كلُّنا نذكرُ حكايةَ الذِّئْبِ والحَمَلِ التي جاءَتْنا على لسانِ الشَّاعرِ الفرنسيِّ لافونْتين، والتي خَتَمَها بِعِبْرَةٍ تقولُ «إِنَّ حجَّةَ القويِّ هي دائِمًا الفُضْلى»، ولمْ نكنْ نرْضى عنْ هذه الخاتمةِ المأْساويَّةِ لأَنَّنا نرى فيها الظُّلْمَ والقَهْرَ، ونرى البريءَ فريسةَ القويِّ المُذْنب، والمُسالِمَ الوديعَ ضحيَّةَ نزواتِ الغادرِ وأَطْماعِه. هذا صحيح، ولكنَّنا ما زِلْنا نرى اليَوْمَ المجتمعَ البشريَّ يمجِّدُ القويَّ وينتصرُ له.
في السِّياسةِ يتراكضُ النَّاسُ لمرضاةِ الأَقْوى، وفي الرِّياضةِ يُصَفّقون للغالِبِ الأَقْوى، وكذلك على مقاعدِ الدِّراسةِ نَسْتحسِنُ الأَقْوى ونزيّنُ لَوْحاتِ الشَّرفِ بصورتِه، كلُّ هذا دَفَعَ الكثيرينَ إلى عَزْلِ الضُّعفاءِ وتَهْميشِهِم وعدمِ الإكْتراثِ إلى آرائِهِم، واعْتِبارِهِم فِئَةً لا قيمةَ لها في المجتمعاتِ المُخْمليَّة، وكذلك في أَوْساطِ المالِ والأَعْمال، حتَّى كادَ الأَقْوياءُ يَحْتلُّون كلَّ السَّاحاتِ والمَنابر، ويعتبرون أَنْفسَهم منْ طينةٍ تختلِفُ عن تلك التي جُبِلَ منها الضُّعفاء، وباتَ المفكِّرون يدْعمونَ هذه الحالةَ بآرائِهِم وأَفْكارِهم التي تتحدَّثُ عنْ حُبِّ البقاءِ والصّراعِ من أَجْلِه، وعنْ أَنَّ الطَّبيعةَ تميلُ إلى الأَقْوى، مُسْتَشْهِدينَ على كلامِهِم بعالَمِ النَّباتِ وعالَمِ الحيوان حيْثُ الأُمُّ تحاول أَنْ تحتفظَ من بين جرائِها بالأَقْوى وتَرْمي الضَّعيفَ بعيدًا يُصارعُ القَدَرَ ثمَّ يموتُ أَو تفترسُهُ حيواناتٌ أَقْوى منه.
هذه هي الحالُ اليَوْم، وما يدْعو إلى القلق، هو عَدَمُ الاكتراثِ للقِيَمِ والفضائِلِ التي إنْ شاركتِ القوّةُ وجْهَتها نَحْوَ الخيْر، وإنْ غابتْ عنها مالَتْ بها نَحْوَ المساوِئ والمظالِم، فلا يجدُ معها مَنْ يحتاجُ إلى حمايةِ مَنْ يَحميه ولا مَنْ يحتاجُ إلى عنايَةِ مَنْ يَعْتني به، فيَسودُ مَنْطقُ الغاب، إنْ كان لواقعِ الغاباتِ منْ منطق.
وإذا عُدْنا إلى عالَمِ البَشرِ لنَقْرأَ ونتأَمَّلَ وننظرَ ونعتبر، يتبادرُ إلى ذِهْنِنا، أَوَّل ما يتبادرُ، سؤالٌ هو: ماذا يحلُّ بالمجتمعِ لوْ كانَ الأَقوياءُ على خطأ، وانقلبتْ عِبْرةُ لافونْتين، منْ: حجَّة الأَقْوى هي دائِمًا الفُضْلى، إلى: حجَّة الأَقْوى هي دائِمًا الأَكثر ظلْمًا وأَقبح شرًّا، وأَسْوأ وقْعًا، وأَعطل نتيجة؟ أَوَلَيْسَ هذا ما يحصلُ اليوم في المجتمعِ الدَّوْليِّ الأَوْسع؟ أَلا نرى أَنَّ الدُّولَ الأَقْوى تتلاعبُ بمصائِرِ الشُّعوبِ الضَّعيفة، فتسرق خيراتِهم، وتحتلُّ أَراضيهِم وتدفعُهم إلى قتالِ بعضِهِم البَعْض، فتؤدِّيَ بهم إلى المَوْتِ والفقْرِ والعَوَز؟ أَلا نرى أَنَّ أَقْوياءَ العالَمِ يتنافَسونَ على مَغانِمَ ليستْ لهم أَصلًا؟ وإنْ أَدَّتْ بهِمِ الأَحداثُ إلى الاقتتال، أَلا نراهُم يتقاتلونَ على أَرْضِ الشُّعوبِ الصَّغيرةِ كي لا تُصابَ بلدانُهم بالدَّمارِ والأَذيَّة؟
أَجل، حينَ تنقلبُ معادلةُ لافونْتين وتصبحُ حجَّةُ القويِّ هي الأَسوأ، ولا نرى عند الشُّعوبِ يقظةً تردعُهم عن الاقْتتالِ في ما بَيْنَهم تأْمينًا لمصالحِ الأَقْوياء، ولا نرى وَعْيًا وطنيًّا يدفعُهم إلى التَّضامُنِ في سبيلِ خَيْرِ بلدانِهِم، ولا نرى حِسًّا مشتركًا بين شرائِحِ مجتمعِ هذه الدُّوَلِ المَغلوبِ على أَمْرِها، يحْملُهُم على رَفْضِ الاسْتزلامِ للأَقْوياء، فيُدركون أَنَّ لا أَحَدَ في هذا العالَمِ القوي، يَسْعَى إلى خَيْرِ الشُّعوب، مُسْقِطًا منْ حسابِهِ مَصالحَه القَوْمِيَّة، وأَنَّ الأَهدافَ المُضْمَرَة تصبُّ كلُّها في خزائِنِ الأَقْوياء، مُعتمِدينَ، منْ أَجْلِ تحقيقِ مآربِهِم، لا على قوَّتِهِمِ الذَّاتيَّة، وإنْ كانتْ مَوْجودة، بلْ على غَباءِ الشُّعوبِ وسَذاجَةِ حكَّامِهِم وجَشَعِهِم وتشبُّثِهِم بالسُّلْطةِ النَّفْعِيَّة، ولو على حسابِ كراماتِ النَّاسِ وعزَّةِ نُفوسِهِم.
حينَ نَرَى كلَّ هذا التَّخلُّف، نعودُ إلى لافونْتين معترفينَ له بصوابيَّةِ اسْتنتاجِه، ولكنَّ هذا الاسْتنتاجَ يصحُّ على الشُّعوبِ المتخلِّفةِ عَقْلاً وثقافةً ونظرةً مستقبليَّةً تنهضُ بأَوْطانِهِم، ولا تصحُّ أَبدًا على الحَمَلِ المسْكينِ الذي حاوَلَ أَنْ يظهرَ للذِّئْبِ خطأَ نظرِيَّتِه، بَيْنَما الشُّعوبُ المُظْلمةُ العقولِ تحاوِلُ دَوْمًا، إنْ كانَ لها القُدْرةُ على المُحاوَلة، أَنْ تدعمَ رأْيَ القَوِيِّ ولَوْ على حِسابِ بَقائِها وحرِّيَّتِها وعَيْشِها اللَّائِقِ بالبَشَر.