“الواسطة”، أو الوجه الظاهر للأموال المنهوبة

د. شربل داغر

لطالما كتبتُ ان المجتمع الأهلي أقوى وأفعل وأنشط من الدولة في لبنان. هذا ما كان يمكن ملاحظته في السابق، كما اليوم، في قطاعات المهن الحرة، في المطعم والفندق والمصرف والمستشفى وصولا إلى الجامعة الخاصة…

ومن يتابع الحراك الجاري يتحقق من فعالية هذا الخطاب على جمهور واسع من اللبنانيين، فيما بات الخطاب “الرسمي” والحاكم كالحا، وتبدو عليه قسمات الشيخوخة المترهلة.

كما يتحقق من أن فعالية الخطاب “المقاوم” تتضاءل، هي الأخرى، مثلما تتساقط “لعبة” إعلامه السابقة، مثل لغة التخوين، و”تحريك” السفارات للمحتشِدين، أو “أمركة” أي تحرك وغيرها من الحجج التي باتت بالية مثل ورق تشرين الاصفر.

هذا المد الشعبي المتنامي يكشف أن القوى الحاكمة لم يعد لديها – بعد أن نهبت ما نهبته من مال وقوة في هذا الشعب – ما تعطيه، ما توزعه على جماهيرها… “السابقة”.

استوقفني، في كثير من صرخات المحتشدين، كيف أنهم كشفوا اشتغال النظام السابق وفق إدارة القوى الحاكمة: تريد أن تنتسب إلى الجامعة اللبنانية، عليك ان تطلب جواز مرور من هذا الزعيم او ذاك… واذا ذهبت من تلقاء نفسك الى ادارة التسجيل فسيتكفل هذا الموظف او ذاك بسؤالك عن “الواسطة”، أي عن جواز القبول، وبإعادتك الى الزعيم…

لهذا يمكن القول فاض طلب الناس عما كانت هذه القوى توزعه من “فتات” تملكِها وتحكمِها لهذا القسم او ذاك من موارد البلد.

ولهذا فإن شعار: استعادة الأموال المنهوبة يبقى الشعار الأكثر جذبا وفعالية في الحراك، إذ إنه يعكس يقظة المحرومين فعلا، ليس من مالهم وحسب بل من كرامتهم ايضا.

ويعني ان ما كانوا يلتقطونه من “فتات” هو الوجه الظاهر لعمليات السرقات المنتظمة.

استعادة الاموال المنهوبة هو شعار من يتحقق، اليوم، من جردة الحساب المؤلمة: عليه ألا يفقر فقط، وأن يجد الهجرة فقط ملاذا له، بل أن يدفع مجددا مستحقات بقاء هذه القوى في سدة الحكم.

إلا أن السؤال يبقى: كيف لهذا المد الأهلي ان يصبح مدا مدنيا؟ اي كيف يصبح مدا سياسيا وحرا؟

فما يجري، اليوم، في ساحات لبنان، يستجمع حاصل احتشادات سابقة، ويراكم وعيا ومواقف مدنية متعاظمة… الا انه يحتاج الى وقت، الى تجارب، الى اختبارات، بما يجعله يتبلور في تشكلات سياسية: تشكلات لا تدار في أقبية الاستخبارات، ولا في صفقات زعماء فيما بينهم، ولا في لعبة الواسطة المعطلة لقوة اللبناني ولكفاءته…

يحتاج إلى ما يجعل اللبناني مديرا لحياته، باحثا عن مصلحة عامة ووطنية تجمعه بهذا وذاك ومن غير فئة اجتماعية وطائفة. ويحتاج إلى أن يطلب من القانون، ومن المسؤول، ما كان يطلبه في “الواسطة”.

اترك رد