بروميثيوس وبيتهوفن

اعتمدت النهضة الأوروبيّة فيما اعتمدت عليه على الفكر والفلسفة والأدب الكلاسيكيّ اليونانيّ والرّومانيّ القديمين، ولم تكن أوروبا تستطيع أن تتخلّى عن تخلّف العصور الوسطى وظلامها لولا تحرر الرّوح الأوروبيّة واستنارتها بالفكر الإسلاميّ الماديّ عند ابن رشد وابن سينا والبيرونيّ وسواهم ، واستلهام الموروث الإبداعيّ اليونانيّ والرّومانيّ وبخاصّة الأساطير، وكان أن ظهر أثر ذلك في الفنون السّبعة وهي : الموسيقى والشّعر والغناء والرّقص والرّسم والنّحت والتّمثيل.

وبالنسبة للموسيقى فقد كانت الأساطير المتناثرة بغزارة في ملاحم اليونانيّين والرّومانيّين وأشعارهم ومسرحياتهم مادّة خصبة وموحية لكبار الموسيقيين الأوروبين فابدعوا جرّاءها أعمالا موسيقية من أوبرا وقصيد سيمفوني ولوحات غنائية ومتتابعات راقصة للباليه وغيرها.

ويكفي للتّدليل على ذلك ما سجله الدكتور ثروت عكاشة في ختام ترجمته كتاب ” مسخ الكائنات ” للشّاعر الرّوماني أوفيد من أعمال موسيقيّة لكبار الموسيقيّين بلغت خمسين عملًا مستوحًى فقط من كتاب أوفيد المذكور، وأوفيد شاعر رومانيّ فرد فماذا يقال إذن عن الأعمال الموسيقيّة المستوحاة من شعراء غيره ، ومن الملاحم والمسرحيّات اليونانيّة وهي الأصل.

ومن خلال تصفّح عاجل ، ونظرة سريعة في دائرة المعارف الموسيقيّة يمكن إحصاء العديد من أسماء الموسيقيّين الذين استمدّوا مواضيعهم من الأساطير الرّومانيّة/ اليونانيّة وعلى رأس هؤلاء بالطّبع بيتهوفن، وهو كما يعرف الجميع ذو عبقريّة فذّة محيّرة ومدهشة، أدهش النّاس وحيّرهم في زمانه ولا يزال يدهشهم ويحيّرهم وسيظلّ إلى آخر الدّهر.

واذا قيل عن سقراط الحكيم إنّه أنزل الفلسفة من السّماء فانّ بتهوفن العظيم رفع الموسيقى من الأرض إلى السّماء مزاحمًا آلهة الفنون ورباتها في جبل الأولمب ، وقمة بارناسوس الشّامخة!

ومن جملة أعمال بتهوفن التي لها صلة بالأساطير اليونانيّة متتابعة للباليه تدعى (مخلوفات بروميثيوس) وأخرى تدعى (خرائب أثينا) وهذه مشاهد وأشعار مغنّاة.

بروميثيوس

ولمّا كان من الشّخصيّات المركزيّة في العمل الأول فلا بدّ بداية من إلقاء الضوء علية، فهو إله يوناني امتاز بالتّروّي ، وفاق جميع آلهة اليونان بالمكر والدّهاء، وفي إحدى تامّلاته خطر له أن يخلق شيئًا ما فقبض قبضتين من تراب ، وعجنهما بماء المطر ، وسوّاهما بشرًاً سويّاً من ذكر وأنثى على صورة إله! على حين خلق الحيوان مكبّاً بوجهه على الأرض، أو زاحفاً لا يطالع سواها، بينما خلق الإنسان مشرئبّاً متطلّعًا بوجهه إلى السّماء.. وبعد عمليّة الخلق هذه صعد بروميثيوس إلى السّماء ، واقتحم قرص الشّمس ، وأوقد منها شعلة ، وهبط بها الى الأرض هدية للبشر كأفضل ما ينتفع به الإنسان. وهي خير من الفراء والرّيش والقوّة والرّشاقة والسّرعة التي في الحيوان وهكذا:

صارَ للإنسانِ ذي العمرِ القصيرْ

شعلةُ النّارِ ومنها يستعيرْ

قوّةً تُغني عن الضّعف الحقيرْ

وبها أضحى قويًا

يصنع الشّيء الكثيرْ

ولمّا نمى خبر سرقة النّار إلى (زيوس) كبير الآلهة استشاط غضبًا، وحكم على بروميثيوس بأن يجعله هرمس ابن زيوس الحميم ورسوله الكريم مقيّدًا، ويربطه إلى صخرة في قمّة جبل شامخ لا تصلها قدم إنسان.

وكان يأتيه نسر كلّ يوم فيبقر بطنه، وينهش كبده ، وهذه تنمو كلّ ليلة من جديد، وهكذا قرابة ثلاثين أو (ثلاثين ألف سنة) حتى أتاه هركليس قاتل أسد نيميا وهايدرا ليرنيا ذات الرّؤوس التّسعة! فرقّ له ، وقطع بسيفه الصّارم الصّقيل قيود بروميثيوس الفولاذيّة وأطلقه

وبالنّسبة لعناصر المتتابعة تلك فإنها تبدأ بمقدمة موسيقيّة ذات ارتعاش غريب يمثّل عاصفة من الغضب في جوّ من المطاردة والهرب.. وفي المشهد الأول يدخل بروميثيوس راكضًا باتجاه الغابة التي جرت فيها معجزة الخلق، فينظر إلى مخلوقية:

تمثالين من صلصال جامدين، فما أن يلمسهما بنار السّماء حتّى يدبّ في جسديهما نبض الحياة والحركة! ويبدو أن عمليّة الخلق هذه قد أرهقت بروميثيوس ، واستنزفت قواه فاعترى رقصته الإعياء الشّديد حتّى هوى مرتطمًا بصخرة.. ولكنه لم يلبث حتّى استعاد قواه ، وهبّ فرحًا بما صنعه.. وراح يتأمّل مخلوقية أو ولديه بإعجاب ، ولكنّه بعد فحص وجدهما خِلْوًا من العقل والشّعور، متراخيين وقد سقطا تحت شجرة وبعد فترة اعترتهما نهضة ، فأخذا يدوران حول ذاتيهما في رقصة سمجة، وينظران إلى بروميثيوس خالقهما نظرات وجلة ومعادية.. ثمّ حاولا الهرب ذعرًا، فأمسك بهما بروميثيوس وذهب بهما بعيدًا..

بيتهوفن

وفي المشهد الثّاني يُرى الإله أبولو على قمّة جبل برناسيوس، ومن حولة ربّات الفنون والإلاهات المانحات الفتنة والجمال، وعدد من آلهة الفنانين.. يدخل بروميثيوس بولديه / مخلوقيه..رجل وامرأة آملاً أن يبدي أبولو رغبة في إرشادهما وذريتهما للعلم والفنّ وهكذا كان.. وعزفت موسيقى راقصة أثّرت في الكائنين البشريّين فتجاوبا مع سحر ما يسمعان وروعة ما يشاهدان من آلهة وطبيعة جذّابة ومناظر خلّابة!!

ويدبّ فيهما الوعي الممزوج بتجاوب شعوري راقص مفعم بالإثارة والمرح: وعندما يتحقّقان من بارئهما يندفعان إليه، ويضمانه إليهما بشغف وحبّ شديدين.

وتتوالى المشاهد الرّاقصة من المجموعة، ويبرز من خلالها مشهد المعاناة الإنسانيّة مجسّداً برقصة الحرب وبادواتها من خناجر مشحوذة وسيوف مصقولة.. ويكون القتل والموت حقيقة مُرُة، وقدراً حتمياً لا مفرّ للإنسان منه.

وكان نموذج القتل بان قامت إلهة التّراجيديا ” مبلوميني” ذات القناع المأساويّ والحذائين الجلديين الطويلين بمغافلة بروميثيوس وطعنه حتى الموت، لأن إلها يخلق بشرًا ويعرّضهم في حياتهم للمآسي والشّقاء ثمّ للموت والفناء يستاهل القتل!!

ولكن بروميثيوس لا يموت، بل يعود إلى الحياة، وهنا تبدأ رقصة ريفيّة شبيهة برقصة الفلّاحين في سيمفونية بيتهوفن السّادسة تشارك فيها ملبوميني ومن معها وهم يرتدون الأقنعة أمام المخلوقين البشريين الباكيين والمذهولين لرؤية ما حدث.

وتستمرّ مشاهد المتتابعة ويكون ختامها ” روندو” كالذي استعملة بيتهوفن في التّنويعات من مدوّن 35 للبيانو، وكالذي استعملة أيضًا بعد سنين أساسا لخاتمة السّيمفونية الثالثة ( البطوليّة).

إنّ متتابعة ” مخلوقات بروميثيوس” لبيتهوفن بما فيها من رموز وإشارات كافية للتّدليل على أنّ الأساطير هي مصادر الإبداع ومنابع الإمتاع. وهل كانت تلك النّار عند بروميثيوس العملاق غير تلك النّار المتاجّجة بين جوانح بيتهوفن الخلاّق!؟ وإذا كان بروميثيوس غافل زيوس وسرق النّار فانّ بتهوفن لم يغافل إلهة الفنون وربّاتها ويسرق الموسيقى..بل أهداهم الموسيقى، فوضعوها فوق قمّة الأولمب. وإذا كان هركليس أسطورة ، وهو البطل الذي فكّ بروميثيوس ، وحرّره من قيوده فإنّ كونشيرتو الإمبراطور والسيمفونيّة الثّالثة يقولان لا إمبراطور ولا بطل غير بيتهوفن صاحب ” أنشودة الى الفرح” أعني السّيمفونيّة التّاسعة وهي نشيد كلّ الأمم.

إنّني أعتقد أنّ الأساطير هي إحدى رافعات الأمم والشّعوب من وهدة الجفاف الرّوحيّ وهاوية التّصحّر النّفسيّ.. وأنّ الأمّة التي لا تستوحي مراتع طفولتها ومرابع صباها هي أمّة تسير حثيثًا إلى الشّيخوخة ثمّ إلى الضّعف والاضمحلال. فبدون نبض الأساطير وخفقها الأخضر المثير لا يكون للأمة بعث من رقدتها أو نهوض من عثرتها، واعتبر بذلك في حال الأمم القويّة في الشّرق والغرب وحال الأمّة العربيّة بجناحها المهيض ووضعها المريض كيف نزلت دون الأمم من القمم إلى الحضيض!!

اترك رد