في منزل باسترناك
قبل عدة اسابيع، زرت منزل (الآن متحف) الشاعر بوريس باسترناك في (بريديلكينا)، بلدة الكتّاب في العهد السوفيتي، الواقعة في ضاحية موسكو الشمالية. هنا عاش الشاعر بين عامي 1939-1960. وهنا تلقى نبأ فوزه بجائزة نوبل في الأدب لعام 1958. وهنا توفي في 30 مايو 1960.
منزل خشبي من طابقين مثل كل منازل البلدة. غرفة نوم، ومكتب الشاعر ومكتبته الشخصية الثمينة في الطابق الثاني. اثاث البيت متواضع، ولكن البيانو الأسود العائد لوالدته، روزاليا باسترناك، واللوحات الفنية الرائعة، والصور المعلقة على جدران غرفة المكتب والصالة – وهي من ابداع والده الفنان الشهير ليونيد باسترناك – تدل على ان الشاعر نَشَأَ وَشَبَّ في اجواء فنية راقية، حيث كان يتردد على منزل العائلة العديد من كبار الفنانين والادباء وبضمنهم الكساندر سكريابين وليف تولستوي.
جلستُ في المكتب الذي كتب فيه الشاعر قصائده الرائعة، ورواية “دكتور زيفاغو”وغرقت في الحزن والأسى. يا الهي، كم تعذّب الشاعر، وكيف سممت السلطة حياته بعد فوزه بجائزة نوبل؟. وكم نشر في الدول الغربية من أساطير وأكاذيب حول ما سمي بقضية باسترناك؟، وكيف تم تسييس القضية خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والإشتراكي؟. وكم كتب في العالم العربي من مقالات وتعليقات عن باسترناك وروايته إستناداً الى مصادر غربية متحيزة؟.
أعتقد أنه قد آن الأوان لإلقاء الضوء على قضية باسترناك – بعيداً عن الأوهام، والإثارة الاعلامية – استنادا الى الوثائق الرسمية الروسية، ووثائق الأكاديمية السويدية – مانحة الجائزة – التي كشف النقاب عنها في السنوات الأخيرة.
طريق باسترناك الشائك الى جائزة نوبل
يخطئ من يظن أن منح جائزة نوبل في الادب لعام 1958 الى بوريس باسترناك، كان فقط بفضل رواية “دكتور زيفاغو”التي أثارت فور نشرها في ايطاليا عام 1957 ومن ثم ترجمتها في الأشهر اللاحقة الى اكثر من عشرين لغة، ضجة أدبية وسياسية في روسيا والعالم، لم يسبق لها مثيل .
باسترناك واحد من أعظم شعراء القرن العشرين، واحتل مكانة راسخة في الأدب العالمي قبل كتابة هذه الرواية بسنوات طويلة. وكما يظهر من وثائق لجنة نوبل، التي نشرت عام 2008 بعد مرور خمسين عاما على منح الجائزة، أن باسترناك كان، مرشحا بارزاَ لنيل هذه الجائزة المرموقة في عام 1946 أي قبل أحد عشر عاما من نشر رواية “دكتور زيفاغو”. وقد قام بترشيحه سيسيل موريس باور، وهو عالم انجليزي ضليع في اللغات السلافية، وباحث بارز في الشعر الروسي. ولكن الجائزة ذهبت في تلك السنة الى الكاتب الألماني هيرمان هيسه. ولم يختف اسم باسترناك من لائحة المرشحين للجائزة خلال اعوام (1947، 1948، 1949 ).
ثمة تقليد درجت عليه اكاديمية العلوم السويدية (مانحة الجائزة ) وهو أن يوم 31 يناير من كل عام، هو آخر موعد لقبول الترشيحات. وفي هذا اليوم يحق لكل عضو في الأكاديمية تقديم مرشحه لنيل الجائزة. وكان عضو الأكاديمية الناقد الأدبي(مارتن لام) قد رشح باسترناك للجائزة عام 1948، وكرر ترشيحه عام 1950 .
توقفت محاولات ترشيح باسترناك للجائزة عندما أصبح من الواضح الخطر الذي قد يهدده في بلاده، بعد ان تعرض الى نقد لاذع بسبب حفاظه على حريته الابداعية بعيدا عن شعار حزبية الأدب. وظهر اسمه مجددا ضمن قوائم المرشحين بعد وفاة ستالين. ففي عام 1954، تردد اسم باسترناك كمرشح لنيل الجائزة، ولكن لجنة نوبل قررت منحها الى ارنست همنغواي .
رواية “دكتور زيفاغو”
بعد انتصار الجيش الاحمر في الحرب الألمانية السوفيتية (1941- 1945 )، التي يطلق عليها الروس اسم “الحرب الوطنية العظمى” كانت الآمال تراود الشعب السوفيتي بفتح آفاق جديدة للتطور وحرية التعبير. وفي هذا المناخ الذي كان يوحي بالتفاؤل، شرع باسترناك في خريف عام 1946 بكتابة الفصول الأولى من رواية “دكتور زيفاغو” والتي لم تكتمل الا في عام 1855. وكان باسترناك نفسه يعتبر هذه الرواية ذروة ابداعه النثري .
ترسم الرواية لوحة عريضة لحياة المثقفين الروس على خلفية الفترة الممتدة من اوائل القرن العشرين وحتى الحرب الوطنية العظمى. وتتسم الرواية بشعرية رفيعة، وتتناول مصير المثقفين في الثورة، وتتضمن قصائد باسترناك الرائعة المنسوبة الى البطل الرئيسي للرواية، يوري زيفاغو، وهو شخص مبدع يفسر الواقع المحيط به فلسفياً.
كان لتقرير خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي عام 1956، الذي أدان فيه الستالينية تأثير كبيرفي الرأي العام السوفيتي. وظهرت امام باسترناك فرص جديدة، وكان قد انتهى قبل ذلك بفترة وجيزة من كتابة رواية “دكتور زيفاغو”، فقدّم بعض النسخ منها لأدباء من أصدقائه، وعرضها على مجلتين ادبيتين مرموقتين هما “نوفي مير – العالم الجديد” و “زناميا – الراية”. وكان هناك أمل حقيقي في نشرها -.
أثار تقرير خروتشوف اهتمام العالم بما يحدث في موسكو، وأدى الى تعزيز الاتصال الثقافي بين الاتحاد السوفيتي والعالم الخارجي. وفي هذا الاطار زارت وفود أدبية من بولندا وتشيكوسلوفاكيا بلدة الكتّاب في “بيريدلكينا” والتقت باسترناك. وقد تمكن رئيس اتحاد الكتّاب البولندين، زيموفيت فيديتسكي من الحصول على نسخة من رواية “دكتور زيفاغو” لنشر ترجمتها البولندية في مجلة “اوبينين” الأدبية التي كان الاتحاد يتهيأ لإصدارها قريباً. وبحث باسترناك أيضاً امكانية نشر الترجمة الجيكية للرواية.
في مايو 1956، قدم باسترناك نسخة من “دكتور زيفاغو” للصحافي الإيطالي سيرجيو أنجيلو، الذي وصل بناء على طلب دار نشر فيلترينيللي الى بلدة بيرديلكينا مع زميله في إذاعة موسكو ف. فلاديميرسكي. وقالا لباسترناك: “إذا كانت الرواية ستنشر في موسكو، فلماذا لا نسرع في اتخاذ قرار بشأن نشرها في دول أخرى؟”
واكد باسترناك اكثر من مرة، أن يعض نسخ الرواية، كانت تنتقل علانية بين أصدقائه الأدباء، وان كانت ثمة شكوك حول ردود فعل المجلات السوفيتية، التي تماطلت على نحو مثير للريبة في نشر الرواية، وافصح باسترناك عن هذا الأمر صراحةً لانجيلو، ملمحاً الى المخاطر التي سيواجهها إذا رفضت المجلات السوفيتية نشر روايته. وقال لأنجليو مودعاً: “سأدعوك إلى عملية إعدامي”.
في سبتمبر 1956، أرسل باسترناك الرواية إلى إنجلترا، وفي فبراير 1957، إلى فرنسا. واثار ذلك، قلق قسم الثقافة في اللجنة المركزية للحزب الحاكم، والذي حاول بشتى الطرق عرقلة نشر الرواية في البلدين، واصفا رواية باسترناك بأنها “معادية للسوفيت”. وصدر توجيه حزبي الى مجلة “نوفي مير” برفض نشرها. بذريعة عدم ادراك المؤلف لدور ثورة أكتوبر ومشاركة المثقفين فيها.
باسترناك يتصدر لوائح الترشيح لجائزة نوبل من جديد
في 31 يناير عام 1957، تكررالأمر نفسه، حيث، اقترح عضو آخر في الأكاديمية السويدية، وهو الشاعر السويدي هاري مارتينسون، ترشيح باسترناك للجائزة. وكان هذا الشاعر قد التقى باسترناك عام 1934 في موسكو في المؤتمر التأسيسي لاتحاد الكتّاب السوفييت.
وذكر لويس مارتينيز مترجم “دكتور زيفاغو” الى الفرنسية، انه عندما كان يعيش مع البير كامو في قرية صغيرة، يقوم باطلاعه على فصول الرواية المترجمة اولا باول. وفي 8 فبراير عندما اكتملت ترجمة الرواية ناقش مع كامو امكانية ترشيح باسترناك لجائزة نوبل. وقام بريس لويس من دار نشر غاليمار بتشجيع كامو على ترشيح باسترناك للجائزة، وان ذلك سيكون افضل حماية يقدمها الغرب الى الشاعر المضطهد .
وقد وصف البير كامو – في الخطاب الذي القاه في حفل استلام جائزة نوبل في الادب لعام 1957 – باسترناك بالشاعر العظيم، وانه مثال الشجاعة والشرف، وان الفن في بعض البلدان مسألة خطرة وعمل بطولي .
في عام 1958، تم ترشيح باسترناك للجائزة من قبل خمسة أساتذة أكاديميين في آن واحد: إرنست سيمونز (جامعة كولومبيا)، هاري ليفين، ريناتو بوجيولي، رومان جاكوبسون (جامعة هارفارد) وديمتري أوبولينسكي (جامعة أكسفورد). واخيرا وقع اختيار لجنة نوبل على بوريس باسترناك، وكان ضمن المرشحين الأقوياء في هذا العام (ازرا باوند، البرتو مورافيا )اضافة الى مرشح الدولة السوفيتية ميخائيل شولوحوف .
في 23 أكتوبر 1958، أعلن أندريس أوستيرلينغ، السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية، منح جائزة نوبل في الأدب لذلك العام الى بوريس باسترناك “لإنجازاته الكبيرة في الشعر الغنائي الحديث، ومواصلته لتقاليد الرواية الملحمية الروسية العظيمة”.
وفي اليوم نفسه بعث باسترناك برفية جوابية الى أندريس أوستيرلينغ يقول فيها: “ممتن للغاية، متأثر، فخور، مندهش، مرتبك”.
توجه عدد كبير من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء العالمية الى بلدة الكتّاب “بريديلكينا” لمقابلة باسترناك. وجاء الكاتب كورني جوكوفسكي جار باسترناك وصديقه وقدّم له التهاني الحارة لهذه المناسبة. وشرب الجميع نخب الكاتب، متمنين له المزيد من النجاح. ولكن لم يمض سوى اقل من نصف ساعة حتى ساد الوجوم وجه الكاتب الفائز بأرفع جائزة أدبية. فقد جاء أحد جيرانه، وكان من الكتّاب السوفيت المشهورين في ذلك الحين (والمنسي تماما حالياً) وهو كونستانتين فيدين، وقال لباسترناك بلهجة صارمة – دون ان يهنئه بفوزه بالجائزة – وكأنه قد ضبطه بالجرم المشهود: “من اجل تجنب العواقب الوخيمة، يجب عليك رفض الجائزة طوعاً، وان (بوليكاربوف) مسؤول القسم الثقافي في اللجنة المركزية للحزب موجود الآن في منزلي ينتظر جوابك”. ولكن باسترناك رفض الحديث مع فيدين، ولم يذهب معه لمقابلة بوليكاربوف .
تظاهرة إجبارية !
وفي مساء اليوم نفسه أسرع بعض الطلاب الدارسين في معهد الأدب العالمي في موسكو – من عشاق شعر باسترناك – الى إبلاغه بأن إدارة المعهد تعد تظاهرة معادية له تخرج غدا وترفع شعارات تطالب بطرده من الاتحاد السوفيتي، ورسوم كاريكاتيرية تسخر منه. وقد ابلغتهم ادارة المعهد، إن من يتخلف عن الحضور سيجري فصله من المعهد على الفور، وعلى جميع الطلبة التوقيع على رسالة موجهة الى الصحيفة الأدبية “ليتراتورنايا غازيتا”- وهي أهم صحيفة أدبية مركزية في البلاد- تتضمن استنكار الطلاب للعمل (المشين) الذي قام به باسترناك. معظم الطلبة اختبأوا في دورات المياه، ولم يذهب الى التظاهرة الا حوالى مائة طالب اي اقل من ربع العدد الاجمالي لطلبة المعهد. وكان الشعار الرئيسي للتظاهرة: “نطالب بطرد يهوذا باسترناك من البلاد”.
وفي يوم السبت، 25 أكتوبر صدرت “الصحيفة الأدبية”، وتصدرها مقال افتتاحي طويل، ورسالة من اعضاء هيئة التحرير وعشرات الرسائل الغاضبة، التي زعمت الصحيفة أنها تلقتها من أنحاء الاتحاد السوفيتي. وهي كلها تندد بباسترناك، وتصفه بأشنع النعوت (خائن الوطن، عميل الغرب، عدو الشعب الروسي، انسان تافه، كاتب شرير) وما الى ذلك من أوصاف وشتائم تزخر بها اللغة الروسية أكثر من أي لغة أخرى في العالم .
وفي اليوم التالي اعادت كل الصحف السوفيتية نشر ما جاء في “الصحيفة الادبية” من مواد معادية لباسترناك. ومن حسن الحظ ان باسترناك لم يكن يقرأ الصحف في تلك الأيام، ولم يطلع على ما نشرته من مقالات تحريضية بحقه.
محاكمة ادبية
في السابع والعشرين من اكتوبر 1958 تقرر عقد اجتماع موسع للكتّاب السوفيت في مبنى نادي السينما حضره أبرز الكتاب السوفيت المعروفين، وذلك للنظر في قضية باسترناك. كان كل شيء معدا على نحو دقيق: من يتحدث في الاجتماع؟ وماذا يقول في اطار ادانة باسترناك. وقد وجهت الدعوة الى باسترناك نفسه لحضور الاجتماع، ولكنه علم ان الغرض من عقده هو اصدارقرار بفصله من اتحاد الكتاب. وهذا يعني حرمانه من السكن في منزله الذي تعود ملكيته الى الاتحاد، ومنعه من النشر، وحظر كتبه، أي قطع مورد رزقه، حيث كان يعيش هو وعائلته على ما يستلمه من مكافآت لقاء أعماله .
في الصباح الباكر لذلك اليوم غادر باسترناك منزله الريفي، وتوجه الى موسكو للتشاور مع ملهمته (اولغا ايفينسكايا) وصديق مقرب منهما هو الأديب والعالم الفيلولوجي فيجيسلاف ايفانوف، حول اجتماع اتحاد الكتاب، وهل ينبغي لباسترناك حضور هذا (الاجتماع – المحاكمة ) وتعريض نفسه الى سيل من الاتهامات والاهانات والتهديدات، أم الامتناع عن الحضور؟ وكان ايفانوف اول من قال انه لا يجوز حضور باسترناك هذه المحاكمة الأدبية بأي حال من الأحوال. وكان هذا رأي ايفينسكايا أيضاً. وافق باسترناك على هذا الرأي وتوجه الى غرفة اخرى في الشقة ليكتب رسالة الى سكرتير اتحاد الكتّاب السوفيت كونستانتين فورونكوف. وبعد فترة وجيزة خرج باسترناك من الغرفة وبيده رسالة موجهة الى اتحاد الكتاب السوفيت، وطلب من ايفانوف الاتصال هاتفيا بفورونكوف لإبلاغه بأن باسترناك مريض ولن يحضر الاجتماع ، وانه قد كتب رسالة الى الاتحاد سيتم ايصالها اليه في الحال. وجاء في الرسالة: “تلقيت دعوتكم وكنت عازما على الحضور، ولكنني عرفت أنه ستكون هناك تظاهرة شنيعة لذا ارفض الحضور، ولن يجبرني اي شيء على رفض شرف ان اكون الفائز بجائزة نوبل، لكنني مستعد ان اتبرع بمبلغ الجائزة الى مجلس السلم العالمي. انني لا اتوقع منكم عدلاً. يمكنكم اعدامي، او ابعادي الى الخارج، او اتخاذ اي اجراء آخر بحقي. ولكن من فضلكم لا تتسرعوا. لأن ذلك لن يضيف اليكم لا سعادةً، ولا مجداً”. وقام ايفانوف بايصال الرسالة الى الاتحاد قبل بدء الاجتماع .
تحدّث في الاجتماع عدد كبير من الأسماء المشهورة في عالم الفن والأدب، واتهموا باسترناك بأسوأ الخطايا البشرية، وبين من اتهموا باسترناك أصدقاء له بالامس، والذي حز في نفس الشاعر كثيرا. وقد برر هؤلاء، في ما بعد، موقفهم المتخاذل هذا بأن الامتناع عن انتقاد باسترناك، كان يعني فصلهم من عضوية اتحاد الكتّاب السوفيت، او حتى اعتقالهم بتهمة التضامن مع كاتب مغضوب عليه من قبل السلطة، لذا لم يجرؤ أي كاتب على التصويت ضد قرار الفصل. الكاتب الوحيد الذي رفض حضور الاجتماع هو ايليا ايرنبورغ. ففي تلك الايام، وكلما اتصل به احد، اسرع ايرنبورغ بنفسه للرد قائلا: “ايليا غريغوريفيتش خارج البيت ولن يعود قريبا” ثم يغلق الهاتف. كان هذا موقفا جريئا للغاية في ذلك الوقت.
أنا لم قرأها، ولكنني ادينها
في اليوم التالي 28 اكتوبر 1958 ظهرت “الجريدة الادبية” وعلى صدر صفحتها الاولى مانشيت ضخم: “تصرف عضو اتحاد الكتاب السوفيت بوريس باسترناك لا يتفق مع لقب الكاتب السوفيتي” وتحت المانشيت بحروف اصغر نص قرار فصل باسترناك من عضوية الاتحاد .
ثمّ عقدت اجتماعات لفروع اتحاد الكتاب في جميع انحاء البلاد، حيث ادان الكتاب باسترناك بسبب سلوكه (الغادر) الذي وضعه خارج الأدب السوفيتي وخارج المجتمع السوفيتي، رغم أن اياً منهم لم يقرأ رواية “دكتور زيفاغو”.
وجرت اجتماعات الاتهام والادانة في اماكن العمل: في المصانع والمزارع، والإدارات الحكومية، والمنظمات الجماهيرية ، والمعاهد والجامعات، تم خلالها رفع رسالة باسم الحاضرين موجهة الى الجهات العليا تطالب بمعاقية الشاعر. وكان المثقفون يسخرون من هذه الحملة بترديد عبارة تقول: “أنا ألم قرأها، ولكنني ادينها”.
وازاء هذه الحملة الشرسة والتهديد بطرده الى خارج البلاد واسقاط الجنسية السوفيتية عنه اضطر باسترناك – وهو الذي كان يعتبر نفيه الى الخارج أسوأ من الموت – إلى رفض الجائزة، وابرق الى الاكاديمية السويدية قائلاً: “أراني مضطراً إلى رفض الجائزة التي منحت لي بسبب المعنى الذي فهم من هذا المنح في المجتمع الذي أعيش فيه، أرجو ألا تحملوا رفضي على ملمح سيئ”.
ايفينسكايا تمنع باسترناك من الانتحار
ثمّ اسرع باسترناك الى مقابلة اولغا ايفينسكايا، وهو يحمل في جيبه قارورة تحوي كمية من مادة (سيانيد البوتاسيوم) تكفي لقتل شخصين، واقترح عليها الانتحار معا، وان هذا سيكون ابلغ رد على القرار المجحف لاتحاد الكتّاب، ولكن اولغا – وهي لارا بطلة رواية دكتور زيفاغو- عارضت ذلك بشدة، قائلة ان ذلك يعد هروبا لا يليق به. واستطاعت اقناعه بوجهة نظرها. ونجد اليوم العديد من الباحثين المتخصصين في ابداع باسترناك يثنون عليها، لأنها انقذت شاعرا عظيما من موت محقق. حدث كل هذا في اوج ما يسمى بفترة ذوبان الجليد ومحاربة عبادة الفرد، الا ان اساليب الأمن السري في تجنيد المخبرين للتجسس على المواطنين السوفيت وخاصة المثقفين منهم لم تتغير. كان قسطنطين فيدين – كما اسلفنا – كاتبا شهيرا وجارا لباسترناك في (بريديلكينا)، ولكن هذا لم يمنعه من رفع تقرير سري الى جهاز الأمن السري حول نية باسترناك الانتحار، مما سيؤدي الى اثارة ضجة في الغرب والحاق ضرر كبير بسمعة الاتحاد السوفيتي في الخارج .
ورغم فصل باسترناك من اتحاد الكتّاب السوفيت، الا انه ظل عضوا في صندوق التكافل التابع للاتحاد. وعلى الفور ارسل جهاز الأمن السري طبيبة متخصصة بمعالجة حالات التسمم مع كمية من الأدوية الى منزل باسترناك، وزعمت الطبيبة انها جاءت بناء على تكليف صندوق التكافل للاعتناء بصحة باسترناك. وقد صدّق الشاعر كلام الطبيبة، لأنه سبق له ابلاغ قيادة الاتحاد بأنه مريض .
شغلت الطبيبة غرفة صغيرة في المنزل، ونشأت شكوك قوية لدى افراد عائلة باسترناك حول المهمة الحقيقية للطبيبة، وهي منع الشاعر من الانتحار واسعافه عند الحاجة، وكذلك مراقبة ما يدور من احاديث داخل المنزل، وربما كانت تحمل معها جهاز تسجيل .
وكان عدد من رجال الامن السري بملابس مدنية يحيطون بالمنزل ويراقبون كل صغيرة وكبيرة وخاصة من يتردد على الشاعر من الأدباء والاصدقاء.
باسترناك ضحية الصراع الحزبي
تشير الوثائق المنشورة في روسيا مؤخرا الى ان باسترناك كان في خضم هذه الاحداث ضحية الصراع الداخلي في قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي. فقد كان الحرس القديم في الحزب يحاول حرف خروتشوف بعيداً عن النهج الليبرالي. وبايعاز من منظر الحزب ميخائيل سوسلوف – عضو المكتب السياسي – أعد القسم الايديولوجي تقريرا من 35 صفحة تتضمن اقتباسات معادية للثورة من رواية “دكتور زيفاغو” تم اختيارها بمهارة، وقد تم تقديم هذا التقرير الى اعضاء المكتب السياسي للحزب . كما نجحوا في تنظيم حملة اعلامية صاخبة تحت مسمى “السخط الشعبي” على الرواية ومؤلفها، مع ان احدا سواء داخل الحزب او خارجه لم يقرأ الرواية. وعلى هذا النحو تم جعل باسترناك وروايته لعبة سياسية داخل البلاد وخارجها. كان الغرب اكثر ذكاءً من النظام السوفيتي، لانه بدا اكثر انسانية كمدافع عن الشاعر المضطهد. اما النظام الذي حظر الرواية فقد كان اشبه بمحاكم التفتيش في القرون الوسطى. ولكن البيروقراطية الحزبية لم تهتم بما تبدو عليه البلاد في نظر الرأي العام العالمي، فقد كانت بأمس الحاجة الى البقاء في السلطة. وكان هذا ممكنا مع الاختلاق المستمر لاعداء السلطة السوفيتية.
حملة عالمية دفاعا عن باسترناك
بينما كان باسترناك هدفا لحملة شرسة وواسعة تستهدف النيل منه وتشويه سمعته تمهيدا لإسقاط الجنسية السوفيتية عنه ونفيه الى خارج البلاد، كان ابرز الأدباء في العالم يشيدون به وبمنجزه الابداعي وشجاعته، بينهم عدد كبير من الحاصلين على جائزة نوبل في الأدب (برتراند راسل، فرانسوا مورياك، البير كامو، اندريه موروا، جون شتاينبك، بيرل باك، بابلو نيرودا، توماس اليوت) ومئات الكتّاب والشعراء والفلاسفة المعروفين الآخرين، منهم (سومرست موم، غراهام جرين، ألدوس هكسلي، جارلز سنو، هوارد فاست). وقد انضم لحملة الدفاع عن باسترناك رئيس الوزراء الهندي، جواهر لال نهرو، حيث اتصل هاتفيا بالزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف طالبا منه ايقاف الحملة على باسترناك وعدم اسقاط الجنسية السوفيتية عنه، كما كلّف السفير الهندي في موسكو بالاتصال بالسلطات السوفيتية وابلاغها، ان الحملة على باسترناك تسيء الى سمعة الاتحاد السوفيتي. وكان لموقف الزعيم الهندي – الذي كان يحظى بإحترام كبير لدى خروتشوف – الأثر الحاسم في تخلي النظام السوفيتي عن فكرة طرد باسترناك الى خارج البلاد .
عودة “دكتور زيفاغو” الى القارئ الروسي
بعد ثلاثين عاما من الحظر، نشرت رواية “دكتور زيفاغو” عام 1988 في أهم مجلة أدبية روسية وهي مجلة “نوفي مير – العالم الجديد”، مما سمح للجنة نوبل بأن تعتبر رفض باسترناك للجائزة قسريا وباطلاً. وفي صيف ذلك العام ارسلت اكاديمية العلوم السويدية دبلوم جائزة بوريس باسترناك الى موسكو عن طريق الشاعر اندريه فوزنيسينسكي – الذي كان مدعوا الى السويد لالقاء قصائده امام عشاق الأدب – كما تم تسليم الميدالية الى الابن الأكبر لباسترناك، يفغيني باسترناك، في احتفال مهيب جرى في ستوكهولم عام 1889.
واليوم يحتل باسترناك مكانة رفيعة في الأدب الروسي، حيث تصدر طبعات جديدة من مؤلفاته الكاملة، وتقام له تماثيل، وتنشأ متاحف في الأماكن التي عاش فيها، وتنشر عشرات الكتب عن سيرته الحياتية والإبداعية، وعن ذكريات المقربين منه، وثمة عشرات الباحثين المتخصصين في ادب باسترناك في الجامعات الروسية. لقد عاد الشاعر العظيم الى القارئ الروسي مكللا بالمجد الأدبي والأخلاقي، ومثالا للصمود امام عواصف الزمن الرديء.