فرح عيسى تطبَع بصماتها الإيجابيّة
على “روح طرابلس” من جديد
(يورابيا ـ بيروت ـ من جمال دملج)
على رغم أنّ عدد الأصوات التي حصلَت عليها الناشطة المدنيّة فرح عيسى في الانتخابات النيابيّة لشهر أيّار (مايو) عام 2018 لم يكن كافيًا لتمكينها من الدخول إلى الندوة البرلمانيّة للجلوس على المقعد الخاصّ بالتمثيل الأرثوذكسيّ عن مدينة طرابلس تحت قبّة مجلس النوّاب في ساحة النجمة، فإنّ تلك النتيجة، وإنْ جاءت في الأساس كتحصيلِ حاصلٍ لتداعيات ما أُشيع وقتذاك عن مالٍ سياسيٍّ سخيٍّ سخَّره هذا الزعيم الطرابلسيّ التقليديّ أو ذاك لشراء ذمم الناخبين، سعيًا إلى ضمان استمراريّة ظروف التحكُّم بمصائر الناس في هذه المدينة المدرَجة منذ عقودٍ طويلةٍ من الزمان في خانة أفقَر المدن المطلَّة على حوض البحر الأبيض المتوسِّط، ولكنّها نتيجةٌ لم تحُل في المحصِّلة النهائيّة دون ظهور المؤشِّر تلو الآخر على أنّ فرح، وهي بالتأكيد اسمٌ على مسمّى، عازمةٌ على المضيّ قُدمًا إلى الأمام في مجال الإصرار على طبْع بصماتها الإيجابيّة فوق جبين الطرابلسيّين كلَّما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، بعيدًا عن أيِّ شكلٍ من أشكال التوظيف المصلحيّ، وهو العزم الذي يتجلّى في هذه الأيّام بسعادةٍ حقيقيّةٍ من خلال قيامها بإطلاق مبادرة “روح طرابلس” في شهر رمضان المبارك داخل صرح “الرابطة الثقافيّة” العريق في عاصمة الشمال اللبنانيّ، بالتنسيق مع زميلها الناشط المدنيّ يحي مولود، وتحت رعاية رئيس الصرح المذكور رامز فرّي، أملًا في تجسيد البُعد الروحانيّ الأصيل على أحسنِ وجهٍ لهذا الطقس الرمضانيّ الجميل.
وإذا كان المبتهِل محمّد الشيخ قد أحيا الأمسية الرمضانيّة الأولى لدى قيامه بتقديمِ مجموعةِ نصوصٍ حديثةٍ وأخرى قديمةٍ لنخبةٍ من الشعراء اللبنانيّين والعرب بأسلوبٍ مبتكَرٍ، حيث رافقه على الوتريّات جاد بَعيون، وعلى الإيقاع محمّد ضاهر، وعلى البيانو حسين جابر، فإنّ ذلك يعني في إطار ما يعنيه أنّ “روح طرابلس” بُعثِت بكافّة تجلّيات أبعادها القيَميّة والتراثيّة من جديدٍ، الأمر الذي أكَّد عليه الناشط مولود عندما شدَّد في كلمته التقديميّة على “أهمّيّة معرفة المعنى الحقيقيّ لفعل الخير في شهر رمضان بعيدًا عن السياسة بشكلها المشوِّه لمعاني الإيمان والقيم الحقيقيّة لشهر رمضان”، تمامًا مثلما أكَّدت عليه الناشطة عيسى عندما عرَّفت في كلمتها الحضور بـ “المعنى الكامن وراء تسمية الأمسيات بمسمّى روح طرابلس مع كلِّ ما يحمله هذا الاسم من بُعدٍ روحانيٍّ لهذا الشهر المبارك”.
لا شكّ في أنّ هذا البُعد الروحانيّ المتأصِّل في فكر فرح عيسى وفي طقوس حياتها اليوميّة لم يكن ليُقدَّر له أن يرتقي إلى ما نشاهده اليوم بأمِّ أعيننا، وبهذه الدرجة الراقية والمتقدِّمة جدًّا على مقاييس السموّ الإنسانيّ، لولا إيمان صاحبته الراسخ بأنّ الإرث الحضاريّ لمدينة طرابلس التي تنتمي إليها، أبًا عن جدٍّ، يستوجب عليها السعي جاهدةً إلى إنعاشه، بعدما قُدِّر للآخرين من غالبيّة مكوِّنات الطبقة السياسيّة المستبِدَّة والمتحكِّمَة بأقدار المدينة السيِّئة وضْع هذا الإرث في حالةِ موتٍ سريريٍّ، وهو الإيمان الذي كان قد حفَّزني في شهر رمضان عام 2017 على كتابة مقالي الأوّل عن فرح عيسى لموقع “لبنان 24” الإخباريّ، قائلًا ما حرفيّته: إذا كان التاريخ قد خصَّ مدينة طرابلس في شمال لبنان باحتضان أوّلِ مجتمعٍ تعدُّديٍّ في حوض البحر الأبيض المتوسِّط إثر تمكُّنها من تأسيس وترسيخ مفاهيم ثقافة العيش معًا بين الصُورِيّين والصَيْدانيّين والأرواديّين قبل آلاف السنين، تمامًا مثلما خصَّتها الجغرافيا ببَرَكةِ التظلُّل بفيِّ أرز الربّ الشامخ عاليًا في السماء، وكذلك بنعمة الارتواء من المياه المتدفِّقة عبْر وادي قاديشا المقدَّس، فإنّ لا غرابة على الإطلاق في أن تُنجِب لنا هذه الـ “تريبوليس” الجميلة، بفرحٍ واعتزازٍ، صَبيّةً جميلةً تأخُذ على عاتقها مسؤوليَّة الإسهام في العمل على إعادة الاعتبار للتاريخ، والرونق للجغرافيا، والروح لآليّات بناء المجتمع اللبنانيّ المتنوِّع والمتكاتِف والمتجانِس والمتكافِل في آنٍ معًا، حيث القوميّة موحِّدةٌ والهويّة موحَّدةٌ، الأمر الذي يتجلّى بوضوحٍ في هذه الأيّام، وبفرحٍ واعتزازٍ أيضًا، من خلال النشاطات الرمضانيّة المبهرة التي ما زالت تجمع بين كافّة أبناء الوطن يومًا بعد يومٍ، من جنوبه إلى شماله، ومن شرقه إلى ساحله، وسط أرجاء خان العسكر التاريخيّ الشهير في طرابلس العتيقة، وهي النشاطات التي يُجمع العارفون بشؤونها وشجونها على الاعتراف بما خلَّفته بصمات فرح عيسى من تمايُزٍ وتألُّقٍ فيها.
هذه الفرح الآتية إلينا “على وقع الكعب العالي”، مرورًا بـ “حديث الكبرياء”، وهما مؤلَّفان مرهَفان من نتاجها الأدبيّ، صدر الأوّل عن “دار النهار” عام 2015 والثاني عن “دار ميرزا” عام 2017، كان لا بدَّ لها من أن تصل تلقائيًّا بخطواتها الثابتة، وبلباقتها المعهودة، إلى المجلس السياحيّ في مدينةٍ كاد يُصبح “التهميش” قدرها المحتوم، لولا قدرةُ القادرِ وحرصُ الحريصين، لتشغُلَ منذ ما يُقاربُ السنةَ (وقتذاك) منصب نائب رئيس المجلس، ولتبدأ على الفور بممارسة مهامّ عملها على أكملِ وجهٍ، ولدرجةِ أنّ لا مناطقَ أو أحياءَ أو مواقعَ أثريّةً في طرابلس، سواءٌ في باب التبّانة أم في الأسواق الشعبيّة أم في شارع الثقافة أم في القلعة أم في مجرى نهر أبو علي، إلّا وسُجِّل لها فيها وقعُ كعبها العالي وحديثُ كبريائها، تمامًا مثلما كان الحال عليه عبْر أثير الفضائيّات المحلّيّة والعربيّة، الأمر الذي سرعان ما أدّى في المحصِّلة النهائيّة إلى ظهور النتائج المنطقيّة المرجوَّة لهذا الجهد الدؤوب، ليس بالضرورة من خلال ما رأيتُه بأمّ عينيَّ في “خان العسكر” وحسب، وإنّما (وهذا هو الأهمّ) من خلال قلب الصورة النمطيّة التي كانت مسيطرةً على أذهان اللبنانيّين وغير اللبنانيّين حول تُهمة علاقة الطرابلسيّين بالأصوليّة والتكفير والإرهاب رأسًا على عقب، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ القاصي والداني يدرك إلى حدّ اليقين أنّ هذه العلاقة لم يكن ليُقدَّر لها الانتعاش، ولو إلى حينٍ، لولا وجود بعض المقاولين المحلِّيّين ممَّن ارتضوا لأنفسهم التحوُّل بين الحين والآخَر إلى مخالبِ قططٍ أو ملاقطِ نارٍ خدمةً لمشاريع الخارج الإقليميّ والدوليّ في الداخل اللبنانيّ.
مقالٌ، وإن كان قد مضى عامان من الزمان على تاريخ نشره، ولكنَّ أهمّيّة استحضاره اليوم تتمثَّل في وجوب التنويه بأنّ فرح المتجدِّدة باستمرارٍ في إطار ثوابتها الوطنيّة والروحانيّة لا تزال تجسِّد الصفحة الأكثر إشراقًا وتألُّقًا في تاريخ لبنان الحديث، وأكاد أجزم بأنّها لن تتنازل عن تلك الثوابت إلى أبد الآبدين… والخير دائمًا في ثوابت المتنوِّرين لمواجهة عبثيّة الظلاميّين في طرابلس وكلِّ لبنان من وراء القصد.