د. عبد الرؤوف سنّو
قد يتبادر إلى الأذهان، إنَّ ألمانيا كانت بعيدة عن مشاريع اليهود للاستيلاء على فلسطين، وإنَّ أول موقف لها في هذا الصدد، جاء مطلع العام 1918. لكني سأثبت في هذه الورقة الفرضيتين الآتيتين:
- إنَّ “المسألة اليهودية” في ألمانيا دفعت حكومات لمانيابروسيا، منذ أواخر الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، إلى العمل على إيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين، وإنَّ الرأي العام الألماني تقبّل هذا المشروع.
- إنَّ عدم صدور إعلان ألماني لصالح الحركة الصهيونية قبل مطلع العام 1918، يعود إلى اعتبارات عدّة؛ منها العلاقات المتينة بين ألمانيا والدولة العثمانية خلال حكم الإمبراطور وليم الثاني، والتحالف بين برلين والآستانةخلال الحرب العالمية الأولى، وأخيرًا إنَّ ألمانيا لم تضع في حسابها قدرة الحركة الصهيونية على تحقيق مشروعها في فلسطين. [1]
– مشروع ألماني مبكّر: توطين اليهود في فلسطين
على الرغم من صدور مراسيم لتحرير اليهود البروسيين وإعطائهم المواطنة، منذ العام 1812، لم تؤدّ هذه الإجراءات إلى المساواة الكاملة بينهم وبين مواطنيهم الألمان، وبالتالي حلّ “المسألة اليهودية” في ألمانيا، وذلك نتيجة العوامل النفسية والاجتماعية والدينية التي كانت تؤدّي دورها في عدم حصول دمج مجتمعي؛ ومنها أيضًا عنصرية الألمان تجاه “الغرباء”، وانغلاق اليهود اجتماعيًا، واعتبار أنفسهم “قومية”، ورفض محاولات تنصيرهم، كخطوة نحو دمجهم في المجتمع الألماني.[2] من هنا، لم تكن “الوطنية الألمانية” تتقبّل تسرّب “القومية اليهودية” إليها، ولا اليهودية كعقيدة. وقد بلغ عدد اليهود في غرب أوروبا عشية الثورة الفرنسية 400 ألف، ثلاثة أرباعهم في ألمانيا. [3]
وإلى جانب ذلك، أدّى التحوّل الاقتصادي في ألمانيا دورًا في تغذية روح العداء ضدَّ اليهود، من جراء هيمنة الرأسمال اليهودي على قطاعات مالية وصناعية وتجارية؛ حتى أنَّ الحرفيين الألمان تعرّضوا لمنافسة شديدة من قبل نظرائهم اليهود.[4] وخلال الحروب بونابرت، تصاعدت النبرة العدائية ضدَّ اليهود الألمان. فدعا فريدريش لودفيغ يان (Friedrich Ludwig Jahn)، أحد أهمّ مناصري القومية الألمانية، “إلى حرب صليبية مقدّسة ضدَّ الغرباء من فرنسيين ويهود”،[5] فيما دعا كلٍّ من الفلاسفة يوهان فيخته (Johann Fichte، وإيمانويل كانط (Immanuel Kant) وغيورغ هيغل (Georg Hegel) إلى أمّة ألمانية مسيحية،[6] واعتبر الأول أنَّ اليهود يشكّلون “دولة داخل دولة”، مضيفًا، ولـ “كي نحمي أنفسنا منهم، علينا أنْ نفتح أرض الميعاد ونرحّلهم جميعًا إلى هناك”[7]. واستمرّ عداء الألمان لليهود في عصر بسمارك؛ فكتب الموسيقار ريتشارد فاغنر (Richard Wagner) يقول: “إنه يمكن تفسير تراجع قيم الشعب الألماني حقيقة إلى الاختراق اليهودي”.[8]
وفي أجواء “المسألة المصرية”، وتوسّع الخديوي محمد علي باشا في بلاد الشام على حساب الدولة العثمانية خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر، اعتلى الملك فريدريش وليم الرابع عرش بروسيا العام 1840، ما جعل دوائر قصره التي كانت تتنازعها فكرة تنصير اليهود الألمان وتصدريهم إلى فلسطين، تلتفّ حوله، وتطرح عليه مشروعها. ولم يكن هذا الموضوع جديدًا بالنسبة إلى الدوائر السياسية والدبلوماسية الأوروبية. فبونابرت عندما زحف على فلسطين من مصر، العام 1799، طلب العون من اليهود، في مقابل توطينهم فيها واستعادة “مجد إسرائيل الضائع”، لأنَّهم، وفق رأيه، “هم الورثة الشرعيّون لفلسطين”. وكرّر القائد الفرنسي موقفه هذا في مناسبات أخرى.[9]
والمعروف أنَّ اللورد اليهودي البريطاني موسى مونتيفيوري (Moses Montefiore) تقدّم من محمد علي باشا، العام 1838، بمشروع تنمية استيطان زراعي وصناعي يهودي في فلسطين، في سياق استقلال ذاتي. أمّا الحكومة البريطانية، فطالبها بحماية ما يقرب من 7 آلاف يهودي في فلسطين، وبأنْ تدعم هجرة يهود أوروبا إلى البلد المذكور، والسماح لهم بشراء الأراضي هناك والاستيطان عليها.[10]
ومن جهة أخرى، سأل أحد زعماء “جمعية يهود لندن” التي كانت تنشط في تنصير اليهود ونقلهم إلى فلسطين (London Jew Society) ملك بروسيا العام 1839 بالقول: “ألا يستطيع الملوك المسيحيون أنْ يقدّموا إلى اليهودي المسكين الذي ظلَّ سجينًا لفترة طويلة شيئًا من الحريّة المسيحية؟” وبعد مرور العامين، كتب كريستيان بونسن (Christian Bunsen)، أحد أكثر المقرّبين من الملك البروسي والمروّجين لمشروع تراسفير يهودي إلى فلسطين، بشرط التنصير، إلى وليم غلادستون (William Gladstone)، وزير المستعمرات البريطاني ورئيس الحكومة لاحقًا، يقول: “… ألا ترى مشيئة الله في إنشاء كنيسة أنكليكانية وجماعة من المتنصرين اليهود على جبل صهيون في القدس؟ ألا ينبغي أنْ نفعل شيئًا لاستغلال الأحداث السياسية … التي تتحكّم بها مشيئة الله والتي يشكّل تصادفُهُا إشارات على انبعاث صهيون”. [11]
لقد كان غلادستون من مؤيدي فكرة توطين اليهود في فلسطين، لكن من زاوية مصالح بريطانيا الاستراتيجية والتجارية في المنطقة. أمّا المقصود بـ “الأحداث السياسية”، كما ورد في خطاب بونسن إلى غلادستون، فكانت “المسألة السورية”، وهي استعادة السلطنة سيادتها على ولاياتها السورية من محمد علي باشا بفضل دعم أوروبي. ورأى بونسن أنَّ على “الباب العالي” أنْ يرد “الجميل” لأوروبا، بفتح أبواب فلسطين أمام هجرة اليهود إليها. واعتبر في رسالة إلى زوجته، “إنَّ البداية تحقّقت لإعادة تكوين إسرائيل.[12]
وبسبب ضعفها السياسي في الدولة العثمانية، احتاجت بروسيا إلى مظلّة دولة أوروبية قادرة على تنفيذ مخطّطاتها. من هنا، أشركت بروسيا انكلترا في المشروع، مالياً وكنسيًا، بعدما تلاقت مشاريعهما لتنصير اليهود وتوطينهم في فلسطين.
وفي العام 1841، جرى تأسيس “مطرانية القدس الإنجيلية” في القدس، على أنْ تتبع الكنيسة الأنكليكانية في المملكة المتحدة. ونظرًا إلى مكانتها لدى الدولة العثمانية، قامت بريطانيا بخطوات دبلوماسية لدى الباب العالي لتأمين أرضية دينية – سياسية، وبالتالي اعترافه بالمطرانية. فتمّ ذلك العام 1850، باعتراف الباب العالي بالملّة البروتستانتية في أراضيه.[13]
وعلى الرغم من تعيين اليهودي المرتدّ إلى المسيحية ميشال سولومون الكسندر (Michael Solomon Alexander)، أسقفًا على المطرانية، لم تحقّق هذه الأخيرة نجاحًا في عهده، أو في عهد خلفه صموئيل غوبات (Samuel Gobat)، سواء في استقطاب اليهود الألمان إلى المذهب البروتستانتي، أو في قبولهم بالانتقال إلى فلسطين. كما فشلت المطرانية في جذب اليهود المحليين إليها، أو أتباع الكنائس العرب في فلسطين إلى المشروع. فكانت هناك مقاومة في المنطقة تجاه المذهب البروتستانتي الجديد. وفي العام 1886، فسخت بروسيا شراكتها مع بريطانيا، بعدما أصبحت دولة كبيرة في عهد بسمارك.
أمّا عن السبب الرئيسي في فشل مشروع المطرانية، فهو أنَّ ارتباط اليهود المحليين المقيمين بفلسطين كان دينيًا، ما جعلهم يقاومون فكرة تنصيرهم. ولم تتمكن المطرانية بعد مرور 45 عامًا من إنشائها من تنصير سوى العشرات. وهؤلاء لم يتنصّروا بفعل دوافع دينية، بل لظروف اقتصادية، خاصّة أنَّ يهود فلسطين كانوا يعيشون في فقر مدقع. كما عارضتَّ الزعامات اليهودية خارج ألمانيا تنصير أبناء قومها، ونشطت في تقديم مقومّات اقتصادية لهم، وبخاصّة في فلسطين، لمقاومة مشاريع تنصيرهم. وقد ثبت خطأ الافتراض بأنَّ اليهودي الأوروبي الذي يُقدم على التنصّر سيهاجر إلى فلسطين، لأنَّ تنصّره كان الخطوة الأساسية لتحطيم الحواجز الفاصلة بينه وبين المجتمع الأوروبي والاندماج فيه. وبذلك، تصبح العودة إلى فلسطين بعيدة عن تفكيره. وعندما حصل الترانسفير اليهودي إلى فلسطين خلال عهد هتلر، عاد اليهود الألمان إلى أرض الميعاد كيهود ضمن مشروع الحركة الصهيونية لتهويد فلسطين، وليس كمرتدين إلى المذهب البروتستانتي.
– وعد بلفور “ألماني” متأخّر
من دون الدخول في الأسباب المعروفة لنشوء الحركة الصهيونية، فقد سعى هرتسل، زعيم المنظمة الصهيونية، من دون نتيجة، لعرض مشروعه على رئيس وزراء ألمانيا أوتو فون بسمارك. لكن الترويج الفعلي لتهويد فلسطين، حصل في وقت متقارب مع وصول الإمبراطور وليم الثاني إلى عرش ألمانيا العام 1888، واعتماده سياسة “الزحف نحو الشرق”، بكلِّ أبعادها الإمبريالية. وكان زعماء الحركة من اليهود الألمان أو اليهود الشرقيين الذين درسوا في ألمانيا؛ فتطلعوا إلى العاهل الألماني للحصول على دعمه، انطلاقًا من وجوب رعاية المشروع من قبل دولة كبيرة، مع استعدادهم لجعل الصهيونية من أدوات سياسة التوسّع الألماني.[14]
وقد اعتقد هرتسل، زعيم المنظمة الصهيونية، أنَّ ألمانيا قد تكون أكثر الدول التي يمكن الحصول على إعلان منها بدعم المشروع الصهيوني. فهي دولة أوروبية كبيرة يمكنها أنْ تمارس تأثيرًا حاسمًا في الباب العالي، وإذا ما تمكن المرء من أنْ يجعل العاهل الألماني يتدخّل لمصلحة الصهيونية، فإنَّ السلطان العثماني لن يرفض طلبه في هجرة يهودية إلى بلاده. من هنا، عرض هرتسل على الإمبراطور خطّة من ثلاث نقاط: تقوية الدولة العثمانية المستهدفَة بالمشروع، اقتصاديًا، وإخراجها من أزمتها المالية؛ والحصول على مساعدة ألمانيا لتأمين موطئ قدم في الشرق الأدنى؛ وأخيرًا، حلّ “المسألة اليهودية” في ألمانيا بوقف الهجرة اليهودية إليها من شرق أوروبا التي تفاقمت منذ اغتيال قيصر روسيا ألكسندر الثاني العام 1881،[15] وبالتالي ازدياد العداء للسامية في أوساط المجتمع الألماني. [16] فكان العرض الأول يُغري السلطنة للقبول بالمشروع؛ فيما يجعل العرض الثاني من اليهود رأس جسر للاستعمار على مقربة من قناة السويس، شريان المواصلات العالمية. فيكون لألمانيا حليف هناك. وقد حصل الجزء الثالث من الخطّة على تأييد يهود ألمانيا والمعارضين للسامية.
ومن المؤشرات على استحسان ألمانيا المشروع الصهيوني، محاولة الإمبراطور الألماني خلال زيارته للاستانة، العام 1898، إغراء السلطان العثماني للقبول به. أمّا السبب المباشر لذلك، فهو تقرير الوزير الألماني المفوّض في برن كريستيان فون تاتنباخ (Christian von Tattenbach) الذي حذّر من حرب داخلية (Kultur Kampf) بين القومية اليهودية والقومية الألمانية نتيجة الوعي القومي بين اليهود، ورفضهم من قبل مجتمعهم الألماني المسيحي. [17] وعندما قرأ الإمبراطور التقرير، علّق عليه بالجملة الآتية: “دع اليهود يذهبون إلى فلسطين، وكلما أسرعوا في الهجرة، كلّما كان أفضل. ولن أضع أية عراقيل في طريقهم”.[18] لكن السلطان عبد الحميد الثاني رأى في توطين اليهود في فلسطين نوعًا من الاستقلال الذاتي لرعاياه، ما يهدّد سيادة السلطنة؛ فرفضه. وهذا ما جعل الخارجية الألمانية تتخلّى عن دعم المشروع، كي لا يُسيء إلى علاقاتها بالسلطنة، انطلاقًا من مصالحها المتشعّبة فيها.[19] بناءً على ذلك، لم تتزحزح الحكومة الألمانية بين الأعوام 1898 و1917 عن موقفها الرافض للاستيطان اليهودي في فلسطين، مراعاة لعلاقاتها بالسلطنة التي كانت في نموّ.
في محاولة لاستثارة ألمانيا، اعتقد هرتسل أنًّ الحركة الصهيونية تحتاج لدعم مسيحي – صهيوني لفتح أبواب البلاط الألماني لها. ووجد ضالته في دوق بادن الكبير؛[20] فكتب له في أيلول 1897 يبلغه بتحفّظ الحكومة الألمانية على مشروع تهويد فلسطين، وأنَّ هذا سوف يجعل “الحركة الصهيونية العالمية” تسعى إلى الحصول على دعم بريطانيا وحمايتها، وحثّه هرتسل على التدخّل لدى الإمبراطور. لكن وزير الخارجية برنهارد فون بيلوف (Bernhard von Bülow) قابل هرتسل في فيينا في الشهر نفسه، وأبلغة صراحة أنَّ مشروعه لا يجذب إلّا فقراء اليهود العاجزين عن إقامة دولة في فلسطين أو استعمارها.[21] من هنا، اكتفت الحكومة الألمانية بتكليف سفيرها في الآستانة مارشال فون بيبرشتاين (Marschall von Bieberstein) بمتابعة الموضوع مع “الباب العالي”. لكن السفير كان معاديّا للصهيونية، ويعتقد أنَّ تأييد بلاده لها، سوف يُسيء إلى علاقاتها بالسلطنة؛[22] فبقي على موقفه هذا حتى نهاية عهده، العام 1912. وهذا ما جعل الحركة الصهيونية تنتظر تعيين خلفه هانس فون فانغنهايم (Hans von Wangenheim) الذي لم يقدّم لهرتسل سوى الوعود والدعم الأدبي.[23] لكن وفاة فون فانعنهايم في تشرين الأول العام 1915، سبّبت نكسة لتوقّعات الحركة الصهيونية. أمّا قنصل ألمانيا العام في القدس باول فون تشندورف (Paul von Tischendorf)، فأبلغ السلطات العثمانية في المدينة بأنَّ الدعوة إلى كيان يهودي، كما جاء في كتاب هرتسل “الدولة اليهودية” (Der Judenstaat) ، محض خيالية وبعيدة عن الواقع.[24]
إنَّ فشل هرتسل في إقناع الوزير بيلوف بالمشروع الصهيوني، كما معارضة السفير الألماني في الأستانة تهويد فلسطين وما يشكّله من ضرر لمصالح السلطنة القومية، جعلا هرتسل يطلب مقابلة شخصية مع الإمبراطور عبر سفير ألمانيا في فيينا البارون فيليب تسو أويلنبورغ (Graf Philip zu Eulenburg). فأُبلغ، عن طريق أويلنبورغ، بتعاطف الإمبراطور مع المشروع الصهيوني، واستعداده لمقابلة وفد صهيوني خلال زيارته المزمعة إلى القدس، في سياق رحلة طويلة ستنقله إلى الآستانة ومن ثم إلى بلاد الشام.
إن توجّه الإمبراطور وليم الثاني نحو الشرق، جعل هرتسل يتوقّع حدوث تحوّل في سياسة ألمانيا تجاه المنطقة، وإنًّ وصول العاهل الألماني إلى المدينة المقدّسة له أكثر من معنى؛ حتى أنَّه أعلن “إنَّ الصهيونية ستمكن اليهود من حبِّ ألمانيا ثانية””،[25] في إشارة إلى خيبة أمل اليهود حتى حينه من موقف ألمانيا السلبي من نشاطات الصهيونية. وكتب في مذكراته معلّقًا على تضافر الأحداث لمصلحة الحركة الصهيونية/ فقال:
“ستذهب، با صاحب الجلالة، إلى فلسطين. وسيكون لموكبكم عظمة رمزية. وستُذهِل
هذه الرحلة أهل الشرق، وتُقلِق بال أهل الغرب. غير إنّنا إذا نظرنا مليًّا في الأمر نجد
أنَّ هذه الرحلة الإمبراطورية الجديدة إلى صهيون ستترك أثرًا لا يُمحى في التاريخ إذا
كان لها علاقة مع الحركة الصهيونية الجديدة”.[26]
وفي 18 تشرين الأول و2 تشرين الثاني 1898، حصل لقاءان في الأستانة والقدس على التوالي بين هرتسل والعاهل الألماني، حدّد الزعيم الصهيوني مطلبه من ألمانيا بإنشاء “شركة قانونية تحت الحماية الألمانية” تشرف على الترانسفير اليهودي إلى فلسطين. فوافق الإمبراطور على الفور، وتمّ التوافق على لقاء ثانٍ بينهما في فلسطين. وفي القدس ألقى هرتسل خطابًا أمام اللإمراطور، وقدّم له أليومًا يحتوي على صور المستعمرات اليهودية في فلسطين، وفيه حدّد الزعيم الصهيوني أهداف الصهيونية، وهي: “إيجاد وطن مُعترف به ومضمون للشعب اليهودي في فلسطين”. وفي ردّه على هرتسل، قال العاهل الألماني: “إنَّ جميع الجهود التي تهدف إلى النهوض بالزراعة في فلسطين لأجل رخاء الدولة التركية، يمكنها أنُ تحصل على اهتمامي وعطفي، مع مراعاة كاملة واحترام لسيادة السلطان”.[27]
وبالفعل، كانت كلمة العاهل الألماني رفضًا مهذبًا لأماني الحركة الصهيونية في تأسيس وطن قومي للهيود في فلسطين بمساعدة ألمانيا.[28] وعلّق وزير الخارجية الألمانية بيلوف في مذكراته على الرفض المهذّب لإمبراطور ألمانيا بالنسبة إلى لمساعي الصهيونية لتهويد فلسطين، بأنَّه جاء عقب تصريح وزير الخارجية العثماني المرافق لرحلة العاهل الألماني، بأنَّ “لا علاقة للسلطان بالصهيونية، وليس لنا أي اهتمام بإنشاء دولة يهودية في فلسطين”.[29] لذا، عندما عُين بيلوف رئيسًل للحكومة الألمانية بين الأعوام 1900 و1909، اعتبر هرتسل ذلك “طالعًا سيئًا”، وقال: “هذا التعيين ليس في صالحنا”. وجاء في مذكرات بيلوف حول تعاطف الإمبراطور الألماني مع المشروع الصهيوني، بأنَّه نتيجة اعتقاده، بداية، بأنَّه يُصلح مالية السلطنة عن طريق إقراضها، وإنَّ الإمبراطور اعتقد كذلك أنَّ تهويد فلسطين “قد يضع حدًا لاستغلال اليهود للمسيحيين”، ويُضعف نفوذ الاشتراكيين الألمان في بلاده المعادين له.[30]
وعلى عكس ذلك، كان للحكومة الألمانية برئاسة بيلوف رأي مخالف للإمبراطور، ينطلق من شكوكها في ولاء يهود ألمانيا للسلطان العثماني، وعدم تقديرها قوّة الصهيونية على تحقيق مشروع تهويد فلسطين.[31] وعلى ما يبدو، فقد تغلّب رأي الحكومة على موقف الإمبراطور، على الأقل في تلك المرحلة. وقد عبّر هرتسل عن خيبة أمله بعد مقابلته الإمبراطور في القدس في تشرين الثاني 1898، فأحسّ ببرودة استقباله له، ولاحظ أنَّ الأخير بدأ يسحب تدريجيًّا عرضه الأول بتقديم دعمه للاستيطان اليهودي في فلسطين. والواقع أنَّ العاهل الألماني لم يكن يريد إغضاب حلفائه العثمانيين والمسيحيين عنده في ألمانيا من أجل دعم الصهيونية.[32]
ونزولًا عند إلحاح دوق بادن الكبير لصالح الصهيونية، وضع وزير الخارجية الألماني البارون أوزولد فون ريشتهوفن (Oswald von Richthofen) “مذكرة نهائية” حول موقف حكومته من الحركة الصهيونية، وذلك بتاريخ 26 كانون الثاني 1904، وجاء فيها:
“من ناحية المبدأ، فإنَّ الحكومة القيصرية رحبت على الدوام بالمساعي الإنسانية (بالنسبة إلى الاستيطان اليهودي في فلسطين). وإذا وُجد هذا السبب الإنساني، أو أنَّه يخدم المصالح الألمانية، فإنَّ دعم وزارة الخارجية مؤمّن بقوّة. ومع ذلك”، أضاف الوزير “وبتفحّص أهداف الصهيونية عن قرب، تبيّن أنَّ لا مصالح ألمانية ضمنها. إنَّ هرتسل ليس مواطنًا ألمانيًا، والحركة التي أسّسها لا تجد سوى قلّة من المؤيدين لها بين يهود ألمانيا. … ولذا لا يوجد تبرير للتدخّل الألماني لمصلحة الصهيونية. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ الاعتبارات السياسية المهمّة تجعل من الصعوبة بمكان على وزارة الخارجية الألمانية دعم أهداف هرتسل”. “فلسنوات طويلة”، مضت المذكرة، “ظلّت تركيا في صراع مع القوى الكبرى لمنع إقامة حُكم وطني ذاتي (داخل أراضيها)… كما تعارض بشدّة تطبيق إصلاحات تحت إشراف أوروبا. لذا،، فهناك خطر في حصول تعقيدات دولية، وحتى خطر يتهدّد السلم العالمي”.
وتساءلت المذكرة بالقول: “إنَّ هرتسل يسأل حول شيء، لا تزال الدول الكبرى حتى اليوم
تفشل في الحصول عليه من السلطان…. فلا يوجد في فلسطين سوى عدد صغير من
اليهود، (على الرغم) من أنَّ عدد اليهود ازداد من خلال المستوطنات الخيرية التي
أقامها كلٌّ من البارون روتشيلد والبارون هيرش، وقامت تركيا القلقة حول مصير
فلسطين السياسي بفرض قيود على هجرة اليهود. …”
وأضافت المذكرة إنَّه: “إذا قامت دولة أجنبية، كألمانيا، بتوسيع حمايتها للحركة الصهيونية،
فلا شكّ أنَّ مخاوف السلطان ستزداد، وتسوء نتيجة ذلك أوضاع اليهود في الدولة
العثمانية”.
وختمت المذكرة بالآتي: إنَّ الخبراء المختصّون ومستشاري وزارة الخارجية الألمانية
للشؤون التركية، يرون أنَّ الوقت لم يحن بعد للتدخّل لمصلحة الصهيونية. إنَّ تدخّلًا
كهذا، سيُلحق الأذى بالصهيونية، ويقضي على خطط الدكتور هرتسل في تحقيق إفكاره.
كما إنَّه يدمّر المصالح الألمانية الأخرى في تركيا”.
يتبيّن من المذكرة، أنّ ألمانيا كانت على استعداد لدعم اليهود في المجالات الإنسانية. أمّا تقديم دعمها لحركة سياسية تريد الاستيلاء على فلسطين التابعة لحليفتها الدولة العثمانية، فكان هذا يتعارض مع مصالحها. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن فقراء اليهود في فلسطين عامل قوّة سياسية بالنسبة إلى ألمانيا. وحتى دعم المدارس والمؤسّسات الخيرية اليهودية، أو تدخّل القناصل الألمان في الولايات السورية لمصلحة اليهود في فلسطين، لم يحصل قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. إنَّ تدخل ألمانيا العام 1893 لإلغاء قرار عثماني يمنع اليهود من شراء الأراضي، عزته الحكومة الألمانية بالأسباب الإنسانية، وليس تقديم دعم سياسي لأماني الصهيونية.[33]
والواقع، أنَّه بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى بقليل، حدث تحوّل في الموقف الألماني من الحركة الصهيونية إلى نوع من “التعاطف”، من دون أنْ يطرأ تعديل جذري على سياسة ألمانيا تجاهها. فتمّ استحداث “دائرة شؤون اليهود”(Abteilung für judische Frage) في وزارة الخارجية الألمانية. وقد عمل الزعيم الصهيوني المعروف ناحوم غولدمان (Nahum Goldmann) في قسم الدعاية للدائرة، وكان على اتصال وثيق بزعماء الصهيونية. كما وضعت السفارة الألمانية في استنابول، بناء على تعليمات الخارجية، حقيبتها الدبلوماسية تحت تصرف الصهاينة لتأمين سرية الاتصالات بين مندوبيها في الاستانة وبرلين ويافا والقدس.[34]
وفي 22 تشرين الثاني 1915، أصدرت السفارة الألمانية في الآستانه تعلميات إلى القناصل الألمان في فلسطين وسورية لحماية المستوطنات اليهودية والعطف على “المطالب المحقّة لليهود إلى المدى الذي لا يتعارض والمصالح القومية للأتراك”.[35] كذلك، تعاونت القيادة الصهيونية مع ألمانيا من أجل إنشاء “لجنة تحرير يهود روسيا” في برلين. وعملت القيادة الصهيونية مع ألمانيا من أجل إنشاء “لجنة تحرير يهود روسيا” في برلين. وبنتيجة ذلك حصل زعماء صهانية على جوازات سفر ألمانية، وكلُّ ذلك للتأثير في أميركا وإبقائها على الحياد في الحرب. وبالإضافة إلى ذلك، أسّست ألمانيا “اللجنة الشرقية” (Komittee für den Osten) للتأثير في اليهود المحايدين، وبخاصّة في الولايات المتحدة الأميركية. ومن مهامها مواجهة التأثيرات السلبية للسياسة العثمانية تجاه اليهود.[36] وعندما تدخّلت الدبلوماسية الألمانية لدى الباب العالي العام 1914 ضدَّ إجراءات القائد العثماني جمال باشا بطرد يهود روس من فلسطين يحملون جنيسات أجنبية، بدت الحماية الألمانية للمستوطنات اليهودية هناك أكثر ثباتًا.[37] واعتقد الألمان أنَّ موقفهم هذا، قد يحسن من صورتهم في أوروبا وأميركا.[38] ورغم ذلك، ظلّ الاعتقاد ساريًا لدى الحركة الصهيونية أنَّ ألمانيا لا تضعها ضمن أولوياتها.
وبعد العرض الذي تقدّمت به “دول الوسط” في كانون الثاني 1916 لإبرام الصلح، ومن على منبر مؤتمر “المجلس الصهيوني” في لاهاي بتاريخ 24 آذار، طالب الزعيم الصهيوني فكتور جاكوبسون (Victor Jacobson) كلٍّ من ألمانيا والدولة العثمانية بإصدار تصريح يتضمن تعاطفهما مع الأماني الصهيونية، معتبرًا أنَّ الوقت قد حان لإصدار مثل هذا التصريح. لكن هذا الطلب لم يجد آذانًا صاغية في الخارجية الألمانية، بينما عارضته السفارة الألمانية في الأستانة. وعشيّة دخول الولايات المتحدة الحرب، جدّدت الصهيونية مطالبتها الحكومة الألمانية بإصدار إعلان لصالحها. لكن السفير الألماني في الاستانة ريشارد فون كولمان (Richard von Kuhlmann)، وجّه رسالة إلى رئيس الحكومة الألمانية بيتمان هولفج (Bethmann Hollweg) في 26 آذار 1917 قلّل فيها من تأثير اليهود على القرار الأميركي بدخول الحرب، وبأنَّ موقف الصهيونية لم يعد له قيمة بعد قطع واشنطن العلاقات الدبلوماسية مع برلين. وفي نيسان 1917 أعلنت أميركا الحرب على ألمانيا.[39]
وقد حاول جاكوبسون بعد “الثورة العربية الكبرى” ضدَّ العثمانيين، ومعه صهيوني آخر هو أوتو فاربورغ (Otto Wahrburg) العزف على نغمة تحالف صهيوني – عثماني ضدَّ عرب فلسطين وبلاد الشام. فأعلنا أنَّ الصهيونية تنسجم مع المصالح التركية، وأنَّ ولاء الصهيونية لتركيا تحكمه الاعتبارات الجغرافية؛ وإنّ إحاطة الغالبية العربية بالمستوطنات اليهودية في فلسطين، يجعل الأقلية اليهودية مرتبطة بحماية الدولة العثمانية وضمان الولاء لها. علاوة على ذلك، قال الزعيمان اليهوديان: كما أنَّ فلسطين تخدم “كجسر” يمكن أنْ يوحّد العرب، فإنَّ فلسطين يهودية يمكن أنْ تخدم في تقسيم الأراضي العربية المأهوية. بمعنى: إذا قام العرب باضطرابات ضدّ تركيا، فإن استيطان يهودي قوي في فلسطين سوف يشكّل ثقلًا موازيًا لهم.[40] وهذا يذكرنا بالمؤتمر الاستعماري الذي دعا إليه رئيس الحكومة البريطانية هنري كامبل – بنرمان (Henry Campbell – Bannerman) العام 1907، وخلص إلى ضرورة إنشاء كيان بشري غريب في فلسطين على مقربة من قناة السويس، من أجل ضمان استمرار تفكك المنطقة وتجزئها.[41]
وفي تقاطع للأدوار، مع تحقيق الجنرال البريطاني اللنبي تقدمًا في فلسطين من جهة السويس، وبدء تضعضع الموقف العسكري لألمانيا والسلطنة، حذّرت “اللجنة التنفيذية الألمانية الصهيونية”، صيف العام 1917 وزارة الخارجية الألمانية من أنَّ سعي الصهيونيين للحصول على دعم الدول الكبرى لمشروعهم، سوف يرفع من سمعة تلك الدول على حساب ألمانيا لدى يهود وسط أوروبا وشرقها، كما لدى الولايات المتحدة الأميركية.[42] وطالبت اللجنة وزارة الخارجية الألمانية بألّا تترك الدول الكبرى الأخرى تحتكر لنفسها دعم الصهيونية.[43] وكتب ريشتارد ليشتهايم (Richard Lichtheim)، ممثّل الحركة الصهيونية في الآستانة، وهو من مؤيديي منح ألمانيا حمايتها للصهيونية، محذرًا دوائر برلين بالقول: “نحن مدينون لألمانيا بالكثير، ولكن مجريات الأحداث في الحرب أجبرت الصهيونية على الاتصال بالدول الأنكلو سكسونية والحصول على مساعدتها”. وأضاف: “لقد بدأ مركز الثقل لسياسة الصهيونية يتحوّل شيئًا فشيء في اتجاه لندن وواشنطن. … وهذا نتيجة الاستعداد الواضح للحكومتين البريطانية والأميركية لدعم أماني الصهيونية”.[44]
منذ منتصف العام 1917، وبعد دخول الولايات المتّحدة الحرب إلى جانب دول “الوفاق الودي”، ازداد موقف ألمانيا برودة من الحركة الصهيونية. فقد أصاب الفشل سياسة برلين في إبقاء واشنطن على الحياد. وبعد صدور “إعلان بلفور” مطلع تشرين الثاني من العام نفسه، وسقوط القدس بأيدي بريطانيا وفرنسا أواخر العام المذكور، ظهر بوضوح أنَّ الحركة الصهيونية أصبحت الأداة لتعزيز المصالح البريطانية، وليس الألمانية. من هنا، بدأ اليهود في ألمانيا وقيادات وصحف ألمانية يضغطون على حكومة برلين لتحقيق شيء ما، وتبنّي تصريح لصالح الصهيونية، بعدما جرى توجيه الاتهامات لتلك الحكومة بأنَّها فشلت في الحصول على التعاطف التقليدي لليهود، وبالتالي منع واشنطن من دخول الحرب.[45]
ومن ناحية أخرى، جاء في سلسلة من المقالات الصحفية لكتّاب ألمان حثّ السلطنة على القبول بالاستيطان الصهيوني، لأنَّه سيكون مفيدًا لمنطقة شديدة التخلّف وتحتاج للتمدين. ووُجهت انتقادات إلى الحكومة الألمانية بأنَّها فوّتت فرصة الاستفادة من دعم يهود العالم، وبأنَّ اليهود في الولايات المتّحدة وروسيا الذين أظهروا سابقًا شعور ودّيّة تجاه ألمانيا، قد انقلبوا ضدّها بعد “إعلان بلفور”. وسخرت بعض الأقلام من تقليل الحكومة الألمانية من قدرة الحركة الصهيونية العالمية، التي أصبحت عامل مهمّ في السياسة الدولية. أخيرًا، لفت مقال الانتباه إلى أنَّ ألمانيا لا يزال بإمكانها استعادة التأييد لها من قبل الصهيونية وتقوية مركزها الدبلوماسي، وقد يكون هذا مفيدًا لها على أبواب مؤتمر السلام. لكن الأقلام تلك كلّها، أسفت لفشل ألمانيا “في استخدام قوّة الصهيونية العظيمة … تاركة الساحة لبريطانيا لتحقّق انتصار أخلاقي سهل”.[46]
وفي مُناخ “إعلان بلفور” وما سبّبه من ضغط الرأي العام اليهودي والألماني على حكومة برلين، بعث الوزير الألماني المفوض في برن كونراد رومبرغ (Konrad Romberg) إلى حكومته يحثّها على عدم خسارة حربها الدعائية ضدَّ “الوفاق الودّي”، وبأنَّ الوقت لم يفت بعد لإصدار إعلان منفرد لصالح الصهيونية، من دون السلطنة. وقد جرت دراسة تقرير رومبرغ على أعلى المستويات في برلين. ومرّة أخرى، رفض الكونت غيورغ هرتلينغ (Georg Hertling) الذي أصبح للتو رئيساً للوزراء في ألمانيا، متقرحات رومبرغ، وكتب على التقرير الذي سلّمه إياه كلمة “كلا” كبيرة (NEIN)، فيما كتب مساعد وزير الخارجية على التقرير نفلسه: “لا معنى له” (UNSINN). وقد وجدت الحكومة الألمانية أنَّها ليست في موقع لإصدار تصريح لصالح اليهود بشكلٍ منفرد عن السلطنة، وبأنَّه سيكون ضعيف التأثير في اليهود، لأنَّ اليهودية ليست ممثالة للصهيونية. ولكن بعد ستّة أسابيع فقط من هذا الرفض الحاسم، انقلبت الأمور، وقرّر الإمبراطور وليم الثاني الخروج عن سياسة عدم المبالاة تجاه الصهيونية.[47]
بعد سقوط القدس بأيدي الإنكليز في 9 كانون الأول 1917، قرّرت الخارجية الألمانية إعادة مناقشة موضوع الصهيونية مرّة أخرى، ورأت وجوب اعتماد سياسة جديدة، والاتصال بالحكومة العثمانية لإصدار تصريح لصالح المنظمة الصهيونية، وتمّ ذلك في 12 كانون الأول 1917. وبعد ثلاثة أسابيع تقريبًا (2 كانون الثاني 1918)، زار رئيس الوزراء العثماني طلعت باشا برلين، والتقى الزعيم اليهودي الفرد نوسيغ (Alfred Nossig)، وبحثا معه أوضاع اليهود في السلطنة، وأبلغ الوزير العثماني الألمان أنَّ بلاده سوف تعيد النظر بأوضاع اليهود بشكلٍ يرضى به اليهود، حالما تعود القدس وجنوب فلسطين إلى السيادة العثمانية. ووجد تصريح الوزير في اليوم التالي طريقه إلى الصحف الألمانية.
أمّا سبب استجابة الأستانة السريعة، فيعود إلى اعتقادها بأنَّها لن تخسر شيئًا، بعدما سقطت فلسطين بأيدي البريطانيين، وإنَّ فلسطين سوف تعاد إلى سيادتها في أي تسوية مقبلة للسلام. كما أنَّ تقديم تنازلات للصهيونية في فلسطين، برأي العثمانيين، سوف يعزّز موقع السلطنة في “مؤتمر الصلح”. ولا ننسى أنَّ اندلاع “الثورة العربية الكبرى” شجعت السلطنة على إصدار التصريح.[48] أمّا الحركة الصهيونية، فحاولت إخفاء نواياها في الاستيلاء على فلسطين بالإدعاء أنَّ الإعلان البريطاني لا يتحدّث عن دولة يهودية ولا يمسّ بسيادة الدولة العثمانية، وإنَّ تنفيذ الإعلان يقع على السلطنة، كما على غيرها من الدول الكبرى.[49]
هكذا، تلقت الحكومة الألمانية التصريح العثماني، وما صرّح به طلعت باشا في برلين، بارتياح، واستدعت وزارة الخارجية زعامات صهيونية إليها وسلمتهم بيانًا، جاء فيه:
“نرى أنَّه من الجدير الاستجابة لأماني الأقلية اليهودية في تطوير ثقافتها وشخصيتها في البلاد التي لها فيها تطوّر متين، وأسلوب حياة متميّز. ونحن نقدّم لهم، وعلى استعداد لتقديم دعمنا الخيّر لجهودهم في هذا الاتجاه”. وأعربت الحكومة الألمانية عن ترحيبها “بالإعلان الصادر حديثًا عن الصدر الأعظم طلعت باشا، وبخاصّة الحكومة العثمانية السامية، تماشيًا مع موقفها الودّي من اليهود، والرغبة في تعزيز الاستيطان في فلسطين، بمنحهم هجرة غير مقيدة واستيطان، وفق قدرات البلاد الاستعابية، وإقامة حكم ذاتي وفق قوانين البلاد وحرية تنمية ثقافتهم”.[50] وعلّق لويد جورج (Lloyed George)، رئيس الحكومة البريطانية على التصريح الألماني بالقول: “ليس هناك دليلًا أفضل على قيمة تصريح بلفور … من حقيقة أنَّ ألمانيا دخلت في مفاوضات مع تركيا، في محاولة لتوفير خطّة بديلة من شأنها أنْ تتوجّه إلى الصهيونيين”.[51]
وإلحاقًا بالإعلان، افتتحت الحكومة الألمانية على الفور، وفق سياستها الجديدة، “قسم شؤون اليهود” في وزارة الخارجية بإشراف البروفسور الصهيوني الألماني موريتز سوبرنهايم (Moritz Sobernheim). وحثّت برلين اليهود ومؤيديهم على العمل على إحداث توازن بين ألمانيا و”اللجنة البريطانية الفلسطينية” (British Palestine Committee)، وهي مجموعة من الأشخاص اليهود والعلمانيين داخل الحكومة البريطانية وخارجها، هدفهم تأمين دعم من الرأي العام البريطاني للمشروع الصهيوني في فلسطين.
وفي أيار 1918، تأسّست في برلين، بدعم كامل من الحكومة الألمانية، “اللجنة الألمانية لتجشيع الاستيطان اليهودي في فلسطين”(Deutsches Komitee zur Förderung der jüdischen Palästinasiedlung) ، وتُعرف أيضاً باسم “لجنة فلسطين الألمانية”(Deutsche Pro –Palästina Komitee). ولفتت اللجنة انتباه شخصيات يهودية وألمانية، من كلِّ الأطياف السياسية والأيديولوجية تجمعها قناعة واحدة، بأنَّ خدمة المصالح الألمانية السياسية والاقتصادية والاستراتيجية يكون أفضل بوساطة دعم المشروع الصهيوني في فلسطين. وحدّدت اللجنة هدفها السامي بـ “تعزيز الجهود الصهيونية بخلق وطني يهودي في فلسطين…لأنَّه … ظاهرة ذات أهميّة تاريخية قصوى تحظى بعناية فوق العادة من السياسة الألمانية”. وشدّدت اللجنة على ما “ستجنيه ألمانيا من المكاسب السياسية والاقتصادية والثقافية، وتدعيم مركزها الاستراتيجي المهمّ في الشرق الأوسط، من خلال تعزيز التأييد اليهودي لها حول العالم”.[52] ولمّا كان الأوان قد فات على ألمانيا للاستفادة من الصهيونية، فقد تلاشت المشاريع المشتركة بينهما؛ فقامت حكومة برلين بحلّ تلك اللجنة.
****
المراجع
[1] لا يحتوي الأرشيف السياسي في وزارة الخارجية الألمانية على أي ملفّ يتعلّق مباشرة بموقف ألمانيا من تصريح الوزير البريطاني جيمس بلفور. فتوجد ضمن ملفّات “تركيا”، و”سورية”، و”اليهود في تركيا”، و”الاستيطان في آسيا الصغرى”، و”أرشيف الحرب العالمية الأولى”، معلومات قليلة جدًا عن الخطوات المتدرّجة لألمانيا تجاه المشروع الصهيوني الذي تكلّل بصدور التصريح الألماني مطلع العام 1918. وهذه الملفّات محفوظة تحت المفاتيح الآتية: ” (Politisches Archiv des Auswärtiges Amtes – Berlin).: Türkei, 158, Die Beziehungen zwischen der Türkei und Deutschland;. 195, Die Juden in der Türkei; 175, Die heiligen Stätten; 177, Der Libanon (Syrien); 189, Plan deutscher Ansiedlungen in Kleinasien, 1891 – 1913; 190, Die Beziehungen zwischen der Türkei and Vereinigten Staaten von Nordamerika.
[2] عبد الرؤوف سنّو، المصالح الألمانية في سوريا وفلسطين 1841 – 1901، معهد الأنماء العربي، بيروت، 1987، ص 38 -40.
[3] Isaiah Friedman, Germany, Turkey, and Zionism 1897 – 1918, Oxford, 1977, 128; Abba Eban, Mon people. Histoire du people Juif, traduit de l’Anglais par Max Roth, Paris 1970. 217ff.
ويعالج أبا ايبان مسألة تحرر اليهود في المجتمع الألماني والعقبات التي واجهونها في بروسيا منذ مطلع عصر الملك فريدريك الكبير.
[4] سنّو، المصالح الألمانية، ص 39 -40.
[5] نقلًا عن: R.W. Greaves, ‘The Jerusalem Bishopric, 1841’. English Historical Review, 64 (1949), 328 -52.
[6] Eban, 241.
[7] Joh. Gottlieb Fichte, Beitrag zur Berichtigung der Urleite des Publikums über die französische Revolution, 1. Teil: Zur Beurteilung ihrer Rechtmässigkeit (1793). Beigefügt die Rezension von Friedrich von Gentz, Hrsgg. Von Richard Schottky, Hamburg, 1973, 1973, 115.
[8] نقلًا عن: Eban, 243.
[9] تركي قاسم الزغبي، اليهود وأرض كنعان، دار مؤسّسة رسلان، دمشق – جرمانيا، 2012، ص 244 – 245؛ وقارن بـ: Abba Eban, 226, 263.
[10] Isaiah Friedman, ‘Lord Palmerstone and the Protection of the Jews in Palestine 1839-1851’. Jewish Social Studies, 30 (1968), 29; Albert M. Hyamson (Ed.), The British Consulate in Jerusalem in Relation to the Jews of Palestine (1838 – 1914), 2. Vols., London 1939 and 1941, vol. I, LXVIII – LXXI. وفي العام 1860، تأسّس في باريس “الأليانس” (التحالف الإسرائيلي العالمي) بهدف تقديم المساعدة السياسية والثقافية لليهود أينما وجدوا، وتنمية المجتمعات اليهودية المختلفة عن طريق التعليم والتدريب المهني، من خلال فكرة وحدة اليهود في كلِّ أنحاء العالم. وفي العام 1870، أقامت “الأليانس” أول مدارسها “مكفيه يسرائيل” لتعليم يهود فلسطين الزراعة الحديثة. “الأليانس”. الموسوعة الفلسطينية، 8 أيلول 2013
https://www.palestinapedia.net/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%84%D9%8A%D8%A7%D9%86%D8%B3/
[11] Friedrich Nippold, Christian Carl Josias Freiherr von Bunsen. Aus seinen Briefen und nach eigener Errinerungen geschildert von seiner Wtiwe, vol. II, Leipzig, 1969, 120 f.
[12] نقلًا عن: Kurt Schmidt – Klausen, Vorweggenommene Freiheit. Die Gründung des Bisthms Jerusalem im Jahre 1841, Berlin – Hamburg, 1965, 89.
[13] عبد الرؤوف سنّو، “موقف ألمانيا من مشروعي تدويل القدس وإعادة توطين اليهود في فلسطين. 1840 – 1886)”،
مجلّة تاريخ العرب والعالم، 62/63 (1983-1984)، ص 48 – 66).
[14] Francis R. Nicosia, The Third Reich & the Palestine Question. With a New Introduction by the Author, New Brunswick/London, 2000, 1-2.
[15] Eban, 261ff.
[16] Nicosia, 2. على محافظة، العلاقات الألمانية – الفلسطينية. من إنشاء مطرانية القدس البروتستانتية وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية 1841 – 1945، المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981، ص 143.
[17] Eban, 229f.; 241- 242.
[18] نقلّا عن: محافظة، ص 144.
[19] Nicosia, 2-3.
[20] Giniewski, 136.
[21] Marvin Löwenthal, The Jews of Germany, Philadelphia, 1944, 235-7; Giniewski, 137 -8. Nn
[22] محافظة، 144.
[23] Friedman, 187 -8.
[24] Neville Mandel, ‘Turks, Arabs and Jewish Immigration into Palestine, 1882 – 1914’, Middle Eastern Affairs, St. Anthony Papers, no. 4, 17 (1965), 87.
[25] نقلًا عن: محافظة، ص 147.
[26] نقلًا عن: محافظة، ص 146.
[27] Politisches Archiv des Auswärtiges Amtes – Berlin, Preussen 1, Nr. 1, vol., 7a, Bülow an Wolff, A 12624, Nov. 2, 1898; Das Deutsche Kaiserpaar im Heiligen Lande im Herbst 1898. Nach authentischen Berichten und Akten, Berlin 1899, 287f.
[28] Yisraeli, 143.
[29] Bernhard von Bülow, Denkwürdigkeit, 4 vols., Berlin, 1930. Translated into English (Memories), vol. 2, London, 1931, 250.
[30] Bülow, II, 254.
[31] محافظة، ص 154.
[32] ‘Where Theodor Herzel Met Kaiser Wilhelm II’. Ellis Shuman Writes, March 28, 2014 http://ellisshuman.blogspot.com/2014/03/where-theodor-herzl-met-kaiser-wilhelm.html
[33] David Yisraeli, ‘Germany and Zionism”. Germany and the Middle East 1835 – 1939, International Symposium, April 1975, Institut für Deutsche Geschichte, Tel Aviv 1975, 143.
[34] PAAA, Türkei 195, k 176807, Wangenheim an Ausw, Amt, Therpathia 6.2. 1915.
[35] نقلًا عن:Yisraeli, 144. وقارن بـ: Giniewski, 212.
[36] Giniewski, 212.
[37] Giniewski, 212.
[38] محافظة، ص162 – 164.
[39] Friedman, 290 – 294.
[40] Friedman, 290f.
[41] شفيق الرشيدات، فلسطين تاريخًا … وعبرة … ومصيرًا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991، ص 43 – 48.
[42] Nicosia, 3.
[43] Giniewski, 212-13.
[44] Richard Lichtheim, Rückkehr: Lebenserinnerungen aus der Frühzeit des deutschen Zionismus, Stuttgart, 1970,366f.
[45] Nicosia, 4-5
[46] حول ردود الفعل في الصحافة الألمانية على “وعد بلفور”، راجع: Friedman, 341-2
[47] Friedman, 342 -3.
[48] محافظة، 176.
[49] Friedman, 343.
[50] Quoted from Nicosia, 5.
[51] نقلّا عن: Sami Hadawi, Bitter Harvest. Palestine between 1914 – 1967, New York, Third printing, 1967, 18.
[52] نقلًا عن: Egmont Zechlin, Die deutsche Politik und die Juden im Ersten Weltkrieg, Göttingen, 1969, 434 – 5.
****
(*) أعمال مؤتمر ” وعد بلفور – أبعاد تاريخية وجيوسياسية”
الجمعيّة التاريخية اللبنانية – قسم التاريخ في الجامعة اللبنانية – الفرع الثاني
28 و29 تشرين الثاني 2017