يُحيِي أبناءُ الكنيسة حَدَث الجُمعة العظيمة، بالإحتفال اللِّيتورجيّ المُقدَّس، بأبعاده اللاهوتيّة والرُّوحيّة والإنسانيّة.
يطبع هذا الحَدَث المجيد المسيرة الخلاصيّة، الَّتي قادها الرَّبّ يسوع، والَّتي قادتهُ نحو الصَّلب على الصَّليب، “وأنا إذا رُفِعتُ عن الأرض جذَبتُ إليَّ النَّاس أجمعين؛ قال ذلك مُشيرًا إلى الميتة الَّتي سيموتها” (يو 12: 32-33).
يدعونا هذا الحَدَث العظيم، يوم الجُمعة العظيمة، إلى العودة إلى الذَّات، والرَّهبة أمام آلام السيّد المسيح وموته على الصَّليب، كفّارةً عن خطايانا ومعاصينا وأمراضنا وأوجاعنا و”رذائلنا” المتنوّعة والكثيرة. ألا تحمِلُنا “حالة” المسيح، أيّ عذابه وموته، إلى الصَّمت والتَّأمّل والصَّلاة، والنَّدم، والشُّعور بالذَّنب، وتحضير أنفسنا لملاقاة الرَّبّ عندما يدعونا إلى الحساب؟
نعم، يحثُّنا موت الرَّبّ يسوع، على ذَرف الدُّموع على مسيرتنا الإيمانيّة والإنسانيّة المجبولة بكلّ أنواع النقائص والعادات السيّئة والأفكار الشِّريرة. نعم، يحُّثنا موت الرَّبّ يسوع، على الندامة الصَّادقة والتَّوبة العميقة، والتَّعويض الظاهر، المُعبَّر عنه بالمحبّة الأخوية وعمل الرَّحمة والتَّسامح والإبتعاد عن كلّ أنواع الشُّرور. أعطانا الآب الخالق، بموت إبنه على الصَّليب، رحمته وغفرانه وسلامه تعبيرًا عن حبّه للإنسان، بالرُّغم من تشويهه صورة الخَلق والخالِق. “هوَّذا حملُ الله الَّذي يرفع خطيئة العالم” (يو 1: 29).
نعم، يحثُّنا موت الرَّبّ يسوع، على فتح أعيننا لنرى قُدرة الله الخلاصيّة، ولنؤمن به إيمانًا عميقًا، كما عبَّر عن ذلك قائد المِئة، “كان هذا الرَّجل إبن الله حقًّا” (مر 15: 39).
يذكّرنا يوم الجُمعة العظيمة، أنّ المسيح مات ليُعطينا الحياة. أَلَم يأخذ موتنا ليُعطينا حياته؟ أَوَلَيسَ “بموته” تعبير عن حبّه الكبير لنا؟ أَلَم يهبنا القُدرة على بذل الذَّات والحبّ الكامل والمجّاني والفادي؟ مات مَلِكُ المجد والمُخلّص يوم الجُمعة، لكنّه انتصر على الموت بالموت، وقام من بين الأموات. هل نؤمن أنّ الموت مع المسيح ليس النهاية، بل هو البداية، أو هو استمرارٌ لعلاقة الحبّ معه، الَّتي لا تنتهي، بل تقودنا إلى معاينة وجه الله و”العيش” معه في البيت الإلهيّ. الموت هو بوّابة عبور نحو الحياة، “يا أبتِ في يدَيكَ أستودعُ روحي” (لو 23: 46).
نؤكّد معًا، في يوم الجُمعة العظيمة، أنّ ابن الله دفعَ فوق الصَّليب، ثمن حريّتنا، وردَّ الإعتبار لإنسانيّتنا وبشريّتنا الحزينة والمُتألّمة والمجروحة والمُشوَّهة. كما مزَّق صكّ عبوديّتنا. لقد جعلنا أحرارًا.
نعم، مات الله في قلوب النَّاس الَّتي امتلكت عليها الرذيلة والشَّر والضَّغينة، والَّتي ترفض الرَّحمة والتَّعاضد والتَّضامن. نعم، مات الله في ضمائر بعض النَّاس، الَّتي لا تعرف قيمة القِيَم والمبادئ، في مسيرة الحياة الإنسانيّة، ولا ثمارها للأسف.
زِدنا إيمانًا أيّها المَصلوب، كي نحوِّل الأَلَم واليأس والخوف والغُربة والإحباط والخِلافات وكلّ ما يُعيق مسيرة الإنسان الخلاصيّة، إلى واحةِ سلامٍ وأمانٍ وفرحٍ وتفانٍ. نشكركَ لأنَّكَ أَعطيتنا أن نفهم الأَلَم ونواجهه بآلام إبنكَ. نشكركَ لأنَّكَ تتألَّم معنا ومن أجلِنا. إقبَل صليبنا وباركه وقدِّسه.
أَلَم يحِن الوقت كي نصمُت ونسجد ونتأمّل؟
“نسجد لكَ أيّها المسيح ونبارِكُكَ، لأنَّكَ بصليبِكَ المُقدَّس خلَّصتَ العالم”.