في زمنِ التحوُّلاتِ الكُبْرى، يشعرُ المتأَمِّلُ وكأَنَّ أُسُسَ السُّلوكِ المُجْتمعيِّ تتخَلْخَلُ أَو تتبدَّلُ أَو تُهْمَلُ أَو تُرْفض.
وأكثر ما يظهر كلّ هذا في ثقافةِ التجدُّد أَو الثَّوْرة على كلِّ ما هو مَوْروث وآتٍ منَ التَّقاليدِ والعاداتِ والديانات، وأَخطر ما في الأَمر هو رَفْضُ المؤَسَّسات القائِمةِ عَبْرَ العصور، كالعائلةِ والدِّين والزَّواج وكلِّ ما يقوم على القِيَمِ والفضائِل والأَعْراف، والتي كانَ لها وما زال، دورٌ تنظيميٌّ مَتين، يضبطُ السُّلوكَ المجتمعيَّ للأَفراد والجماعات، فيُبعدُها عن التَّهوُّرِ والشُّرودِ والتفلُّتِ من كلِّ قَيْد، وبالتَّالي الضَّياع أَو فقْدان التَّوازُن وقَطْع العلاقات مع الآخرين إِلَّا عَبْر المؤقَّت والعابِر والمصلحة الضَّيِّقة، ممَّا يؤَدِّي إلى جَعْلِ المُجتمعِ تراكمَ أَفراد لا يربطُ بَيْنَها إلَّا عقودٌ وإتفاقيَّات، يمكن نَقْضُها ساعةَ يشاءُ عاقِدوها، ليعقدوا اتِّفقاتٍ أُخْرى، قد تكونُ مناقِضةً لِمَا سَبَقَها أَو مختلفة عَنْها تمامَ الاختلاف. وكأَنَّ العقدَ القائِمَ على الحريَّةِ الفرديَّةِ المُطْلَقَة، والمنطقِ الشَّخصيِّ المَحْض، أَي القناعة بأَمرٍ معيَّن مقطوع عن كلِّ الروابط الأُخْرى، كافِيان لضَبْطِ سُلوكِ النَّاسِ وعدم وُقوعِهِم في المَهالِكِ أَو فقْدانِ هويَّتِهِم بكَثْرةِ الخياراتِ التي تَصْدُمُ كلَّ يوْمٍ أَعْينَهم وأَذهانَهم وبالتَّالي قراراتِهم.
في هذا المناخِ الضَّبابيِّ المُغْري والمُخيف، تساءَلْتُ حَوْلَ انْتظاراتِ الشَّبابِ وعَلامَ يرتكزون في قراراتِهِم وفي علاقاتِهِم القريبةِ والبعيدةِ مع الأَفراد والجماعات والمؤَسَّسات، إِذا ما كان لهذه وُجود، على لائِحةِ المَدْعوِّين إلى حفلاتِ عقولِهِم وقلوبِهِم وارْتباطاتِهِم. أَعرفُ أَنَّه منَ البديهيِّ أَنْ نقتنعَ بالتَّحوُّلِ الحاصِلِ وبالتَّغيُّراتِ الكبيرةِ على الصَّعيدِ الفَرْديِّ والعالمي، فالزَّمنُ يسيرُ ربَّما إلى الأَمام، والتَّاريخُ لم يعُدْ يقدرُ أَنْ يُعيدَ ذاتَه في أُمورٍ كثيرة، ولكنَّ الشَّبابَ يبحثون وبشكلٍ مستمرٍّ عن مرتكزاتٍ تساعدُهم على الاستقرارِ الفكريِّ والعمليِّ وهم يتساءَلون:
هل نكتفي بتعاليمِ الدِّين؟ هل نرضخُ مَجْبورين لِمَا يقولُه الآخَرون؟ هل العَيْبُ ما زال يحملُ نَفْسَ المَفْهوم، هل وهل وهل …؟
أُصِبتُ بِمَا يُشبهُ الشُّرودَ وألتأَمُّلَ وكأَنَّني في حلم، أَنظرُ إلى الغدِ المتقلِّبِ وإلى الماضي، فلا أَستطيعُ أَنْ أَجزمَ إذا كانتْ أَزماتُ الأَمْسِ أَقلَّ خطورةٍ منْ أَزماتِ اليَوْم.
نعرفُ أنَّنا في زمنٍ لمْ يعُدْ فيه الإكْراهُ مقبولًا، والأَوامرُ أَصبحتْ بلا مَعْنى، لعلَّ الطَّريقَ الأَسْلَمَ هو جعلُ الآخَر يهتمُّ بِمَا تقترحُ عليه، أَو بالأَحْرى تجعلُه يجدُ في ما تقول، ما كان يبحثُ عنه ولم يَجِدْه. بكلامٍ آخَر، لا يريدُ الشَّبابُ أَنْ «ينفِّذوا» بل أنْ يَخْتبروا، وأَنْ يعيشوا. هم لا يحبُّونَ الفراغَ ولا الضَّياعَ ولكن ما يُقْلِقُهم ربَّما لم يكُنْ يُقْلِقُ الَّذين سَبَقوهُم منذ مِئَةِ سنة، ربَّما هناك طُرُقٌ كثيرةٌ غير التي اكْتشفَها الآخَرون لهم، يُريدونَ أَنْ يُحاوِلوا لَعَلَّهُم يَصِلُون إلى أَمْرٍ صالح. يَكْفي أَنْ نُعْطِيَهم القِنْديلَ ونَدَعَهم يسيرون ولَوْ في الظَّلام، ولكن أَنْ نُمْسِكَ أَيديَهم طوالَ عُمْرِهم فأَمْرٌ ليس بمَرْغوبٍ فيه.
يُريدونَ القنديلَ ليستطيعوا أَنْ يَحكموا أَينَ الحقُّ وأَين الباطِل، أَيْنَ المُمْكِن وأَيْنَ المقبول وأَيْنَ الجيِّد وما هو المَرْفوض. يُريدونَ الميزانَ الذي يساعدُ نظرَهُم وعقْلَهُم على ضَبْطِ الأَحكامِ وبالتَّالي تحديد السُّلوك. فالحياةُ قاسِيَةٌ على منَ يُريدُ أَنْ يفعلَ الأَمْرَ الجَيِّدَ ولا يعرفُ كَيْف.
هل تستطيعُ الفَضائِلُ أَنْ تُعْطِيَهُم مَعْنًى للحياةِ وتقولُ لهم إلى أَيْنَ يَسيرون ونَحْوَ أَيِّ تحوُّل يتَّجهُ المُجْتمع، ولماذا أُحبُّ ولماذا أَرْفضُ ولماذا لم تَعُدْ تقبل أَحْلامهم بثيابٍ مُفَصَّلة على مَقاسِ غَيْرِهم؟ ناهيكَ عن الأَسْئِلةِ الكُبْرى التي تُقلِقُ العقولَ وتُرْهِبُ القلوبَ وتضعُ علاماتِ اسْتفهامٍ على أَعْيُنِ النَّاس، وتجعلُ كثيرين يقلبونَ شفَّتَهم ويهزّونَ رؤُوسَهم وكأَنَّ كلمةَ «الله أَعْلَم» هي المَهْرَب الوحيد.
بكلامٍ آخَر، يُحبُّونَ أَنْ يَخْتاروا ما يجْعلُهم يتمتَّعونَ بالوُجودِ من دونِ أَنْ يتعارضَ خَيارُهم مع نواميسِ الحياةِ وغايَتِها القُصْوى. ويمكنُ لهذا أَنْ يكون، إذا أَعَدْنا للفضيلَةِ نضارَتَها وأَوَّنَّاها، وزرَعْنا في وقارِ الحكمةِ بعضًا من الاندفاع، وجعَلْنا الكِبَرَ وعزَّةَ النَّفْسِ رغبةً وحلمًا. عند ذلك، يُمْكنُ أَنْ يشعروا بفرحِ الشَّبابِ ويعيشوا الحياةَ من دون خطرِ الغَرَقِ في الضَّياعِ وعدَمِ قُبولِ التَّجْرِبة الإِنْسانيَّة الطَّويلة، وحينَها يعودون إلى نقطةِ الإنطلاق: «في البَدْءِ كانتِ المَحَبَّة».