…استراح السيد المدير العام، ليأخذ ما تبقي له من الوقت لكي يعطينا وجهه ..مبتسما، تاركا غضبه خلف أبواب المصنع الذي تربع على كرسيه أكثر من أربعين سنة.
حركاته متثاقلة، بثلاثة أرجل ملتوية، كأعجاز نخل خاوية. لا يتحمل عكازه ثقل جسمه المملوء، يمشي مثل رجل آلي. هل تذكر كيف كان صارماً مع عماله، غير مستمع لنصائح مسير أشغاله الذي كان مرنا، متسامحا معهم؟.
ما أبعد الحديقة العامة التي تتوسط المدينة. لا أحد يريد مساعدته ليخذه إلى هناك، ولا هو يريد مساعدة من أحد.
-لماذا يقسو على نفسه هكذا، كم خسر حب عماله بهذه الكبرياء المصطنعة، لم يخش أن يخسر ذاته أيضا وهو لا يريد أن يستمع لنفسه.
الشوارع مختنقة بالمارة، كل نظراتهم نحوه؛ الرجل الذي كان يحضن مصنعه بقوة و يمتزج نفَسُه مع المحركات ، يجوب بسيارته العملاقة شوارع الفقراء.
-أنظر هذا الذي طردك من المصنع حين امتنعت عن عمل ساعات إضافية لزيادة الإنتاج.
-آه.. صحيح.. إنه هو.. سبحان مغير الأحوال..ترى هل سيعرفني لو ناديته..ههه..هه..
-إنه هو..إنه هو..هه ..ههه..لقد أصبح بعكاز..
وأخيرا..وصل إلى الحديقة، بقي واقفا، لا تبدو عليه ملامح التعب، ينظر إلى السماء؛ الجو رائع، تكاد الشمس أن تلتهم السحب الهاربة !
سيدة تطيل النظر إلى وجهه المملوء و هو يحاول أن يتجاهلها. تكاد تصرخ ليسمعها العالم.
-لا ليس هو، هذا رجل سمين وذاك الذي هجم عليّ في المصنع ذات مساء..رقيق، وسيم ..كنت أريد أن أنظف أماكن عفنه وهو يريد أن يرمي عليَّ عفنا آخر..الحقير.
انصرفت، تلتفت في كل خطوة تخطوها، يراودها الشك ، وهي تحت شمس اليقين..تبحث عن ركن من شارع تبيع فيه ما بقي لها من ملابس قديمة لتطعم بناتها الماكثات في بيتهن القصديري.
هل تذكر تلك اللحظة التي تقمص فيها دور حيوان مفترس، يريد أن يلتهم كل شيء؟ !.
في لحظة شرود، اقترب منه شيخ طاعن في السن، وضرب بعصاه كتفه برفق وسأله بصوت مبحوح:
-هل أنت السيد (حسن) الذي كان مديرا لمصنع الإسمنت؟
دخل معه في حديث طويل، تجمع الناس حولهما ليعرفوا ما الذي يجري، من سوء حظه جل الذين يحيطون به كانوا من عمال المصنع و قد لحقت بهم تاجرة الألبسة البالية؛ رموه بكلام بذيء بعدما أشبعوه ضربا دون أن يسمعهم أو يحس لضربهم المبرح..
كان تمثلا عملاقا من إسمنت وحديد، يتوسط الحديقة الكبيرة، يقصدها كل سكان المدينة، يخلد رجلا (ملأها رحمة وعدلا.. !!)..اختلف في شأنه المؤرخون..