بشير جرجس طنوس
إذا كان للهزيعِ المنقضِّ على الغمامِ المتبَدِّد قمرٌ، فإنَّ للنفوسِ المتعثّرة في سَدَفها موسيقى ريَّانة عذبة، متشرِّبة من ذريْراتِ الإحساس، تُشنِّفُ بملامسِها الآذان، وتفتِّقُ أزرار الوجدان.
العدمُ بالموسيقى وجود، والوجودُ حياة، والحياة إنسانيّة. فيها تتبرعَمُ الروحُ إجذالاً، ويتلألأُ العقلُ خيالاً، وينتقلُ الأصلُ إلى الفرعِ من أساساتٍ لاترابيَّة، لم يفكَّ طلسمَها متأمِّلٌ من ذي قبلُ!
يقول جبرا إبراهيم جبرا: “ما عاشرْتُ فنًّا، على الرغم من حبّي للفنون كلِّها، بقدر ما عاشرْتُ الموسيقى، لأنَّها حالة الإبداع المثلى لا بدّ منها غذاءً كالخبز كلّ يوم…”
فالموسيقى كعباب ماءٍ صافٍ حفر مجراهُ في الرِّمال المضرمة من الحرّ، تخطّه خيوط الشمس المذهَّبة الذائبة في اشتعالِها، لترتشفَ منها النفسُ الظامئة من صدئها وتغسل الروح من رَمْضائها بكوّة من الآمال. هكذا هي الموسيقى حبرٌ أزرقُ بلَل بريقُه الورق، وحبرٌ أحمرُ يسري في العروق، ينضحُ فوقَ الجلد، كالخمرِ من خوابي الزمن.
يقول الناقد “والتر بيتر”: “الفنون كلّها تطمحُ إلى حالة الموسيقى”، ما يؤكِّد أنَّ الموسيقى هي أرقى الفنون، وأكثرها قدرةً على تجسيد الإبداع. فهي وسيلةٌ لصون تفاعُل الإنسان مع محيطِه الكونيّ. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ هذا التفاعُل بين ما هو إنسانيّ وما هو كونيّ، قد يولِّدُ حالةً من الخلل تترجَمُ بتصرُّفاتٍ غريبةٍ، لا يفهمها الإنسان وتسبِّب له الإزعاج. تقول “ساميا ساندري” إذا تعدَّى الرنينُ قدرة طاقة الإنسان، تحوَّل، بالنسبة إليه، إلى أجسام إضافيّة، فيصبح حينئذٍ التعبيرُ عن الصوت الداخليّ مشوَّهًا”.
هذا ما لم يكن سعيد عقل بعيدًا عنه بربطه التشظّيات الإبداعيَّة بالموسيقى المترقرقة بين التبصُّر والسكينة، فهي تُسكِرُنا بسجُوِّها، ببسيطِها ونشيدِها،وتحدونا إلى عالمٍ ليسَ له نديدٌ، لا يعرف القنوط. فالموسيقى تجول في هواجس (العقل) الماورائية البعيدة عن التهاويلِ الزائفة في الواقع الكالح، ليطأَ النجوم المبحرة في بحر سماء الكلمة، لنرسو على برّ الهُيام.
لذا، فالشعرُ والموسيقى مرآةٌ وانعكاساتُها، فالفكرة والكلمة والإيقاع تكوِّن الأقانيم الثلاثة لقصيدةٍ صُقِلَتْ بالذهب، وعُلِّقَتْ قلادةً في جيد الزمن، كلّما عزف العمرُ زفراتٍ على آه الكلِم، تصاعدتْ حَرّةً من النفس المغناج “كالزنبق الفرنِ” على حدّ تعبير سعيد عقل.
ليس من العسير أن نجمع القواسم المشتركة بين آراء ساندري وجبرا وعقل، فإذا أنعمْنا النظر، يتراءى لنا ما يتقاسمونه من مواقف متجانسة. فعند جبرا، نرى أنَّ الموسيقى هي ذلك الفنّ الخالص الذي يرفع من استجابةِ النفس، ويغلِّفُها بالطهر ويُسمّدُها بالتقوى، فهي تُعبِّدُ طريقَ الإيجابيَّة؛ والإيجابيّةُ شرط الفرح، والفرحُ شرط الإيمان. هكذا صوَّرت ساميا ساندري الموسيقى، وربطتْها بالترانيم السريانيّة والتراتيل البزنطية، والأناشيد الإسلاميّة، فيُدوِّي صوتُ العُبَّاد في السماء، ويلين صوت المعبود على الأرض.
نلمسُ الموسيقى في المقدَّسات عند سعيد عقل كذلك، إذ يقرِّبُها “لوجه الله إذا ما دُنيَ”. وقد تناول المفكّرون زمرة ما تطبعه الموسيقى في نفس سامعها.
هذا الفنّ الرفيع هو جسر عبور يدلفُ إليه التوّاق إلى حياة الحبور والسكينة. من هنا اقتران الموسيقى بالمحبَّة والتفاهم، إذ إنها تهذِّب النفس وتغذّي الروح، وتبلسمُ جراحاتٍ لا تندمل، وتنتشل الضغينة من نفوس البشر، وتقتلع أشواك النفس المشنَّجة، لأنها تريح الرمق المتعب، وتروّي الظمأ المفرط، فيغدو العداء وئامًا، والتآسي تآخيًا، حيث يتّحد الجسد بالروح، كما تتّحد الطبيعة بحكمة الخالق.
لا يبقى من الكلام على الموسيقى إلا القليل، فهي نتاجُ فنٍّ خالد خلودَ الكون، يضفي نغمًا على الجماد الماديّ فيحييه. وبالموسيقى يستيقظ الوجدان من هجعته، وتنهض الذكريات من مكامنها، بها يسيلُ الحبر خطوطًا، ومن زادها تأكل الآذان، ومن نبض إيقاعاتها تخفق القلوب، ويخصب الخيال من سهول خضاراتها.
أيتها الموسيقى المتبصِّرة في رحم الوجود، زوري كياني، واملأي وجداني بعذب ألحانك، تغلغلي قدر ما استطعتِ، فنفسي تتوق إلى همسكِ وانسجامك، مرِّغي عقلي بالأفكار النضرة، واقبضي على وترِ عمري المنساب من أنامل السنين، كانسياب الماء من بين جفنات المدى! بشير طنوس
عفصديق- الكورة