُ
إِذا دارَ الزَّمانُ بِنا استَحَلنا، مَعَ الأَنواءِ، غَزَّارًا يُدارُ
نَرُومُ بَقاءَنا، وَنَوَدُّ أَنَّا نَرَى قَدَرًا يُجَلبِبُهُ السِّتارُ
فَأَينَ شَبابُنا، وَغِوَى هَوانا، وَهَل مَرْجُ الصِّبا هَذِي القِفارُ؟!
أَنا أَرثِيكَ إِلفًا غابَ عَنَّا، فَلازَمَنا، على وَهَنٍ، دُوارُ
وَلَستُ أَقُولُ إِنَّ الأَرضَ مادَت، وهاجَت، بَعدَ هَدأَتِها، البِحارُ
ولا سَقَطَت نُجُومٌ مِن عُلاها، ولا الشَّمسُ انزَوَت، وخَبا النَّهارُ
ولكِنَّي أَقُولُ بِأَنَّ صَرْحًا هَوَى فَأَساسُهُ القاسِي نُثارُ
وأَنَّ مَعَ الرَّحِيلِ قَضَى جَبِينٌ نَصِيعٌ، لَم يُلَطِّخْهُ الغُبارُ
فَبَعدَ غِيابِهِ شَجَنٌ عَمِيقٌ، وأَفئِدَةٌ على لَهَفٍ، حِرارُ
تَجِفُّ دِنانُنا، وَيَبُورُ كَرْمٌ، تَغِيبُ أَحِبَّةٌ، وَتَنُوحُ دارُ
على أَنَّ الكُؤُوسَ، وَلَو حُطامًا، يَدُومُ على شَظاياها الخُمارُ!
***
مَرَرتَ فَدَربُكَ المُنداحُ وَرْدٌ يَمُوجُ شَذًا، وَكِبْرٌ، وافتِخارُ
نَهِلنا الشِّعرَ عن شَفَتَيكَ حَتَّى تَدَلَّت مِن خَمائِلِنا الثِّمارُ
وأَنتَ الشَّاعِرُ المَفطُورُ تُعطِي على رِسْلٍ كَما يَشدُو الكَنارُ
ومِن دُونِ التَّبَحُّرِ في لُغاتٍ كَبِيرًا كُنتَ، يَقدِرُكَ الكِبارُ
نَظَمتَ فَشِعرُكَ المَجدُولُ بَدْعًا، أَصِيلٌ لا رَكِيكٌ مُستَعارُ
تَمِيلُ إِلى القَوافِي فَهْيَ طَوْعٌ لَدَيكَ، فَما يُكَبِّلُها إِسارُ
تَكُرُّ كَما الجَداوِلُ في انسِيابٍ، فَلا يَثنِي عَنِ التَّوقِ العِذارُ
تُطاوِعُكَ القَصِيدَةُ فَهْيَ أُنثَى، يَغِيبُ أَمامَ رَغبَتِها الوَقارُ
تَهُلُّ لَواحِظٌ، وَيَتُوقُ صَدْرٌ، وَيَهزَجُ في تَثَنِّيهِ السِّوارُ
تَفُكُّ غَلائِلًا، وَتَهِيمُ شَوقًا، فَيَسقُطُ مِن تَلَهُّفِها الِإزارُ
وَما كانَت لِتُذعِنَ في زَمانٍ لِغَيرِ مُحَنَّكٍ يَعلُوهُ غارُ
لَقَد أَهمَلتَ صَوْنَ جَناكَ حَتَّى غَدا وَرَقًا تَغِيرُ عَلَيهِ نارُ
فَواأَسَفاه! كَم أَغفَلتَ شِعرًا، أَما وَخَزَتكَ أَيَّامٌ قِصارُ؟!
***
مَضَى الزَّمَنُ الجَمِيلُ وكُنتَ فِيهِ أَنِيسًا لا يَضِيقُ بِهِ الجِوارُ
مَعَ الخُلَّانِ ما بَدَّلتَ يَومًا، فَلا عُسْرٌ يَحُولُ ولا يَسارُ
وَما يُقصِيكَ دَهرٌ ذُو ابتِسامٍ، ولا يَلوِيكَ عَن عَوْنٍ عِثارُ
أَبا أَنطُونَ لَن يَنساكَ رَبْعٌ أَلِفتَ، وعِشْرَةٌ وُثْقَى، وجارُ
يُغَيِّبُكَ المَماتُ، فَما لِأَهلٍ عَزاءٌ بَعدَ أَن فَدَحَ الخَسارُ
فَيَكفِيهِم، على مُرِّ التَّنائِي، خَيالُكَ كَالعَبِيرِ إِذا يُثارُ
وتَبقَى الصُّورَةُ الغَرَّاءُ ذُخْرًا وَهُدَّ زُجاجُها، وَمَضَى لإِطارُ
كَتَرنِيمٍ بَعِيدٍ عادَ شَجْوًا إِلَيهِم بَعدَ أَن سَكَتَ الهَزارُ
سَتَبقَى في القُلُوبِ صَدًى حَنُونًا وذِكْرًا في سَرِيرَتِنا يُزارُ
وعَرْفًا مِن شَذا خَمْرٍ عَتِيقٍ يَدُومُ لَنا وَلَو نَضَبَت جِرارُ
تَغِيبُ هَياكِلٌ، وَيَعِيشُ ذِكْرٌ، وَيَثبُتُ في جَوانِحِنا المَزارُ
نَعُودُ إِلَيهِ فَالمِحرابُ باقٍ وقَد هَوَتِ الزَّوايا والجِدارُ
أَبا أَنطُون، تَبقَى ما حَيِينا، نَزِيلَ البالِ يَحدُوهُ اذِّكارُ!