بقلم: الباحثة ضحى عبد الرؤوف المل
يتأدلج مفهوم الاستشراق الفني في العصر الحديث. فتظهر النتائج الاستقرائية معكوسة بحيث يزداد الوعي الفني في ترجمة الحركات الاستشراقية التي رصدت التراثيات والعادات الشرقية وغيرها.
إلا أن المخيلة الغربية أسرتها الحكايا المشرقية وروح الجمال الأنثوي الغامض في ما مضى، واستطاعت الاحتفاظ بتراثها الفني المشرقي الذي سجلت من خلاله موروثات فنية لا يستهان بها. إلا أن الفن هو الفن كمفهوم جمالي، إن استشراقياً أو غيره. لاننا نتأمل العناصر والموتيفات والأسلوب كإبداع فني يستحق التصفيق له، وكمنظور تشكيلي له أصوله ومفاهيمه وله حكاياه المرسومة من قبل المستشرقين الذين سمعوا عن الشرق أو زاروه واستوطنوا فيه، فكانت لوحاتهم بمثابة الكنوز التي كانت مخبوءة، واستطاعوا إظهارها بكل البهاء والجمال . إلا أن أعمالهم الفنية، في بعض الأحيان، حملت مفاهيم معرفية مبالغاً فيها عن الشرق وسحره الآسر للجمال المشرقي، وللحياة العربية بشكلها العام.
نبصر في لوحات المستشرقين التشكيلية الاسقاطات الحكائية الموروثة عن الشرق مع الحفاظ على المعالم الشرقية الحقيقية أو المتخيلة، مما يترك للفكرة ذاتية خاصة تحيل الانطباعات إلى تعبيرات مختلفة الاشكال، والألوان التي تتجسد في لوحات نتأملها بصمت ذهني نتحاور من خلاله مع التفاصيل الاستشراقية. كما في لوحة “ايفيلين واترسن ” ( evelyn watherston) ومعاني اللون الأحمر الغارق بصفة غرائبية ميزت البورتريه بدقة تصويرية لها انفعالاتها الخاصة من حيث اللون والشكل، والثيمة الشخصية للوحة.
تشكيل تصويري تخيلي أو واقعي، لكنه يحمل مواضيع شرقية منسوجة مع الألوان بديناميكية رومانسية هادئة لا تخلو من انفعالات، أحياناً، إن في فن البورتريه أو المنظر الطبيعي الحي أو الطبيعي الصامت، أو البيئة الحياتية مع الفلوكلوريات والتراثيات، وتقديم نماذج البناء الشرقي وفقا للسمات العميقة المعنى والحاملة لروح العصر كما في لوحة “إدوارد شافلت” ( edouard verschaffelt) المتوازنة لونيا والمشرقة باللون الأبيض والظل الانعكاسي مع الحفاظ على النسيج الشرقي لأسواق قديمة تحمل نفحة شعبية لا تخلو من مشهدية مسرحية واقعية في رؤاها التأليفية ، فهل حاول المستشرق المقارنة بين العادات الشرقية والغربية ؟ أم حاول إظهار ثقافة فنية ذات تقنية تجمع بين المفاهيم الشرقية والغربية، وفق الأسلوب الممسوح بفن استشراقي تبعا للتحولات المكانية والزمانية والمنظومة التشكيلية المتلائمة استشراقيا؟
رؤية استشراقية
تكشف الرؤية الفنية الاستشراقية عن أشكال ومضامين شرقية تنهل من الازياء والمنمنمات مقاربات تشكيلية منطقية تؤثر بالذوق العام، وتمنح الإحساس بالخيال والرومانسية، والأحلام المرتبطة بالقصص الخرافية، للتمكن من فرض تأثيرات تؤدي إلى جمع نقاط تصويرية، تحمل في ظواهراها ما يتوق إلى رؤيته الإنسان الغربي، وما يريد تخليده الرسام المستشرق التشكيلي في لوحته التي تخاطب النماذج الشرقية بمرونة إبداعية قائمة على الوصف والسرد، مع المحافظة على القواعد الفنية من أبعاد ومنظور، وهندسة، وتقنية لونية تمنح اللوحة ظاهرة فنية ذات انعكاسات فكرية توحي بخصائص ميثولوجية تحمل مؤشرات مشرقية، كما في لوحة الحارس للفنان ” كينيث نويل افري” (Kenneth newell avery )، وهي لوحة تأويلية حيث يظهر الجمل رمز الصحراء، وكأنه رفيق الرجل الشرقي في ترحاله واستقراره ووجوده ضمن صحراء ترابية تلاعب الفنان بدرجاتها الضوئية، ليعانق الظل زواياها الممتدة مع الألوان الحالمة، والضبابية اللونية المنسكبة افقياً، ليخلق من الانعكاسات تضادات هي بمثابة نقاط جذب جمالية ذات معايير حسية، تجعلنا ندرك قيمة المعاني الفنية المتغلغلة داخل كل لوحة انطباعية تأثيرية أو واقعية درامية أو تجريدية بانورامية، تشكلت حسب مقتضيات الرؤية المشرقية التي تأثر بها الرسام بموضوعية واقعية أو رومانسية، فهل استطاع الفنان التشكيلي الغربي إظهار ثقافة الشرق وعاداته وتاريخه من خلال ما رسمه من لوحات فنية؟.
لغة تشكيلية استشراقية في لوحات متعددة . تحمل معانيها إيديولوجيات مختلفة من هندسة عمارة وتراثيات ذات جمالية معمارية توحي بكنائس الشرق، وجمال خطوطها العمودية والأفقية المتداخلة، والمتميزة بنظمها التشكيلية وأنماطها الشرقية المتوارثة من عصر إلى عصر تبعاً بالمكان ومفهومه التراثي، كما في لوحة “روجر مارسيل ليموز”( roger marcel limouse) ذات الألوان الباردة والهادئة، والخطوط المرنة المتناقضة في أبعادها وجمالية رؤيتها الفنية ، فهي تحمل الطابع التصويري لمكان مطرز بفن عمارة ديني يشع بالهدوء والقدسية المسيحية على وجه الخصوص معتمداً على التسطيح، والهندسة، والتضاد ، فالخطوط البنائية توحي بالبساطة وبحضارة قديمة ظاهرة من خلال الاسلوب في بناء الكنائس في الشرق وما تتميز به من بنية جمالية.
حركة معاكسة
تخترق لوحات الفن الاستشراقي منطق الحركة المعاكسة، لمفهومين غربي وشرقي، وكأن الفن الاستشراقي هو تسجيل أو أرشفة الآثار والمعالم الشرقية، مع خلق تأثيرات جمالية تؤكد على مضمون القصص، والحكاية المقروءة عن الشرق وسحره كألف ليلة وليلة ، والراسخة في أذهان الفنانين الغربيين والمستشرقيين. إلا أن بعضها حمل انطباعات واقعية صادقة، وبعضها الآخر كان تخيلات وتهيؤات واهمة مبنية على فرضيات محكية ئأو مرويات تعاقبت على الأجيال تباعاً، وتركت آثارها على الصور الذهنية التي تحاكي الشرق بكل ما للكلمة من معنى.
لهذا نرى في بعض لوحات المستشرقين مبالغات تقترب من السريالية، إلا أنها تحمل جمالية تشكيلية مميزة لا يمكن إنكارها من حيث المفهوم والأسلوب، والفكر الجمالي التشكيلي، المصبوغ استشراقياً بألوان مشرقة وزاهية، إن في اللباس أو الموتيفات الشرقية المزخرفة، والملونه بتضاد يحدد من خلاله الفنان طبيعة المكان وتقنيته التراثية والعمرانية.
قد تحمل بعض من لوحات المستشرقين أسلوباً إيقونوغرافياً، والمرافق غالبا للكنائس المسيحية الشرقية للدلالة على المفهوم المسيحي للمكان، ولكن في المقابل نرى في بعض اللوحات إيديولوجيات تحاكي فنياً الأمكنة الإسلامية، كلوحات تحمل معالم المساجد المتواجدة في الشرق كلوحة جامع جزائري رسمها الفنان “نويل هاري لوفل” (noel harry leaver) ، تتميز هندسياً بروح عصر يتميز بحالة وجدانية توحي بالهدوء والسكينة، والمساحات المتسعة والمتباينة بواقعها التراثي الظاهر في بناء الأطر الزخرفية المتلائمة مع روح المكان، وكيانه الشرقي المشحون بموتيفات إسلامية تجسد الطابع الإسلامي بكل مفاهيمه وبساطته، وبدلالاته الفكرية والإيمانية وموضوعاتها المشرقية.
تتركز الموضوعات الفنية الاستشراقية حول الشرق بكل تجلياته الفكرية والجمالية، والسياسية والاجتماعية كحالة من حالات التماثل التي قرأنا عنها في قصص ومسرحيات، كان للزي الشرقي فيها النصيب الأكبر مع الحفاظ على نكهة البيئة الشرقية، وتوليفاتها الجذابة كالحانوت في أسواق مصر المرسومة في لوحة تغص بالأشكال والمعاني والألوان، والفراغات، والجماليات الفنية المتوازنة داخل اللوحة بمختلف معاييرها، و التي رسمها الفنان ” مازني” ( Mazini) بروحية شرقية تظهر جمالية الاسواق في مصر انذاك .
أظهر الفن الاستشراقي قدرته على اظهار خاصية فنية تتعلق بروحانية الشرق، وما يمثله للغرب من مكتشفات مثيرة حسيا، وذلك بما التقطه من انطباعات فنية تسببت في تحفيزه فنياً، ليرسم ما يشاهده أو يتخيله وفق الابعاد الفكرية والفنية القادرة على توضيح فكرة الاستشراق ، وما تتركه من علامات تعجب عند العربي أو الفنان الشرقي بشكل خاص. لأن الطبيعة الشرقية في لوحاتهم أكثر دلالة وعمقا مما هو مكتوب عن الشرق من قصة وحكاية ورواية ومسرحية وما الى ذلك . فلوحة الفنان “هربرت ساتلر” (hurbert sattler) عن القدس تمدنا برؤية طبيعية، لمكان جغرافي يتمبز بجمالية فنية تصويرية دقيقة الملاحظة تشكيليا، باعتبارها مدينة شرقية تشكل مرجعاً تاريخياً له أهميته السياسية والفنية المتنازع عليها منذ العصور القديمة وحتى الان، وكأن الفنان الاستشراقي في بعض محطاته الفنية هو المؤرخ لحضارات الشرق بوصفها أداة فنية بصرية تنقل للغرب المشاهد المستوحاة او المأخوذة من الشرق، بما فيها الأمكنة العمرانية التاريخية، وكأنها الشاهد الحي على زيارتهم للشرق كما في لوحة “بيتر بترسون” peter Peterson ) ) المسماة مار سابا في فلسطين والمتميزة بهندستها الشرقية، كقلعة متماسكة ذات منظور فني يشكل هندسة متكافئة ذات حيوية غنية بالحركة واللون المحلي المستوحى من الطبيعة وخاماتها الفنية.
اختزال الأزمنة
يقول الكسندر هيج ” لا يوجد مكان آخر أهم من الشرق الأوسط لحفظ التوازن بين العناصر المختلفة لسياستنا الخارجية..فيها مصالح اقتصادية وسياسية وحتى روحية” فهل الفن الاستشراقي خدم ويخدم هذا؟..أم أن الفن من أجل الفن هو الغاية التي تركت ارثا فنيا لمستشرقين سحرهم الشرق؟.
تختزل الفنون التشكيلية بمشاهدها الفنية ورسوماتها الواقعية الأزمنة بحيث تجعلنا نلمس فكريا الصورة الحقيقية التي يراها الغرب عن العرب في تلك الأزمنة وحتى الآن، والاختلافات بين الماضي والحاضر والقدرة على تحليل ما سيكون في المستقبل ، فالحضارات الشرقية تعج بتفاصيلها المختلفة عن الحضارات الغربية، وفي المقارانات تقريب من وجهات النظر المختلفة مع ما تحمله كلمة ” استشراق ” من تناقضات متعددة في مفهومها الشرقي واللاشرقي، وحتى مفهوم الشرق الإسلامي الذي يصور في جانب منه مراسيم الصلاة كما في لوحة ” ليليان ويرذايم رايس” (lilian Wertheim rice) )، والدعاء بعد صلاة العصر لشيخ عربي في صحراء يركع على سجادة صلاة والظل يشير الى فترة ما بعد الظهر مع ما تحمله الازياء العربية من شرقيات ذات إشارات رمزية للترحال العربي عبر الصحراء .
تحتفظ اللوحات الاستشراقية بكنه الحقيقة الروحانية للشرق، فهي بمثابة مشاهد تاريخية تم حفظها من قبل مستشرقين تأثروا بالشرق وأخباره بعيدا عن الغلو في إظهار النساء العربيات كمحظيات، وعما تحمله اللوحة من أسرار عن انماط عيشهن في أماكن متعددة حيث نرى المرأة تتزين بأزياء فاخرة ، وتجلس في أماكن مزينة بالنفائس والحرير، ولكن جورج باير عكس هذا المفهوم بتصويره بائعة الخبز ، وهي جالسة في الأسواق العربية ومن حولها فخاريات وابنية من الطراز الشرقي، مصوراً بذلك الجوانب المختلفة من مسيرة المرأة الشرقية عبر الأزمنة، ولكن من خلال ريشة المستشرقين الذين سحرهم الشرق، وتحملوا المشقات في سبيل زيارة الشرق ورسم معالمه ، وأن في بعض الأحيان بملامح وجوه أوروبية ، ولكن بملامح حياة شرقية ذات جمالية تحمل في طياتها مميزات الحياة اليومية إن في الأسواق أو البيوت، وحتى في العبادة واللهو والحروب والسفر في الصحراء ورمزية الجمل المرافق للرجل العربي مع الحصان وحتى الخيم العربية.
تأثيرات بصرية وألوان تغرق بالضوء ، وايحاءات كانها مشاهد خرجت من أعمال “بودلير”. إلا أن تذوقها فنياً يجعلها تتميز من حيث القدرة على منح تعبيراتها رومانسية، مضيفاً إليها الفنان لمسة شرقية. تضع اللوحة في خانة المشهد البانورامي أو الدرامي أو التعبيري الرومانسي، وحتى الانطباعي. إلا أن الميزة دائماً هي الملامح الشرقية بشموليتها من حيث ديناميكية الحياة اليومية والعادات والتقاليد، وما تحمله ألوان الأزياء من تناقضات مختلفة من حيث التعتيم والإشراق والتنافر والتضاد والانسجام ، حتى في الإشكال الغارقة هندسياً بالتباعد والتقارب، والتشابه والتماثل، وما إلى ذلك من جيومترية وسيمترية، والتزام بالقاعدة الذهبية ونقطة الجذب الأولى التي ترتكز عليها الفكرة، وبناء الموضوع الفني بشكله العام
كلام الصور
1- لوحة لـ ايفيلين واترسن
2- لوحة لـ كينيث نويل افري
3- لوحة لـ نويل هاري لوفل
4- لوحة لـ مازني
5- ليليان ويرذايم رايس
ملاحظة: اللوحات من مجموعة متحف فرحات