إبراهيم النجار(**)
1 – مشروع كبير
في عالم كثر فيه المال وشح فيه الأمل، وعلا فيه ضجيج السلاح، وخفتَ صوت العقل، يأتينا كتاب ناصيف نصار النور والمعنى: تأملات على ضفاف الأمل[1]؛ مشعلاً ينير ظلمات الحيرة السائدة، ويفتح الطرق المسدودة، ويشرع الأبواب الموصدة أمام نور التفكر، مسدداً الخطى إلى رحاب الفكر المستنير بنور القيم الكونية العليا، رافعة الإنسان إلى الإبداع الحقيقي؛ الفكر الذي يعطي الحياة معنى يجل عن الإسفاف، ويبعد من الإرهاب، ويضع العلوم والتكنولوجيا – كما الفلسفة والسياسة والتربية والتعليم – أمام واجباتها في صيانة نِعم الخالق والحفاظ على وزناته، التي ضمنها خليقته لتحيا بكرامة وعدالة، بلا خوف من الزوال والانقراض.
يأتي هذا الكتاب – عقب كتب أخرى كثيرة كتبها نصار – على طريق الاستقلال الفلسفي مذ تفتحت أنامله على كتابة الفلسفة مطلع شبابه. هذا الكتاب مشروع كبير يدعو فيه المؤلف إلى التأمل في معنى الوجود ومعنى الحياة على إيقاع الأفكار التي يجول في رحابها وفي ميادينها المشرَّعة على الكون وخالقه. كما يدعو إلى التأدب إلى درجة التعبُّد في فهم خلق الله للموجودات كلها، ومعرفة كنهها ومراتبها وغاياتها وأسرارها، لا طمعاً في استغلال مواردها والاستفادة من خيراتها، بل أملاً في وضعها في سياق الخلق الذي أوجدت فيه. ويرى أنه من دون هذا السياق الخلقي والإبداعي المتحوِّل تاريخاً مؤنسناً، يجد الإنسان نفسه واقفاً أمام مفترق طرق مخيف لم تعرف له البشرية مثيلاً من قبل في تاريخها. إن الله الخالق القدير، أوجد الكون ووهب الإنسان الحياة وأعطاه القدرة على حفظها وتجديدها والتسامي بها نحو القيم الكونية العليا. ولكن الله سبحانه أعطى الإنسان أيضاً، وبنفس الوقت الذي أعطاه فيه روح الخلق والتسامي، روح الجبروت والاستكبار وحب العظمة. ولكن روح الجبروت هذا لا يمثل روح الإنسان كله، إلا أنه يهدده بالانقسام على نفسه والانحراف عن مساره الطبيعي من البقاء إلى الانقراض. ولكن نصار يلتزم جادة الأمل والإيمان والثقة بأن الإنسان، ذلك الطاقة الروحية الخلاقة هو الشبل ابن الأسد، يختلف عن سائر المخلوقات بوعيه وفكره وعقله. فهو يعرف أن الله خالقه، وبالتالي أنه جزء من الطاقة الكونية العظمى، وأنه يرى النور العظيم الذي في تلك الطاقة. وهكذا لن ينجرف الإنسان إلى الهوة التي يجره إليها ذلك الجبروت، بل سيكمل مسيرته في تاريخ أنسنته حتى النهاية.
بكلام آخر، لا يؤمن نصار بمبدأ الاستسلام للقوة الغاشمة مهما تعاظمت وتجبرت، ولإغراءات العصر مهما كثرت وتنوعت. والحق يقال، إن إغراءات العصر، كثيرة ومتنوعة؛ منها الدعوة إلى سلخ الفرد عن مجتمعه وإنسانيته، بتعظيم معنى الحرية الفردية وبتصويب جهوده نحو اللذة والمتعة الفردية، بعيداً من أي مسعى لأنسنته والمشاركة في صنع الحياة واستمراريتها. ومن تلك الإغراءات أيضاً الجهود العلمية الجامحة والرامية إلى التعديل الجيني في النبات والحيوان والإنسان، وصولاً إلى صناعة الإنسان الآلي، وصناعة الإنسان المعدل جينياً، وصناعة الإنسان المعدل اصطناعياً؛ ناهيك بتطوير أسلحة الدمار الشامل الفتاكة، بعيداً من وجود سياسة واضحة وثابتة للحد من مخاطر هذه الجهود. وعلى الرغم من شدة وطأة تلك الإغراءات وجاذبيتها، إلا أن لدى الإنسان من المناعة وقوة الشكيمة ونور الطاقة الروحية، المستمدة من الطاقة الكونية الفائقة القوة، كل ما يحتاج إليه لمقاومة تلك الإغراءات والانتصار عليها. والإنسان الذي يعي قيمة الحياة ويفهم مدى عظمتها، كهدية الخالق له، يعرف جيداً أن الحياة ليست لعبة ذات قواعد تعسفية واعتباطية «وإنما هي مغامرة التأنسن العظيم، في تفتح الطاقة الكونية إشعاعاً من المطلق» (ص 397). ويعتقد نصار بأن ذلك الإنسان المؤنسن، أي الإنسان الذي يكون اختباره الشخصي أو خبرته الشخصية للحياة كاملة ومتكاملة، ويعيش إنسانيته بهدي المثل العليا، سيستعين بالفلسفة ليتصدى «بنقد صارم، لكيفية بناء الاستراتيجيات الخاصة بالمكونات الجماعية للأسرة البشرية وكيفية انعكاس منظومة القيم الكونية العليا في مرايا تلك الاستراتيجيات» (ص 397).
إن كتاب نصار هو محاولة فلسفية نقدية بامتياز لتعريف القارئ بالخالق والكون والحياة والقيم الكونية العليا، التي على الإنسان أن يستنير بها ويحيا بهديها. كما هو دفاع كامل ومتكامل عن تلك المحاولة. دفاع ينبع ذاتياً من تأمل المؤلف في معنى الحياة، حياته هو كشخص وكاختبار شخصي. كما هو تأمل في معنى الحياة لكل «أنا» وكل «نحن»، شاملاً كل النواحي الضرورية لإثبات رؤيته وأفكاره. وفي دفاعه عن أفكاره، أجرى المؤلف نقاشاً مستفيضاً مع كبار الفلاسفة في العالم، مسترشداً بآرائهم ومفنداً لها، ثم مبتعداً منها بما فيه الكفاية، ليوضح نظرته الفلسفية إلى الحياة والوجود. وهي، في نظري، نظرية إبداعية بامتياز. منها ذخر للفكر العربي وتاريخه المجيد، كما هي هدية ثمينة للفكر الفلسفي العالمي. إنها نظرية تنتظر من يبحثها ويحللها وينتقدها وينشرها لتنير دياجير الزوايا الفكرية في العالم. وإنني على يقين من أن في البيئة الفكرية اللبنانية والعربية من الفلاسفة والمفكرين من هو جدير بهذا الإرث وقادر على حمل المشعل ومتابعة الطريق.
2 – الأنا ومعنى الحياة
إن قمة التحدي التي يطرحها نصار تستدعي الإجابة، إذ يقول: «إن إعطاء الحياة شيء وإعطاء الحياة معنى شي آخر. فإذا كان من معاني الحياة إعطاء الحياة، فذلك يعني أن سياسة المعنى منفتحة، من داخل الحياة الشخصية، على ما يتعداها من مستويات الحياة، حتى المستوى الميتافيزيقي منها» (ص 75). (التشديد مضاف) فهذه الـ«إذا كان من معاني الحياة، إعطاء الحياة»، تتضمن بالأحرى السؤال أولاً: هل من معاني الحياة، إعطاء الحياة بالضرورة؟ وبكلام مرادف، يطرح نصار، وعلى عدة مستويات، السؤال مدوياً ومجلجلاً، متحدياً به القاصي والداني ومطالباً بمعرفة الإجابة عن ذلك السؤال. ويمكن، وللأهمية، إعادة طرح السؤال، لا على المستوى البيولوجي فقط، وإنما على المستوى الأخلاقي أو الأكسيولوجي: هل من ضمن مسؤولية الـ«أنا» أن تهتم أو أن تشغل نفسها باستمرارية الحياة ضرورة؟ وبصورة أخرى: هل من ضمن مسؤولياتي الشخصية أنا أن اهتم بالمحافظة على حياتي وعلى استمراريتها؟ ويمكن طرح السؤال على المستوى الميتافيزيقي: هل تكتمل خبرتي الشخصية أو اختباري الشخصي في الحياة من دون اختبار فعل الخلق الممنوح لي من الحياة والخالق ذي الطاقة الكونية العظمى؟ إن الإجابة مطلوبة عن تلك الأسئلة المتعددة المستويات، ولا يمكن التنصل من الإجابة عنها إما نفياً وإما إيجاباً. في كلا الحالين، يجب تقديم التعليل المناسب. ونصار، قد قدم إجابته: إيجاباً وتعليلاً. فهل تصمد إجابته أمام التحليل والتدقيق والحفر الفلسفي؟ إجابتي الصريحة هي نعم. إنها صامدة بشموخ. وأتطلع بحماسة لمناقشة آراء الآخرين عنها بكل مودة ومحبة.
يرفض الكثير من الفلاسفة، وبخاصة من المدارس التحليلية، الخوض في غمار هذه المعمعة، قائلاً: «مالي ومال هذه الكأس». فغاية مُناي هي أن أعمل في تحليل القضايا وصنوفها، وأستخدم لغة رياضية منطقية تكون خاضعة لمبدأ الصح والخطأ، ولا أريد أن أدخل في متاهات ميتافيزيقية لا يمكن الخروج منها. فعندما يقول أحد «أنا أحيا»، فيمكن ترجمة هذه الجملة الحملية المركبة إلى جمل فردية ذرية، أي لا يمكن تحليلها إلى جمل أخرى، مثل «أنا أتنفس»، «أنا أمشي»، «أنا أشرب»، «أنا أفكر»… إلخ. وكل جملة يمكن أن تكون صحاً أو خطأ. ولكن «أنا أحيا» بمعزل عن سلسلة هذه الجمل أو ما شابهها، ليست بذات معنى محدد. يتقبل نصار هذا المنحى في ما يخص معنى الحياة بوجه عام، إذ يقول: «قد لا يكون بوسعنا أن نعرف شيئاً مؤكداً عن الغاية القصوى لظاهرة الحياة في الكون، وربما كان السؤال عن الغاية القصوى من الأسئلة التي لا طاقة للعقل الميتافيزيقي عليها إلا افتراضاً» (ص 18).
لكن نصار لا يقف عند هذا الحد، بل يتابع تأملاته؛ فيلاحظ أن هناك كائنات حية على الأرض، ومن بينها النوع البشري، الذي يحمل صفات يتفرد بها، منها الطاقة الفكرية وما يستتبعها. من هذا المنطلق، يطرح نصار السؤال عن: معنى الحياة في قولي «أنا أحيا»، أي من منظار حياتي الشخصية أو الاختبار الشخصي. فيقول: «يكون المعنى متقوماً، بالدرجة الأولى، في الغاية المسوغة للاستمرار في الحياة وكيفية صناعتها، وهو ما يسمى أحياناً معنى المعاني أو منتهى المعنى» (ص 18) (التشديد مضاف). لا شيء، إذاً، في نظره، يمنع من طرح السؤال حول معنى «حياتي الشخصية» أو معنى الحياة فيّ أنا أو معنى حياتي. ولماذا لا يمكن، أو لا يجوز، لنا أن نطرح مثل هذا السؤال؟ ومذ متى كانت الفلسفة تخاف، أو ترعوي، عن طرح أسئلة مثل هذه أو بحجمها؟
من هذا المنطلق، يثير نصار معنى الوجود الشخصي أو الاختبار الشخصي الذي يمكن التعبير عنه بجملة «أنا أحيا». ويستخدم في هذا المسعى أسلوب التحليل ومنهج الحفر والتأويل، معتمداً على الاستقراء المقارن ومبتعداً من تقديم الأقاويل البرهانية، يقيناً منه بأن المادة الفلسفية التي يعالجها لا تحتاج، ولا تقبل، مثل هذه البراهين للإقناع. وإنما تحتاج إلى حجج منطقية علمية وعقلانية تدعمها الخبرة الذاتية والتحليلات الفلسفية. وهكذا تنطلق رحلة كتاب النور والمعنى من هذه الجملة «أنا أحيا». فما هي هذه الجملة؟ وهنا يقف نصار في مواجهة صريحة مع الفلسفة التحليلية، قائلاً إنها جملة حملية قابلة لأن تكون صحاً أو خطأ، بصرف النظر عن إمكان تحللها إلى جمل حملية ذرية أخرى. ولا بد لها من أن تكون صحاً حين استخدمها أو انطق بها. والبرهان على ذلك هو أني أتنفس وأكتب وأرى وأسمع وما إلى ذلك، فكيف لي أن أقوم بهذه الأفعال وأنا لا أحيا أو في ظل لا «أنا أحيا». ففي غياب القدرة على القيام بتلك الأفعال، تكون الجملة خطأ. ويستحيل على شخص ميت أن يقول «أنا أحيا» أو «أنا ميت» حتى. وإذا أمعنّا النظر جيداً، نرى أن جملة «أنا أحيا» تحمل قيمة منطقية، حقيقة لا خطأ، بينما جملة «أنا ميت» لا تحمل معنى مشابهاً، وبالتالي ليست جملة حملية، مثل «هو ميت». وربما كانت الجملة «أنا أحيا» صحاً، وبالضرورة كذلك. ولكن لا يريد نصار أن يتوقف عند بحث منطق هذه الجملة، إنما عند معناها؛ فيشير إلى أن «الحياة حامل «لأنا» ومحمول على «أنا»، لا بمعنى مطلق، ولكن بمعنى وجوديّ خاص يتقرر بموجبه أن الحياة في الكائن البشري تظهر في شكل «أنا»، وتدرك نفسها بوصفها «أنا»، وتعبِّر عن نفسها بوصفها «أنا»، وتتحرك بوصفها «أنا»» (ص 22). (التشديد مضاف). ولا شك في أن هذه «الأنا» تدرك أن الحياة لا تتجمع كلها أو تصب كلها فيها. فالحياة أشبه بنهر يروي كل «أنا» أو كل «الأنوات» الأخرى ولا ينضب إلا إذا امتنعت كل الأنوات في العالم من تكثير ذاتها والاستمرار في العيش، على مدى عدة أجيال، ولا يخالها نصار تتعدى ستة أو سبعة أجيال حتى تنقرض البشرية عن وجه البسيطة (ص 46)؛ أي أن هذه الحياة العظيمة التي «أنا» جزء منها، هي أيضاً جزء من «أنا». إذاً، الحياة هي صانعتي وأنا قادر على صناعتها. ولو كنت الوحيد في العالم، كما تقول الفردية المطلقة، لما كان هناك حياة إنسانية أصلاً أو لانتهت بموت تلك «الأنا». إذاً، من الضروري الاعتقاد بوجود «أنوات أخرى» وبضرورة استمرارها وتفاعلها بعضها مع بعض لتستمر الحياة. يشدد نصار على هذه الحقيقة التي لا بد من التسليم بها تسليماً يقينياً. فيقول: «إن ربط الـ«أنا» بالحياة على هذا النحو، ينبغي أن يتأسس على فهم لموقع الـ«أنا» ومكانتها في الحياة؛ فهمٌ يتجاوز الشكلانية ويكشف عن أن الـ«أنا» كائن مليء بطاقة الحياة وقواها المختلفة، وحامل بهذا الاعتبار لحقيقتين لا يخلو منهما أي تجسيد عيني له، وهما أن الـ«أنا» صنيعة الحياة من جهة، وصانعة للحياة، من جهة أخرى» (ص 24).
وهناك حقيقة أخرى تضاف إلى هاتين الحقيقتين، وهي أن سائر الكائنات الحية تتوالد وتتكاثر غريزياً وطبيعياً، وبالتالي لا خوف عليها من الانقراض، ولا تكون مهددة بالانقراض، إلا اذا توافرت عوامل خارجية تهددها وتقود بها إلى الانقراض، كما حصل مع الديناصورات. ولكن الإنسان يختلف عن كل تلك الحيوانات بكونه يعي تلك الحقيقة ويعلم أيضاً يقينياً أنه في إمكانه أن يضع حداً نهائياً للحياة الإنسانية بيده. إن حياة الإنسان مهددة بالمخاطر الكونية، ويمكن لأي كارثة كونية معادية للحياة أن تقضي على الكائنات الحية كلها، ومن بينها الإنسان، مثل ارتفاع معدلات ثاني أوكسيد الكربون؛ وبالتالي ارتفاع معدلات حرارة الغطاء الجوي إلى درجة قاتلة وقاضية، وربما تكون من صنع البشر ومن نتاج صناعاتهم المختلفة، أو من نتاج انفجار كوني هائل. ولكن انقراض الإنسانية ربما يأتي أيضاً نتيجة إرادة الإنسان لقتل الحياة على شاكلة مبدأ أبو علاء المعري، مرفوعاً على الإطلاق أي شاملاً لكل إنسان (هذا جناه أبي عليّ/وما جنيت على أحد). ربما يرى المعرّيون أن الحياة بلية دهماء ومصيبة عمياء، لا لزوم لها.
ولكن نصار يعتقد أن هذه النظرة شديدة التشاؤمية إلى درجة قاتلة، ولا حاجة إليها؛ فعلى الرغم من كل مصائب الحياة ومشاكلها وصعوباتها، تبقى الحياة، وهذا هو الأهم، هدية الخالق وعطيته، فلا بد من الحفاظ عليها وتنميتها. وعلى الإنسان تقع المسؤولية الأخلاقية للحفاظ على الحياة، من ناحية، وعلى استمراريتها، من ناحية أخرى، في جو عائلي مبني على المحبة والود والتربية الصالحة والتعليم الجيد. المعصية الكبرى، في نظره، هي قتل النفس، متسبباً في انقراض الجنس البشري. ولا يستطيع قارئ كتاب نصار فهم فداحة هذه المعصية من دون فهم نظريته في تكوين الكون وخلق الله تعالى لذلك الكون، التي سأتطرّق إليها لاحقاً. أما في هذا السياق، فيجب التأكيد أن نصار يعتقد أن جملة «أنا أحيا» تعني أن الحياة تحيا فيّ وتجري في عروقي، كما تعني أيضاً «أنا أريد أن أحيا» وأن في استطاعتي أن أعمل ما أريده، أي أن أصنع الحياة أو لا أصنعها (ص 26). وهذه الإرادة هي إرادة واعية مصاحبة لوعي الـ«أنا» لأنا أحيا. وهكذا «أنا أحيا» و«أنا أريد أن أحيا» هما عمليتان متلازمتان أو وجهان لعملة واحدة. والإرادة تعني الحرية. فكما أختار أن أحيا وأحافظ على حياتي وأهتم بها وأريدها أن تستمر، كذلك قد يرى غيري عكس ذلك ولا يرى ضرورة للاهتمام بحياته ولا للمحافظة عليها ولا لاستمراريتها. وهذا ليس موقفاً أخلاقياً فحسب، وإنما هو موقف وجودي أنطولوجي قبل كونه أخلاقياً.
هنا أتوقف لأجيب عن الأسئلة التي أثرتها سابقاً. نرى أن نصار يعتقد أن من معنى الحياة إعطاء الحياة، أي توريث الحياة. إن هذا التوريث «هو أخطر قرار يتخذه الفرد في اقتصاد المعنى، ألا وهو إعطاء الحياة في صورة فرد آخر، يقول، هو أيضاً، أنا». ثم دراسة ظاهرة التناسل ضرورية من جميع النواحي، منها البيولوجية والاقتصادية والقانونية، ولكنها لا تغني عن «مقاربتها الفلسفية التي تكشف عن الأساس العميق الذي يجعل من ظاهرة التناسل قضية، أعني الأساس الذي يستحق الانتباه والرعاية قبل أي شيء آخر يقوم عليه أو ينتج منه، أي إعطاء الحياة على قانون الأنا». (ص 47)، ولكن ليس الإعطاء ضرورة منطقية أو فرضاً ضرورياً. الاستنتاج الضروري، هو إمكان أو احتمال إعطاء الحياة، إذ قد يكون الشخص مصاباً بالعجز الجنسي أو البيولوجي أو بمرض عضال، فلا يستطيع إعطاء الحياة أو الإنجاب. ولكن في السواد الأعظم من البشر، عندما يبلغ أو يكتمل الإنسان، يصبح باستطاعته إعطاء الحياة بيولوجياً وطبيعياً. فهل هناك واجب أخلاقي يحتم على الفرد أو على كل فرد إعطاء الحياة؟ هنا يجيب نصار بصراحة. ليس إعطاء الحياة حقاً أو واجباً مطلقاً في كل حالة، فهناك حالات، سيتم بحثها لاحقاً، لا يتولد معها هذا الحق أو الواجب. إن «أنا أحيا» تتلازم مع «أنا أريد». الإرادة حرية مطلقة، فيمكن أن تختار ما تريد: إما إعطاء الحياة وإما لا. فواجب إعطاء الحياة هو مقولة أخلاقية وليس مقولة منطقية. وأظن أن نصار يميل، وأنا أوافقه تماماً، إلى الاعتقاد بأسبقية وأفضلية اختيار إرادة الحياة. لذا يقول إنه يجب علينا «أن نجرأ على القول، بصوت عال: هنا يكمن المعنى، ومن هنا يجب الانطلاق» (التشديد مضاف) (ص 47). ولكن لا يبرز إلى العلن الفرض الأخلاقي على شخص ما يلزمه بقبول الحياة وصنع الحياة إلا في حالات خاصة: كأن تكون، مثلاً، أسرة حاكمة أو غيرها مهددة بالانقراض أو في حالة تهددت البشرية كلها بالاندثار، فعندها لا يجوز مطلقاً عدم اختيار الحياة واستمراريتها، وإن يكن في وسع المرء عدم الاختيار. إن اختيار الحياة موقف يؤكد تواضع الإنسان وتقبله، برضى، نعمة الحياة كهدية من الخالق الأعظم، كما تعبر عن شكر الإنسان لخالقه بالقبول بالاشتراك معه في صناعة الحياة واستمراريتها.
يعي نصار أهمية هذا العمل الخلّاق، وجودياً وبيولوجياً وأخلاقياً، ويعزوه «للروح الخلّاق» في الإنسان. ولكنه يعلم جيداً أيضاً أن فعل الخلق الإنساني ليس حقاً مطلقاً، كما أنه ليس واجباً مطلقاً على أي «أنا» فردية. فهناك حالات، صحية مثلاً، لا يجوز معها الخلق الإنساني مطلقاً، ويقع على عاتق المجتمع التدخل لمنعها، حتى ولو شاءت إرادة الفرد الذاتية ذلك. كما أن هناك حالات لا تقود إلى صناعة الحياة، ويذكر نصار منها العجز الجنسي والانحلال (ص 46) والانحراف والتغير والتبدل الجنسي أو الرفض أو الامتناع عن الاشتراك في صناعة الحياة واستمراريتها عن سابق قصد وتصور. فهذه حالات وجدت في المجتمع على مدى التاريخ، ويتفهم نصار وجودها. وليست هي حالات غير معقولة، ما دام أن وجود الحياة نفسها ظهر كاحتمال من ضمن ملايين الاحتمالات، كما يتبين من الخارطة الجينية. وهذه الاحتمالات كلها تزيد الحياة السوية الحاصلة عظمة وتؤكد روعتها وجماليتها، رغم هشاشتها وظرفيتها، وهذا ما يجعل الحفاظ عليها وعلى استمراريتها عملية دقيقة وصعبة وشائكة. ولا أدَل على ذلك من رهبة عملية الولادة التي تمر بها كل عائلة مع كل مولود جديد. إن معنى المعاني، كما ذكرت سابقاً، بحسب نصار، يتمثل بإرادة الحياة. والتحدي الكبير هو هل يقبل الإنسان هدية الحياة ويسهم في الحفاظ عليها وعلى استمراريتها، أم ينحرها ويرجو انقراضها، كما فعل أبو العلاء المعري؟ لكن من الواضح أن نحر شخص ما لحياته أو حياتها، وربما من الأفضل أن نستخدم كلمة أقل مأسوية من ‹نحر› فنقول ‹هدر›. إن هدر الحياة سدى، من فرد أو مجموعة من الأفراد، لن يقود إلى انقراض البشرية، لأنه يبقى كثر من الناس الذين يؤمنون بأن الحياة نعمة ويهللون لها ويفرحون باستمرارها. كما أن فعل عدم الاشتراك في صناعتها، لا يجدر أن يتم في مأسوية معرّية مفرطة. صحيح أن الحياة لم تهب المعرّي حاسة النظر، ولكنها وهبته موهبة الشعر، وهي من أجمل مواهب الطبيعة. فليس من المناسب أن يرد الإنسان جميل الحياة بسيئة مقيتة. إن الموقف المناسب من الحياة، في نظر نصّار، هو تقبّلها بفرح مع إرادة التسامي والارتفاع بها حتى الكمال، والعيش مع الآخرين وفق القيم الكونية العليا. إن حب الحياة وحب الآخرين هما من هبات الله ونعمه، ويجب تقديم الشكر عنهما.
الشكر، في نظر نصار، كما يبدو لي، لا يأخذ بالضرورة منحى دينياً، وإن تكن هناك أديان كثيرة تشدد عليه، بل يتجلى فلسفياً في إرادة الإنسان قبول الحياة والمحافظة عليها والمشاركة في استمراريتها. وما إرادة الحياة سوى إرادة التعالي والتسامي نحو الله خالق الحياة. ولكن كيف يكون ذلك؟ تبدأ حركة التعالي في الإنسان مع الوعي بأهمية الحياة وروعتها وهشاشتها. ثم تتطور إلى الوعي بالآخرين وأهميتهم في الوجود واستمراريته. «ففي حركة التعالي، لا بد من أن يكون ثمة متعالٍ في الحياة تتجه الـ«أنا» بتعاليها نحوه أو في فضائه، من دون أن يتعين عليها أن تتخلى عن أي مقوم من مقوماتها. فما هو المتعالي الذي تتجه الحياة إليه عبر الـ«أنا» بوصفها صنيعة وصانعة الحياة؟» (ص 29) الجواب هو «المتعالي الأكسيولوجي، أي منظومة القيم الكونية العليا» (ص 29). ويعطي نصار أمثلة على تلك القيم؛ مثل العدل والسلام والمساواة والإبداع والمحبة وما إلى ذلك. ولكن السؤال لا يتوقف عند الحد الأكسيولوجي، ولا بد من أن يتخطاه ليقود إلى السؤال عن أسس تلك القيم. فيقول «لا بد في النهاية من تأسيس الحياة المبدعة في الـ«أنا» في مطلق الوجود (أو الوجود المطلق أي الله)» (التشديد مضاف) (ص 29). إن الاجابة عن نزعة الإنسان إلى التعالي يجب أن تقود في النهاية إلى بحث الوجود وأصله، وهذا ما يقود إلى نظرية نصار عن وجود الله أو الوجود المطلق، التي سأبحثها لاحقاً. بمعنى آخر، ليس عند نصار أنصاف حلول في الفلسفة. فإذا ما سمح الإنسان لنفسه بالسؤال عن معنى حياته، فلا بد له من طرح أسئلة أخرى حول إرادة الحياة وإرادة التسامي، ومن ثم إلى طرح السؤال حول أصل الحياة ووجود الله.
3 – الأبعاد الثلاثة لنظرية الوجود والمعنى
هناك ثلاثة أبعاد في نظرية نصار إلى الوجود متلازمة ظرفياً مع أحادية ثابتة ومطلقة وسرمدية. فما هي هذه الأبعاد؟ يرى نصار أن البعد الأول هو «الأنا» أي الفرد والشخص، والبعد الثاني هو «النحن» أي المجتمع والبشرية، والبعد الثالث هو الله، الوجود المطلق. ويريد نصار أن يقدم نظريته ضمن الوضعية العلمية السائدة، أي ضمن إطار ما يطرحه العلم المعاصر من نظريات. فلن يقدم طرحاً لا يقبله العلم المختص بذلك الطرح. فلن يقول، مثلاً، إن الإنسان أو النوع البشري لم ينشأ ولم يتطور، كما تقول نظرية الخلق، من العدم، بل يقف إلى جانب داروين وأتباعه في علوم الأحياء والبيولوجيا حول هذا الموضوع. ولن يخالف رأي علماء الفيزياء الحديثة كأن يوافق أفلوطين، مثلاً، في نظرية الفيض، كما فعل الفارابي وغيره الكثيرون من فلاسفة القرون الوسطى، بل يقول مع الفيزياء الحديثة أو فيزياء الكوانتم إن العالم نشأ من جراء الانفجار العظيم (Big Bang) لذرة متناهية في الحجم وعظيمة في الكثافة وذات طاقة فائقة القوة. ومن ثم يتنفس الصعداء ويأخذ راحته في تقديم نظريته عن الوجود. فيناقش أبعادها عالمياً، متبادلاً الأفكار ومحاوراً كبار فلاسفة العالم قديماً وحديثاً، ليدفع عن نظريته كل الاعتراضات والاتهامات لتكون متناسقة ومتناغمة، بعيدة من كل تناقض فلسفي أو اعتراض علمي. ويحرص شديد الحرص على تقديمها واضحة كي يفهمها ويستوعبها كل من يسعى إلى ذلك. وإنها، في نظري، نظرية إبداعية، تقف راسخة على أرض فلسفية صلبة، وواضحة في التاريخ الحضاري، وتقدم تفسيراً للوجود متناسقاً ومعقولاً. ويمكن دحضها، أي أنها تقبل احتمال أن تكون خطأ غير صحيحة، إذا لزم الأمر، كما يفترض كارل بوبر عن النظريات العلمية. وهذا جل ما يطلبه العقل الفلسفي لأي نظرية علمية وفلسفية عن الوجود.
لن أثقل على القارئ ببحث نظرية نصار مفصلاً في هذه الدراسة، إذ لا بد للقارئ من أن يقرأ الكتاب ويستفيد من النظريات المطروحة فيه. ولكنني أشير إلى أهمية تحليله لمعنى الحياة المشتق من «أنا أحيا»، الذي يصب في الاختبار الشخصي للإنسان أو تاريخه الشخصي أو خبرته العملية الخاصة. وجوهر الاختبار الشخصي هو الكفاح أو الجهاد من أجل «البقاء والنمو والتقدم» (ص 51). والكفاح لا يكون كفاحاً من أجل الكفاح، بل من أجل تحقيق غاية ما، منها الانبساط والانشراح واللذة وتحقيق الرغائب والميول والأحلام التي يسعى ويطمح إليها الإنسان. وكم أتمنى أن أضع دراسة لنظرية نصار عن الكفاح والميل والرغبة والانبساط في نطاق نظريته للمجتمع والكون والوجود المطلق. كما أترك المجال للقارئ كي يعرف بنفسه تفاصيل رؤية نصار للمجتمع المنفتح وكيف يقوم على مبدأ الوحدة في التنوع ومبدأ حقوق الإنسان وكيف يسمح لكل مكونات المجتمع أن تسعى وتكافح من أجل الارتقاء نحو الكمال والاكتمال والانسجام والسلام من خلال التسامي الأكسيولوجي والقيم الكونية. ولا بد من أن يتابع القارئ الكاتب في محاوراته مع كارل بوبر وتشارلز تيلور وغيرهما في مسألة المجتمع المنفتح، ومع نيتشه عندما يبرهن أن التعالي ليس تعالياً نحو الإنسان الأعلى «الأوبرمانش»، الإنسان المتميّز عن الآخرين بقوته وترفعه وتجبره عليهم، إنما هو نزعة تعالوية نحو القيم الكونية المبنية على المساواة بين جميع البشر، تلك المساواة التي وضعتها الحياة في جبلتهم بمقتضى الطاقة الكونية التي أنزلها الخالق المطلق الوجود في الحياة.
كما يحاور نصار هايدغر وسارتر في معنى الكينونة والماهية والوجود والأنسنة (Socialization) والإنسانوية (Humanism)؛ فيختلف عنهما ويقول بأن الكينونة ليست موجودة هكذا ومتروكة للتوجد (لفعل الدازين)، وفق ترجمة فتحي المسكيني للدازين (ص 230).
«إن قوام ماهية الإنسان أن الإنسان أكثر من الإنسان وحده»، وهذا ما يسميه نصار «رهان التوجد» (ص 235). وهذا التوجد يرهن أو يربط «معنى الإنسان بمعنى الكينونة» (ص 236). ويقر هايدغر بهذا الأفق العليوي في الإنسان المرتبط بالكينونة، ولكنه يميز نفسه عن وجودية سارتر التي تربط الإنسان بالكينونة وتحدده بها. هنا يُظهر لنا نصار تفضيله تفسير هايدغر، رغم أنه لا يجده مقنعاً تماماً، وأترك للقارئ المجال للعودة إلى كتاب نصار وفهم موقفه، وبخاصة في الأقسام أو الفقرات من 119 وما يليها إلى 122. وما أود الإشارة إليه هنا، أن ما هو فوقيّ في الإنسان، في نظر نصار، إنما هو نزعة التعالي، التي سبق وتحدثت عنها، وليس هناك أي فعل آخر غير فعل الإيجاد يمكن أن يعبر عن تلك النزعة، رغم أهمية تلك الأفعال: مثل الاندهاش والتساؤل والوعي وغيرها. الفعل الأهم لديه هو الإيجاد. «وذلك لأن الإيجاد إعطاء الوجود، فهو أعظم من كل خاصّية تدل على ارتفاع الإنسان فوق الواقع، أو على ارتفاعه بنفسه نحو واقع جديد» (ص 239 – 240) فكيف يرتبط فعل الإيجاد بالكينونة، وكيف يلزم منه إعادة تحديد معنى الكينونة؟ يربط نصار بعبقرية فذة وضربة فيلسوف متمرس الكينونة بفعل الإيجاد ويقول إن الكينونة حصلت أو أتت إلى الوجود بفعل خلق الله، أي بفعل إيجاد الله للعالم، كما سنرى لاحقاً. هكذا يصل نصار إلى الاستنتاج بأن هكذية الكينونة هي من ومرتبطة بهكذية الوجود المطلق. ولا مناص من تقديم تفسير لهكذية الوجود (ص 358). ولا يستقيم التفسير بناء على الصدفة، لأن الصدفة إنما تكون في عالم الكينونة ولا تنطبق على الوجود ذاته. فيجب أن يقوم التفسير على تقديم توضيح لأصل الوجود. ولا يستوي هذا التوضيح إلا مع القول بأن أصل وجود الكون هو الطاقة الكونية المطلقة، أي الله ذو الوجود المطلق. وهذا القول ليس قولاً بسيطاً، وإنما يحمل في طياته عظمة الطاقة الكونية التي أوجدت الوجود العيني. فالوجود ليس متروكاً هكذا «داشر بلا صاحب» للحيرة وللصدفة وللعدمية، كما يتضح من كلام هايدغر والوجودية. إن كينونة الوجود أتت من الله، وبالتالي فإن الكينونة مملوءة بالطاقة الكونية. ويجب أن تنعكس معرفة الكون والوجود المطلق في نظرتنا إلى الإنسان ونزعته إلى التعالي، التي هي مركزية في نظرتنا إلى الإنسان والإنسانوية والأنسنة والمجتمع والحضارة والتاريخ الإنساني.
لا يقدم نصار هذه النظريات من دون حجج وأدلة مقنعة. وهو يرى أن البحث عن هذه النظريات ضروري لمقتضيات استكمال معنى الاختبار الشخصي. أي أنه في نظره لا يكون وجود الإنسان على الأرض مكتملاً أو قد بلغ كماله من دون البحث عن تلك القضايا. قد يجاري كثر نصار في دعوته إلى اعتبار معنى الاختبار الشخصي يتضمن السعي لمعرفة أصل الأنا ومعرفة المجتمع الذي تظهر فيه ومعرفة الوجود، وصولاً إلى معرفة وجود الله، تمثلاً بما جرى مع حي بن يقظان، إذ تطورت معرفته لتشمل نفسه والعالم ثم وجود الله. ولكن هناك من يقول إن كبار فلاسفة القرن العشرين، وبخاصة التحليليون منهم، قد رفضوا إضفاء أهمية فلسفية على السعي لمعرفة معنى الحياة وحتى معرفة معنى حياتي وتسخيف البحث عن أصل الوجود. فمن يكون هذا الذي يتجرأ على طرح مخالف لسادة الفكر في العالم؟ لا أريد أن أقلل من شأن كبار سادة الفكر في العالم أو من تأثيرهم في الدوائر الدراسية الفلسفية. ولكن في الوقت نفسه، لا أجد من المفيد رمي المولود مع ماء غسيله. فالسؤال الذي يطرحه نصار عن معنى وجودي أنا ومعنى وجود الكون سؤال طبيعي ومعقول. ويجب ألّا يغيب عن ذهننا أن الفلسفة منذ نشأتها وتأسيسها على يد طاليس، الذي كان للمناسبة من مواليد صور الفينيقية ويمكن اعتباره كنصار من الديار اللبنانية المرمية على أطراف الفلسفة، قد دعا إلى اعتبار أصل الوجود والبحث عن ماهية ذلك الأصل. ولا تلغي محاولة سقراط التركيز على الإنسان ونفسه، ضرورة مواصلة عمل طاليس لمعرفة أصل الوجود. وهذا ما يسعى نصار إليه، مضيفاً أن معرفة كهذه هي أساسية بل ضرورية لاستكمال معنى الاختبار الشخصي. من هذا المنطلق، لا مناص من السعي لمعرفة أصل الحياة والوجود للوصول إلى معرفتي الشخصية لمعنى حياتي إلى أعلى درجات كمالها. ولا يغير في صوابية هذا السعي أو يحط من قيمته كون فلاسفة كبار وعلماء عظماء رفضوا الخوض في غماره، لا بل حرموه. كما تجدر الإضافة أن العلاقة بين المفكر والمفكر والفيلسوف والفيلسوف ليست علاقة سيادة، ولم تكن يوماً هكذا، بل علاقة مشاركة في رؤية وتوجه لاكتشاف الحقيقة. ولنا في أرسطو خير شاهد على ذلك. لقد اختلف أرسطو عن معلمه أفلاطون في التعبير عن نظرته إلى العالم والوجود والله، معتبراً أن حبه لمعلمه كبير، ولكن حبه للحقيقة أكبر وأجل. لا يلزم، إذن، من كون نصار فيلسوفاً من لبنان، ذلك البلد الصغير المثقل بجراح الحروب وحراب الطامعين، والبعيد من مراكز الثقل والإبداع في عالم الفكر والعلم والفلسفة، أن يخضع للأوامر أو التوجيهات الفلسفية التي تصدر عن «الأبواب العليا» ويُمنع عن طرح أسئلة مثل: ما معنى حياتي؟ وما معنى أن أكون حياً؟ وبما أختلف عن الأموات؟ وهل لحياتي نفس المعنى، أي هكذا لا شيء وبلا معنى، تماماً كما لو كنت لم أحيا أو لا أحيا؟
بكل تواضع، أنا أشارك نصار الرأي أنه من المستحب والضروري أن يبحث الإنسان في معنى وجوده. وأعتقد أن الفلسفة تبقى فاشلة وهابطة إذا لم تقد في النهاية إلى بحث معنى وجودي أنا على هذه البسيطة. كما أوافقه في رحلته الاستكشافية الوجودية، من بدايتها إلى نهايتها، إذ كيف لي أن أفهم معنى وجودي كاملاً من دون أن أفهم معنى الحياة التي تتدفق في عروقي؟ وكيف لي أن أفهم هذا المعنى من دون أن أتعجب من سر الحياة وألغازها ورقتها وهشاشتها، ومن دون أن يصيبني الذهول من جراء عجائبية الكون الكبرى، التي تتمثل بكمالية وظائف الحياة المتشابكة مع بعضها البعض في كل مدهش، في كون مذهل؟
****
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 472 في حزيران/يونيو 2018.
(**) إبراهيم النجار: أكاديمي وباحث، حائز شهادة دكتوراه في الفلسفة من جامعة تورنتو – كندا.
البريد الإلكتروني: najjaribrahim@yahoo.ca
[1] ناصيف نصار، النور والمعنى: تأملات على ضفاف الأمل (بيروت: دار الطليعة، 2018).