د. جميل الدويهي يكتب عن مريم: قصص الحبّ ممزوجة دائماً بالأحزان

كانت السيّدة مريم رعيدي الدويهي على مقاعد الدراسة، عندما كتبت نصوصها الأولى، وقد ضاعت جميعها. وكنت أشجّعها دائماً على الكتابة، وأطلب منها أن تطلعني على ما تكتبه ليكون لي رأي متواضع فيه، لكنّها كانت تبتعد عن الفكرة، لمشاغل الحياة وضغوط الأسرة، والهجرة الدائمة من مكان إلى آخر، حتّى كان عام 2015، عندما أخذ مشروعي “أفكار اغترابيّة” يشقّ طريقه بثبات، ليعلن نهضة أدبيّة اغترابيّة من أستراليا، فانضمّت مريم إليه، ومضت تحلّق في سمائه، جناحاها الكلمة الراقية والمبدعة، والفكر الإنسانيّ الذي يسمو إلى فوق، ولا يلتفت إلى مطامير التراب.

وفي خطواتها المبكرة على الجسر العتيق، لا تنسى الأديبة مريم الأسماء والذكريات والأمكنة، فهي تحنّ إلى الماضي، وكأنّها تريد الانتقام من حاضرها المليء بالمرارة وخيبات الأمل. فقد عانت مريم الكثير من المصاعب في رحلة القلق والغربة عن وطن بعيد وقريب، ولا تنفصل عنه، فاسمعها تخاطب هذا الوطن قائلة:

يتعب العمر من الانتظار

وأحترق شوقاً إليك…

أيّها المتألّم

الواقف تحت المطر…

النازف من جرح قديم…

ردّني إلى ذراعيك

لأولد من جديد

وردة للعاشقين

وعصفورة للحبّ والحنين…

فننجو أنا وأنت

من عذاب السنين.

إنّها تشعر بألم الفراق، وتشتاق إلى عناصر الطفولة: البيت، الأرجوحة، الخيمة، شجرة الجوز، النبع… وكثير من الأشياء التي تركتها وراءها في المكان والزمان، غير أنّها ما زالت تعيش فيها وتعود إليها بين الفينة والأخرى، فتتفاجأ بأنّ كلّ ما كانت تحبّه قد تغيّر وتبدّل، فها هي تزور النبع (نبع القرية) لتستقي منه، فلا تجد فيه قطرة تروي غليلها، فتنهمر دموعها من الخيبة:

ونقطه من النبع

ما قدرت إشرب…

وصارت دمعتي جنينه…

ونبع تاني

سرح من عَينِي…

وعن البيت تقول:

مشتاقه إرجع عالبيت العتيق

تا إرسم عالحيطان

وإنسى حكاية عمر ما لها عنوان…

دخلك ابعتلي خصلة نور

من فوق ضيعتنا

تا خزّق سواد الليل

وتْرنّ من هاك الوديان ضحكتنا…

وصَلّي معي يا قمر

تا إرجع عا بلادي

وشوف البحر الهادي…

وإقطف من النجوم باقه

وإشلحهن عا إيدين إمّي المشتاقه.

وبين الحنين إلى البيت والإبداع في التصوير الفوتوغرافي (دمعتي جنينه – خزّق سواد الليل – وترنّ من هاك الوديان ضحكتنا – وإقطف من النجوم باقه)… تظهر الأديبة مريم كمبدعة ذات منحى رومنطيقيّ، وكثيراً ما تحاول تغيير الزمن، وإعادة عقارب الساعة، لتكون لها فرصة الرجوع إلى غبطة طفوليّة خسرتها، وخسرت معها الكثير:

هيك الزمان…

كتار كانو هون وفلّو

حتّى الشجر ما بيبقى محلّو…

وبدال ما رجّع الدقيقه

ضاع من إيدي الزمان كلّو.

إنّه التسليم بإرادة القدر ومسيرة الزمان، فلماذا تضيّع مريم وقتها في البحث عن ساحر يعطيها ما تريد؟ هناك جواب واحد: إنّ الرجوع بالزمن يدخلها في ذكريات جميلة، فتفرح كطفلة وجدت لعبتها بعد أن بحثت عنها طويلاً، ليتبيّن أنّ اللعبة نفسها من وهم وسراب. كما أنّ الناس الذين رحلوا من بيننا لن يعودوا، وإن كانوا يصرخون في الذكريات:

لقينا الجسر

ضايع بين اليوم وبُكره

وما بقي منّو

غير الذكرى…

تاري اللي كان

هوّي حكايه

بعبّ الزمن مخبّايه…

واحتلّ الصمت المكان

من وقت ما رحنا

ومطرح اللي التقينا

وضحكو عينينا

ما عدنا لقينا مطارحنا.

والجسر العتيق هو موضوع الكتاب الأبرز، صورة مكانيّة لكنّها زمانيّة أيضاً… الجسر هو الشاهد الحزين على اصفرار الأشجار، ورحيل الناس، وبعضهم ذهب ولن يعود:

أمّا عن موضوع الحبّ في مجموعة مريم، فهو الوجه الآخر الذي لا ينفصل عن الإطار الزماني، والمنحى الوجداني العميق الذي تتبعه، فالحبّ عندها صفاء والتزام حياتيّ، بل هو مغامرة واحدة لا تتكرّر في الحياة: مع رجل هو أغلى من الروح:

خلّي ضحكتي حدّك

وين ما بتروح

وخلّي عيوني

متل قنديل عا دربك

وكل لحظه

روحي بتوصل لعندك

لأنك أغلى من الروح.

وملامح الرجل الذي تحبّه مريم تتداخل في ملامحها، فلا تعود تعرف نفسها:

إنت البحر

وأنا المركب

اللي ضايع فيك

وبين السفَر والسفر

بفتّش عا حالي

تا لاقيك…

لكنّ قصص الحبّ ممزوجة دائماً بالأحزان، فالحزن لا يفارق مريم التي انعكست تجاربها، وهمومها، وانشغالاتها المتكرّرة بين سفر وآخر، على مجمل كتاباتها، فاسمعها تقول:

سكوتك إنت وعم تتطلّع لبعيد

من هون للطفوله

أجمل غنيّه سمعتها…

لحن رحباني رقيق

بالصبح الغميق

وابتسامتك قهوة مرّه

متل الإيّام اللي مرقو

والإيّام اللي رح يمرقو…

وأنا بشرب هالابتسامه

منشان ما تهرب من قدّامي

متل ما بيهرب

من إيدينا الزمان

وبيضيعو منّا الأسامي.

الابتسامة مرّة كطعم الحياة، وهي تشرب ايتسامة الحبيب، خوفاً من أن يغادر على حين غرّة، وتبقى وحدها أسيرة الحرمان والذكريات المعذّبة.

وهكذا تمضي مريم رعيدي الدويهي في شغفها مع القلم، وهو شغف نبيل، رقيق، وشفّاف، من مدرسة “أفكار اغترابيّة” التي تؤمن بأنّ الكلمة المضيئة هي الكلمة التي تخرج من الروح وتذهب إلى الروح، فلا إقذاع، ولا تهتّك، ولا انتهاك لحرمة الأدب، بل إغراق في البراءة السامية التي تعكس شخصيّة الكاتب وعلوّ أفكاره.

هنيئاً لمريم رعيدي الدويهي بهذه الباكورة، المليئة بقطاف وجنى، هو في ظنّي أوّل الغيث، ولا بدّ من عمل جليل آخر، ولن يطول الزمن.

اترك رد