آبَ وعلى منكبيه تسعٌ وتسعونَ من السنين، لم تستطِعْ أن تُضنيَ هامتَه ولا تَحْنيَ قامته. لقد خطّت هذه السنونُ على جبينه سِفرَ حكمةٍ لو أُتيح له أن يُعَاشَ كاملاً في مفاصل الحياة الروحيَّة والاجتماعيَّة والوطنيَّة والعلاقاتية محليًّا ودوليًّا، لكانت معظمُ المشاكل والاشكالات التي اعترضت مسيرةَ السلام والتدبير الحسن، قد حُلَّت بكلفة أقلّ وبأملٍ أكبر.
لقد امتاز هذا البطريريك بالحضور الدائم اليقِظ المتأمِّل الصامت أحيانًا المبادر أحيانًا أخرى. وقد كان حضوره على مختلف الصعد فاعِلاً ومتفاعلاً، وكلُّ هذا الحضور لم يطفِئ فيه شعلة الاتضاع والعيش الزاهد بكل ما يخطف ذهنه عن التأمُّل والصلاة والعزلة المختارة. إنَّه لأنطاكية وسائر المشرق، ولبنان القلب النابض لهذا المدى الجغرافي الواسع، قد استحوذ على الكثير الكثير من اهتمامات الكاهن والأسقف البطريركِ الكردينال.
قلت كان دائم الحضور كنسيًا واجتماعيًا ووطنيًا، وهنا يحضرُني المجمع البطريركي الذي عُقد في سيِّدة الجبل، وكيف كان هذا البطرك الذي ثُقُلَت عليه السنون، حاضرًا منذ لحظة الافتتاح الى ساعة الاقفال، علمًا أن المجمع دام أيَّامًا، وقد كان ثاقب الذّهن، يقرأ كلَّ ما يقدَّم من آراء ودراسات، ويناقش ويصوَّب، وحين يأتي التصويت للموافقة على مقطع ما، أو رفضه، كان صوت البطريريك كصوت أي واحدٍ من أعضاء هذا المجمع، وهي أمثولة في الديمقراطية، آثَرتُ التوقُّفَ عندها.
كما يحضرني وجوده على رأس المحتفلين في كاتدرائية مار جريس في بيروت بعد ترميم ما خلَّفته الحربُ المشؤومة من أضرار جسام في بنية هذه الكاتدرائية ولوحاتها الفنية وآنيتها المقدَّسة، يومها احتفل البطريرك صفير بالقداس وكرَّس المذبح من جديد، كيف لا وهو رأس الكنيسة المحليَّة الحاضر في آلامها وأفراحها، على صورة أسلافه البطاركة العظماء، ومثله البطريرك مار بشاره بطرس الراعي سوف يحتفل في هذه الكاتدرائية عينها، بمئة وخمس وعشرين سنة على بنائها.
وكما كان حضوره مميزًا في الكنيسة المارونية كذلك كان مع الكنائس الشقيقة وبخاصة مع الكنيسة الأرثوذكسية، لَمِا كان يحفظ في قلبه وعقله من مَوّدة للبطريرك هزيم وقد جمعتهما أفكارٌ عديدة، خاصة في ما يتعلق بالدول ضمن الدائرة الأنطاكية، فاتفقا على أن لكلِّ دولة خصوصيَّتَها ويجب أن تحترمَ هذه الدول خصوصيَّة بعضها البعض.
وكما كان البطريرك صفير حاضرًا كنسيًا كان كذلك وطنيًا، كيف لا ونحن في وطنٍ ذي تركيبة تيوقراطية، شئنا ذلك أم لم نشأ، وشريكنا في المواطنة لا يفصل الدين عن الدولة، ونحن مثله بتنا نحمل هموم الوطن معًا ونحلمُ بمستقبله الخيِّر معًا ونحاولُ جاهدين أن نبنيَ السلامَ معًا، وهكذا كان البطريرك صفير لا يحيدُ عن ثوابته الوطنية وهي: نهائيَّة الكيان اللبناني وطنًا لجميع أبنائه، والحرِّيَّة في جميع أوجهها خبزُه وماؤه، والديمقراطيَّة الحقيقيَّة نظامُه والمساواةُ بين أبنائه أمام القانون طريقُهُ للسلام والتآخي والازدهار. وقد قال ما قاله في هذه الأمور هنا في لبنان وفي المحافل الدولية وأمام بعض الحكَّام العرب، طالبًا الى الجميع احترام خصوصيَّة لبنان التي تمتاز بالتآخي بين اتباع الديانات، لأن الأخوَّة الإنسانية هي أساس العلاقات بين البشر، ولم تأتِ الديانات أبدًا لتهدمَ هذه الأخوَّة بل جاءت لتثبِّتها وتقوِّيها.
على هذه المبادىء عاش وتركها بين أيدي سلفه الراعي المنشود يحملُ المشعلَ ويمشي.