هل تستطيع الانتخابات العامة المقبلة في بريطانيا حلّ أزمة البريكست؟

   

لم تشهد بريطانيا في تاريخها الطويل أزمة مماثلة لأزمة البريكست التي أثارها قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي، بموجب استفتاء شعبي أجري في 23 يونيو/حزيران 2016. إنها الأزمة التي مزقت شمل الشعب البريطاني، وبثت الانقسام في مجلس العموم البريطاني، وأدت إلى استقالة رئيسة الوزراء تريزا مي التي فشلت في إقناع البرلمان بالموافقة على اتفاق البريكست، الذي توصلت إلى إبرامه مع المفاوض الأوروبي بعد سنتين من المباحثات، فلم تجد بدا من طلب تمديد مهلة، وهو ما أثار استياء مؤيدي خروج بريطانيا من الاتحاد.

جونسون في مواجهة البرلمان

بعد استقالة تريزا مي، استلم مقاليد الحكم في يوم 24 يوليو/تموز 2019 عمدة لندن ووزير الخارجية السابق بوريس جونسون، السياسي القوي والمعروف منذ سنوات طويلة بمعارضته بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وكان أحد رواد حملة البريكست عام 2016. وها هو اليوم يعود إلى الواجهة، ليكمل مشروعا بدأه قبل سنوات وعجزت زميلته تريزا مي من حزب المحافظين عن تحقيقه. بوريس جونسون دخل المعركة السياسية بكل قوة، متخذا ما أمكنه من إجراءات، بما في ذلك إجراء تعليق عمل البرلمان لمدة أطول من اللازم. الإجراء اعتبر غير قانوني، ما أدى إلى تدخل القضاء لإبطاله.
بوريس جونسون استلم السلطة وهو مصمم على إخراج بريطانيا من الاتحاد مع نهاية المهلة الجديدة المحددة بـ31 أكتوبر/تشرين الأول بصفقة أو بغير صفقة مهما كانت النتائج. ورغم قوة شخصيته وإصراره على خروج بريطانيا من الاتحاد بكل الوسائل، وكل الإجراءات التي اتخذها للحد من تأثير البرلمان، فقد باءت محاولاته بالفشل، ولم يستطع الوفاء بتعهده بإخراج بريطانيا مع نهاية شهر أكتوبر، حيث أرغم البرلمان جونسون على طلب مهلة جديدة. وهكذا يثبت البرلمان البريطاني أنه يبقى أعلى كيان حكومي، تتعدى سلطته سلطة الهيئة التنفيذية المتمثلة في رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة.

حملة انتخابية بوعود مغرية

بعد تصويت البرلمان البريطاني لصالح إجراء انتخابات عامة مبكرة في 12 ديسمبر/كانون الأول المقبل، بدأت الأحزاب البريطانية حملتها الانتخابية بوعود كبيرة. رئيس الوزراء بوريس جونسون يبدأ حملته الانتخابية بزيارة المستشفيات، في وقت يعاني فيه قطاع الصحة البريطاني من مشاكل كبيرة، كانخفاض نسبة الأطباء (0.7%) والممرضين (0.2%) حسب إحصائيات 2017 مع تسجيل ارتفاع عدد المرضى. بوريس جونسن يبدأ حملته الانتخابية بالتعهد بمنح قطاع الصحة 350 مليون جنيه أسبوعيا، ويعد أيضا بزيادة تمويل المدارس، وتوظيف مزيد من رجال الشرطة، في وقت تعاني فيه بريطانيا من ارتفاع نسبة الإجرام وتزايد خطر الإرهاب.

حزب العمال بزعامة جيرمي كوربن يتعهد باستثمار 400 بليون جنيه لمواجهة مشاكل الحرمان وتغير المناخ، ويعد بإعادة بناء الخدمات العامة، ومكافحة الفساد، وملاحقة المتهربين من دفع الضرائب، وإلغاء المدارس الخاصة، وحماية قطاع الصحة، الذي قال عنه إنه «ليس للبيع» في إشارة إلى مساعي فتحه للاستثمار الأمريكي بعد البريكست.

حزب الديمقراطيين الأحرار يتعهد بـ35 ساعة من رعاية الأطفال المجانية لمن هم 9 أشهر أو أكثر، فضلا عن سياسته الجريئة الداعية إلى إلغاء البريكست كلية في حال فوزه بالانتخابات، مؤكدا على لسان زعيمته سويندون أنّه بالإمكان توفير 50 مليار جنيه في ظرف خمس سنوات لفائدة الخدمات العامة.
الحزب الوطني الاسكتلندي من جهته، يبدأ حملته الانتخابية بالتأكيد على حق اسكتلندا في الاستقلال، مؤكدا أن اسكتلندا ستكون في وضع أفضل كبلد مستقل وعضو في الاتحاد الأوروبي.

انتخابات يطبعها البريكست

وعلى عكس الانتخابات العامة الماضية، التي كانت برامج الأحزاب الاقتصادية والاجتماعية تلعب دورا كبيرا في تحديد الحزب الفائز، فإن اقتراع 12 ديسمبر ستهيمن عليه مسألة البريكست. إنها الانتخابات الوحيدة في سجل تاريخ هذا البلد التي قد يصوت فيها الناخب ضد حزبه المفضل بكل بساطة، لأن سياسة حزبه الخاصة بالبريكست تتعارض مع رغبته ومصلحته. ومن مميزات موعد 12 ديسمبر أيضا مقارنة بمواعيد الانتخابات العامة السابقة تسجيل دخول حزب جديد في صراع التنافس على المقاعد البرلمانية يتمثل في حزب البريكست. فمع أنّ هذا الحزب جديد، تم تأسيسه في شهر يناير/كانون الثاني 2019، إلاّ أنه تمكن خلال وقت قياسي من تحقيق شعبية واسعة في المجتمع البريطاني، محققا نتائج باهرة خلال انتخابات البرلمان الأوروبي على حساب حزب المحافظين الحاكم، بزعامة رئيسة الوزراء السابقة تريزا مي وحزب العمال، أكبر أحزاب المعارضة. حزب البريكست يدعو إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي واستعادة السيادة المطلقة، ما جعله يعارض كل اتفاق مع الاتحاد، بدعوى أنه لا يحرر بريطانيا من التبعية إلى الاتحاد. رئيس الحزب نايجل فاراج سارع منذ البداية إلى دعوة بوريس إلى التحالف معه، مؤكداً أنه لا توجد إلا طريقة واحدة لحل أزمة البريكست وهي، تحالف أنصار المغادرة، لكنه اشترط أن يتخلى بوريس جونسون عن اتفاقه مع الاتحاد الأوروبي. بوريس جونسون لم يتأخر في رفض اقتراح التحالف المشروط بالتخلي عن صفقته مع الاتحاد.

انتخابات تكتيكية

الطابع التكتيكي، من خلال مبادرات العمل المشترك والتكتل بين الأحزاب، سيكون من السمات البارزة لانتخابات 12 ديسمبر. فها هي الأحزاب المؤيدة لبقاء بريطانيا في الاتحاد تتفق على التحالف للتغلب على مؤيدي البريكست، وذلك بالتخلي عن التنافس على المقاعد التي يرجح أن يفوز بها أحد هذه الأحزاب. يشارك في تحالف البقاء حزب الديمقراطيين الأحرار الذي يتعهد بإلغاء المادة 50 ووقف البريكست، وحزب بليد كومري وحزب الخضر. تحالف أنصار بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، يكشف النقاب عن سعيه لانتزاع 60 مقعدًا من مقاعد المحافظين، حيث تتآمر الأحزاب في محاولة يائسة لمنع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، عن طريق زيادة عدد النواب المؤيدين للاتحاد الأوروبي في البرلمان.

من جهته يرفض حزب المحافظين بزعامة بوريس جونسون، التحالف مع حزب البريكست، الذي يستطيع أن يكون منافسا عنيدا له في هذه الانتخابات. بوريس جونسون، الذي دعا إلى هذه الانتخابات بإلحاح، بعدما أبرزت نتائج سبر الآراء تقدمه على منافسه في المعارضة جيرمي كوربن، يراهن على فوز معتبر يسمح له بكسب أغلبية برلمانية تمكنه من حسم أزمة البريكست في يناير 2020. جونسون يتعهد بتنفيذ صفقة الخروج قبل نهاية المهلة الحالية في شهر يناير، ويعد أيضا بالتفاوض على اتفاقية للتجارة الحرة مع الكتلة الأوروبية، فضلا عن صفقات تجارية مع شركاء آخرين مثل الولايات المتحدة. لكن الأمر لا يبدو بهذه السهولة وقد تهب الرياح بما لا تشتهي الحكومة البريطانية. فحزب البريكست توعد بالتنافس على كل المقاعد، مصرا على أن صفقة بوريس جونسون أسوأ من بقاء بريطانيا في الاتحاد، قبل أن يتراجع ويقرر عدم التنافس على 317 مقعد في حوزة المحافظين. والأحزاب المؤيدة لبقاء بريطانيا في الاتحاد يرجح أن تحصل من جهتها على عدد معتبر من المقاعد في مجتمع كان وما زال منقسما في مسألة البريكست. برامج أحزاب المعارضة ستثير من جهتها اهتمام الرأي العام على منوال موقف حزب الديمقراطيين الأحرار الداعي إلى إلغاء البريكست، وأيضا الموقف الرسمي لأكبر أحزاب المعارضة، حزب العمال، الذي توعد بالتفاوض على اتفاقية جديدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في غضون ثلاثة أشهر، يخضع بعد ذلك لاستفتاء شعبي مع خيار البقاء في الاتحاد، خلال ستة أشهر من استلامه السلطة. مع ذلك قد يخسر هذا الحزب كثيرا من المقاعد لعدم وضوح سياسته المتعلقة بالبريكست وتردده في دعم استفتاء آخر.

واليوم مع انطلاق الحملة الانتخابية وقرب موعد 12 ديسمبر، يبقى التساؤل: هل ستُمكِّن هذه الانتخابات بوريس جونسون من الحصول على غالبية تسمح له أخيرا بتنفيذ البريكست كما يأمل؟ وهل سيحل البرلمان المقبل أزمة البريكست التي عجز عن حسمها البرلمان السابق؟ المهمة لا تبدو سهلة على الإطلاق وسط هذه الظروف التي تعيشها بريطانيا، والتي تتميز باستمرار انقسام المجتمع بين مؤيد ومعارض وحتى انقسام مؤيدي البريكست الذي يجسده الصراع بين حزب البريكست وحزب المحافظين الحاكم، ومخاوف البريطانيين من عواقب الخروج من اتحاد يرتبط به الاقتصاد البريطاني ارتباطا وثيقا منذ القرن الماضي. فشل البرلمان المقبل في حل أزمة البريكست، لن يدع لبريطانيا خيارا آخر عدا اللجوء إلى الاستفتاء، وإحالة القرار إلى الشعب البريطاني بعد عجز السياسيين المتكرر عن حسم القضية.

اترك رد